بقلم: أرونداتي روي*
خطابها الذي القته في سان فرنسيسكو بكاليفورنيا في 16/8/2004
ترجمة بثينة الناصري
عندما تذبح اللغة وتنزف معانيها ، كيف يمكن ان نفهم "قوة الجماهير" ؟ اذا كانت الحرية تعني الاحتلال والديمقراطية تعني رأسمالية الليبرالية الجديدة و الاصلاح يعني القمع ، وعندما تسري في جسدك قشعريرة لدى سماعك كلمات مثل "تمكين" و"حفظ السلام" – لماذا اذن يمكن ان يعني مصطلح "قوة الجماهير" ماتريده ان يعنيه . لهذا كله سوف اعرف " قوة الجماهير" من خلال هذه المقالة باسلوب "اخدم نفسك" الذي اجيده.
في الهند اصبحت كلمة (بابلك - جماهير) كلمة هندية . وهي تعني الشعب. في اللغة الهندية لدينا ساركار وبابلك : الحكومة والشعب . ويتضمن هذا الاستخدام للكلمتين الافتراض ان الحكومة والشعب منفصلان . ويعود هذا التمييز الى نضال الهند في سبيل التحرر الذي لم يكن - رغم عظمته - ثوريا . لقد انزلقت الصفوة الهندية بيسر واناقة في احذية المستعمرين البريطانيين . واصبح المجتمع المدقع والاقطاعي دولة مستقلة حديثة. و حتى يومنا هذا ، وبعد خمسة وسبعين عاما من الاستقلال ، مازالت تنظر الطبقات المسحوقة الى الحكومة باعتبارها الراعي والمعيل. اما الاكثر تطرفا ، اولئك الذين مازالت بطونهم تفور نارا ، فهم ينظرون الى الحكومة باعتبارها لصا وناهبا لكل شيء .
وفي كل الحالات ، يعتبر معظم الهنود السركار منفصلا عن البابلك. وعلى اية حال ، كلما صعدت في السلم الاجتماعي الهندي ، يغيم الفرق بين الحكومة والشعب . فإن الصفوة الهندية مثل اية صفوة في أي مكان في العالم ، تجد انه من الصعوبة عليها فصل ذاتها عن الحكومة . فهي ترى مثل الحكومة وتفكر مثل الحكومة وتتحدث مثل الحكومة.
في الولايات المتحدة ، من جانب آخر ، تغلغل الضباب الذي يحيط السركار والشعب في اعمق اعماق المجتمع. وهذا قد يكون علامة على حيوية الديمقراطية ولكن لسوء الحظ ان الامر اكثر تعقيدا واقل جمالا من ذلك . فمن بين اشياء اخرى ، للامر علاقة بالشبكة المعقدة للبارانويا التي خلقتها حكومة الولايات المتحدة ونسجتها مؤسسات الاعلام وهوليوود. لقد استغل الامريكيون العاديون لدفعهم الى التصور انهم شعب تحت الحصار وملاذهم وحاميهم الوحيد هو الحكومة . فإذا لم يكن الخطر من الشيوعيين فهو من القاعدة ، واذا لم تكن كوبا فهي نيكاراغوا . نتيجة لذلك ، فإن اقوى امة في العالم – بترسانتها المتفوقة من الاسلحة وتاريخها في شن ورعاية حروب لانهاية لها ، والامة الوحيدة في التاريخ التي استخدمت فعلا القنابل النووية – يسكنها مواطنون يتلبسهم الرعب من ظلالهم . شعب يرتبط بالدولة لا بسبب الخدمات الاجتماعية او الرعاية الصحية او ضمانات العاطلين وانما بسبب الخوف.
ويستغل هذا الخوف المصنوع من اجل الحصول على موافقة الشعب لارتكاب اعمال العدوان . وهكذا يستمر الحال ، هستريا لولبية تضبط الحكومة الامريكية رسميا درجاتها بانذاراتها الملونة المدهشة : الفوشيا والتركواز والوردي المدخن .
بالنسبة للمراقب الخارجي ، فإن هذا الاندماج بين السركار والشعب في الولايات المتحدة يجعل من الصعب فصل افعال حكومة الولايات المتحدة عن الشعب الامريكي . وهذا الخلط هو الذي يذكي اوار العداء للأمريكان في العالم . وهذا العداء تستغله الحكومة الامريكية وتضخمه في منافذ وسائلها الاعلامية . وانت تعرف الروتين : " لماذا يكرهوننا ؟ انهم يكرهون حريتنا " الخ الخ . وهذا يزيد من الشعور بالعزلة بين الشعب الامريكي ويجعل التصاقهم بالحكومة اشد . مثل ان تبحث ذات القلنسوة الحمراء في الحكاية الشعبية عن الحنان في سرير الذئب .
ان استخدام التخويف من خطر خارجي من اجل اصطفاف الشعب وراء الحكومة هو حصان عجوز مرهق امتطاه السياسيون للاستحواذ على السلطة منذ قرون. ولكن الا يمكن ان يكون الاناس العاديون قد ضجروا من الحصان العجوز المرهق ويبحثون عن شيء آخر مختلف ؟ هناك اغنية في احد الافلام الهندية تقول : يا بابلك هاي ، يا ساب جانتي هاي . (الجماهير ، انها تعرف كل شيء ) . ألن يكون شيئا جميلا ان تكون الاغنية على حق والسياسيون على خطأ ؟
قبل غزو واشنطن اللاشرعي للعراق ، اظهر استطلاع للرأي اجراه معهد جالوب الدولي بأن موافقة الدول الاوربية على شن حرب احادية كانت بنسبة 11 % . وفي 15 شباط/فبراير 2003 في الاسابيع التي سبقت الغزو خرج اكثر من عشرة ملايين شخص في مسيرة ضد الحرب في القارات المختلفة بضمنها امريكا الشمالية . ومع هذا فإن حكومات عدد من الدول المفترض ان تكون ديمقراطية اصرت على شن الحرب.
السؤال هو : هل مازالت "الدول الديمقراطية " ديمقراطية ؟
هل تشعر الحكومات الديمقراطية انها مسؤولة امام الشعب الذي اختارها ؟ وبشكل اكثر دقة ، هل الجماهير في الدول الديمقراطية مسؤولة عن افعال حكوماتها ؟
اذا فكرت في الامر ، فإن المنطق خلف الحرب على "الارهاب" والمنطق خلف "الارهاب" هو ذاته. كلاهما يجعلا المواطن العادي يدفع ثمن افعال حكوماته . القاعدة جعلت شعب الولايات المتحدة يدفع حياته مقابل اخطاء حكومته في فلسطين والسعودية والعراق وافغانستان . وحكومة الولايات المتحدة جعلت شعب افغانستان يدفع بآلاف الضحايا ثمن افعال طالبان وشعب العراق يدفع مئات الالوف ثمن افعال صدام حسين .
الفرق المهم هو انه لا احد انتخب القاعدة او طالبان او صدام حسين . ولكن رئيس الولايات المتحدة كان منتخبا (حسنا . . بتعبير ما ) .
كما انتخب رؤساء وزراء ايطاليا واسبانيا والمملكة المتحدة . هل يمكن اذن القول ان مواطني هذه الدول اكثر مسؤولية عن افعال حكوماتهم عن العراقيين او الافغان ؟
ربّ من الذي يقرر ماهي (الحرب العادلة) وماهي الحرب غير العادلة ؟ مرة قال جورج بوش الاب :" لن اعتذر عن الولايات المتحدة . لاتهمني الوقائع " عندما لايهتم رئيس اقوى دولة في العالم بالوقائع ، فلابد ان نكون على يقين من اننا دخلنا عصر الامبراطورية .
اذن ماذا تعني " قوة الجماهير" في عصر الامبراطورية ؟ هل تعني أي شيء اطلاقا ؟ بل هل توجد اصلا ؟
في هذه الازمان الديمقراطية افتراضا ، تسود الفكرة السياسية التقليدية بأن الجماهير تمارس قوتها من خلال التصويت. وعشرات الامم في هذا العالم سوف تذهب الى صناديق الاقتراع هذا العام . معظمها (وليس كلها) سوف تحصل على الحكومات التي صوتوا لها . ولكن هل سيحصلون حقا على الحكومات التي ارادوا ؟
في الهند هذا العام صوتنا لصالح اخراج القوميين الهندوس. ولكن حتى ونحن نحتفل كنا نعرف انه في قضايا القنابل النووية والليبرالية الجديدة والخصخصة و الرقابة والسدود الكبيرة – كل قضية كبيرة غير تلك المتعلقة بالقومية الهندوسية الصريحة – لم يكن للمؤتمر و البي جي بي (حزب بهاراتيا جاناتي ) اختلافات ايديولوجية كبيرة. نعرف ان ارث الخمسين سنة من حزب المؤتمر هو الذي مهد الارض ثقافيا وسياسيا لأقصى اليمين. وكذلك كان حزب المؤتمر الذي فتح اسواق الهند للعولمة .
وفي حملته الانتخابية اشار حزب المؤتمر الى انه مستعد لاعادة التفكير بسياساته الاقتصادية السابقة . وهكذا جاء الملايين من افقر جماهير الهند للتصويت في الانتخابات. وكان مشهد الديمقراطية الهندية العظيمة يذاع حيا على شاشات التلفزيون – المزارعون الفقراء والشيوخ والعجزة والنساء المبرقعات وهن يرتدين حليهن الفضية الجميلة . .كل هؤلاء كانوا يقومون برحلات مضنية الى مراكز الانتخاب على الفيلة والجمال والعربات . وبخلاف توقعات كل خبراء الهند ، فاز المؤتمر باصوات اكثر من أي حزب آخر . وقد فازت الاحزاب الشيوعية باكبر حصة من التصويت في تاريخها. كان من الواضح ان فقراء الهند صوتوا ضد الاصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة و الفاشية المتنامية . وفور عد الاصوات ، اهملتهم وسائل الاعلام وكأنهم كومبارس تافهون في طاقم فيلم. وكانت قنوات التلفزيون تصور شاشات مقسومة نصف الشاشة يبين الفوضى خارج بيت سونيا غاندي زعيمة المؤتمر حيث كان يجري ترقيع حكومة التحالف .
اما النصف الاخر فقد كان يظهر فزع سماسرة البورصة المتجمهرين خارج بورصة بومباي وهم يضعون ايديهم على قلوبهم من ان ينفذ حزب المؤتمر وعوده للناخبين . رأينا مؤشر الاسهم برتفع اعلى واسفل والى الجانبين . وكانت وسائل الاعلام التي هبطت اسهمها نفسها ، تبث تقاريرا عن انهيار سوق الاسهم وكأن باكستان اطلقت قنابلها النووية على نيو دلهي .
حتى قبل تحليف الحكومة الجديدة ، انطلقت تصريحات السياسيون الكبار في حزب المؤتمر يطمئنون المستثمرين والاعلام بأن خصخصة مرافق الدولة سوف تستمر . وفي هذه الاثناء بدأ حزب (بي جي بي) بشكل يثير السخرية في معارضة الاستثمارات الاجنبية المباشرة وفتح الاسواق الهندية .
هذا هو منطق الديمقراطية الانتخابية الزائف .
اما بالنسبة للفقراء الهنود فالمطلوب منهم طالما انهوا واجبهم الانتخابي ان ينصرفوا الى منازلهم . فإن تقرير السياسات سيكون رغما عنهم .
وماذا عن الانتخابات الامريكي ؟ هل يملك الناخبون الامريكان اختيارا حقيقيا ؟
عندما يصبح جون كيري رئيسا لابد ان يتغير بعض حيتان رأس المال والمتعصبين المسيحيين في البيت الابيض ، والقليل من الناس سوف يأسفون لرؤية عرض اكتاف ديك تشيني او دونالد رامسفيلد او جون اشكروفت بلصوصيتهم الوقحة ، ولكن الخوف الحقيقي هو ان تستمر سياساتهم في الادارة الجديدة . ان يكون لدينا بوشية بدون بوش.
ان اصحاب السلطة الحقيقية – المصرفيين ورؤساء مجالس الشركات لايتغيرون مع الانتخابات (وعلى اية حال هم الذين يمولون الطرفين).
ولسوء الحظ انحدرت قيمة الانتخابات الامريكية الى نوع من تنافس الشخصيات . نزاع على من يدير شؤون الامبراطورية بشكل افضل . وجون كيري ليس اقل حماسا عن جورج بوش في مسألة الايمان بالامبراطورية .
لقد صمم النظام السياسي الامريكي بحيث يضمن ان لايصعد الى السلطة من لا يؤمن باهمية تركيبة الجيش – الصناعة – الشركات الكبرى .
واذا ادركت هذا ، لن تدهش اذا عرفت انه سيكون لدينا في هذه الانتخابات اثنان من خريجي جامعة ييل وكلاهما عضوان في جمعية الجمجمة والعظام السرية وكلاهما من اصحاب الملايين وكلاهما يدعوان للحرب بل انهما يتجادلان مثل الاطفال عمن يكون الافضل بقيادة الحرب على الارهاب.
ومثل الرئيس بيل كلنتون قبله ، سوف يستمر كيري بتوسيع التغلغل الامريكي الاقتصادي والعسكري في العالم . انه يقول انه كان سيصوت لصالح الموافقة لبوش على شن الحرب على العراق حتى لو كان يعرف ان العراق لايملك اسلحة دمار شامل . وهو يعد بارسال المزيد من القوات الى العراق . وقد قال مؤخرا انه يدعم سياسات بوش نحو اسرائيل واريل شارون مائة بالمائة . ويقول انه سوف يستبقي على 98% من استقطاعات ضرائب بوش.
اذن تحت غطاء تبادل الاتهامات الحاد هناك توافق تام . ويبدو انه حتى لو انتخب الامريكان كيري سيكون لديهم بوش. الرئيس جون كيربوش او الرئيس جورج بيري.
انه ليس اختيارا حقيقيا . بل اختيار الموجود . مثل اختيار نوع من المنظفات . سواء اشتريت ماركة (ايفوري سنو) او (تايد) فكلاهما من شركة واحدة هي بروكتور اند جامبل.
هذا لايعني ان حزب المؤتمر وبي جي بي والعمال الجديد والمحافظين والديمقراطيين والجمهوريين متماثلون. انهم ليسوا كذلك بطبيعة الحال. ولا منظف تايد يشبه ايفوري سنو : "تايد" حاد الفعالية في حين ان"ايفوري سن" منظف ناعم .
في الهند هناك فرق بين حزب فاشي بشكل علني (بي جي بي ) وحزب يحرض بخبث طائفة ضد اخرى (المؤتمر) ويبذر بذور الطائفية التي يحصدها باقتدار حزب بي جي بي.
هناك فرق في مستوى القسوة بين مرشحي الرئاسة الامريكانيين لهذا العام. لقد قامت الحركة المناهضة للحرب في الولايات المتحدة بعمل خارق بفضح الاكاذيب التي قادت الى غزو العراق رغم الاعلام الدعائي والترهيب الذي واجهته.
لم تكن هذه الخدمة للشعب هنا فقط وانما لكل العالم . ولكن الان اذا دعت هذه الحركة بشكل علني لانتخاب كيري سوف يعتقد بقية العالم ان الحركة توافق على سياساته الداعية الى امبريالية حساسة . هل تكون الامبريالية الامريكية افضل اذا ساندتها الامم المتحدة والدول الاوربية ؟ هل تكون الامبريالية افضل اذا ناشدت الامم المتحدة الجنود الهنود والباكستانيين للقيام باعمال القتل والموت في العراق بدلا من الجنود الامريكان ؟ هل الفرصة الوحيدة التي يترجاها العراقيون هو ان تشارك الشركات الفرنسية والالمانية والروسية في غنائم احتلال بلدهم ؟
هل هذا حقا افضل او اسوأ لنا الذين نعيش في امم مستعمرة ؟ هل من الافضل للعالم ان يكون لديه امبراطور اذكى ام اغبى ؟ هل هذا هو الاختيار الوحيد المتبقي لنا ؟
اعتذر لأن هذه اسئلة قاسية وغير مريحة ولكنها يجب ان تطرح .
الحقيقة هي ان الديمقراطية الانتخابية اصبحت عملية استغلال . فهي توفر لنا فسحة سياسية ضئيلة جدا . ومن السذاجة الاعتقاد ان هذه الفسحة تشكل اختيارا حقيقيا .
ان ازمة الدميقراطية الحديثة عميقة.
على المسرح الكوني ، بعيدا عن سلطات الدول ذات السيادة ، فإن الادوات العالمية للتجارة والمال تشرف على نظام مركب من القوانين والاتفاقيات متعددة الجنسيات التي رسخت نظاما للاستيلاء يخزي الكولونيالية . يسمح هذا النظام بالدخول والخروج غير المقيد لمبالغ ضخمة من رأس المال – اموال ساخنة – داخل وخارج دول العالم الثالث ، ثم املاء السياسة الاقتصادية على هذه الدول. باستخدام التهديد بهروب رأس المال ، ويتغلغل رأس المال الدولي داخل اقتصادات هذه الدول. ان الشركات العملاقة العابرة للقارات تهيمن على البنى التحتية الضرورية والموارد الطبيعية : المعادن و المياه والكهرباء . وفي النهاية ، فإن منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات مالية اخرى مثل بنك التنمية الاسيوي هم الذين يرسمون خطة السياسة الاقتصادية والتشريع البرلماني . وبمزيج قاتل من الغطرسة والقسوة يرفعون مطارقهم على المجتمعات الهشة والمعقدة تاريخيا ويدمرونها.
كل هذا يجري تحت الراية الخفاقة لـ"الاصلاح" .
ونتيجة لهذا الاصلاح في افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية ، افلست الالوف من المشاريع والصناعات الصغيرة وفقد ملايين العمال والعائلات اعمالهم واراضيهم.
وفي هذه الاثناء تطمئننا صحيفة السبيكتاتور في لندن بأننا "نعيش في العصر الاكثر سعادة وصحة وأمنا في تاريخنا البشري" ويتساءل الملايين : من هو "أننا" ؟ اين يعيش ؟ ما اسمه ؟
الشيء الواجب فهمه هو ان الديمقراطية الحديثة اصبحت في عرف الامم وكأنها دين راسخ. ولكن عولمة الشركات ليست كذلك . ولا رأس المال السائل. ولذلك حتى اذا كان رأس المال يحتاج الى قوى الامة لاطفاء الثورات في اقسام الخدم ، فإن هذا الترتيب يضمن عدم امكانية قيام أي امة منفردة بمعارضة عولمة الشركات وحدها .
ان التغيير الجذري لايمكن ان تتفاوض عليه الحكومات ولن يحدث ذلك . لايمكن الا ان يفرضه الشعب. الجماهير التي تستطيع ان تضع ايديها بايدي بعضها عبر الحدود الوطنية .
اذن عندما نتكلم عن "قوة الجماهير في عصر الامبراطورية" آمل الا يكون من الوقاحة افتراض ان الشيء الوحيد الجدير بالمناقشة الجادة هو قوة جماهير معارضة. جماهير تعارض جوهر مفهوم الامبراطورية . جماهير وضعت نفسها في مجابهة مع السلطة المنصبة – حكومات ومؤسسات دولية او وطنية او اقليمية تدعم وتخدم الامبراطورية .
ماهي سبل الاحتجاج المتاحة للجماهير الراغبة في مقاومة الامبراطورية ؟ بالمقاومة ، لا اعني التعبير عن المعارضة فقط ولكن اعني بها فرض التغيير . الامبراطورية تستخدم عدة اسلحة لفتح اسواق مختلفة بالعنوة . وتعرفون تلك الوسائل : دفتر الشيكات وصواريخ كروز.
بالنسبة للجماهير الفقيرة في كثير من البلدان ، لاتظهر الامبراطورية بشكل صواريخ كروز ودبابات كما في العراق او افغانستان او فيتنام . انها تتجسد في حياتهم بصور محلية جدا : فقدان وظائفهم او استلام فواتير كهرباء يعجزون عن سدادها ، او قطع المياه عنهم او اخلائهم من منازلهم وطردهم من اراضيهم. وكل ذلك باشراف الالة القاهرة للدولة والشرطة والجيش والقضاء. انها عملية تفقير مستمرة يعرفها الفقراء منذ زمن بعيد. ماتفعله الامبراطورية هو فرض وتعميق اللامساواة القائمة.
حتى وقت قريب جدا كان من الصعب على الناس ان يروا انفسهم كضحايا غزوات الامبراطورية . ولكن المقاومة المحلية الان بدأت ترى بوضوح هذا الدور . وقد تبدو هذه الكلمات كبيرة ولكنهم في الواقع يجابهون الامبراطورية معتمدين على انفسهم باشكال مختلفة. مختلفة في العراق وفي جنوب افريقيا والارجنتين ومختلفة ايضا في شوارع اوربا والولايات المتحدة .
لقد اتفقت حركات المقاومة والناشطون الفرديون والصحفيون والفنانون وصانعو الافلام على تجريد الامبراطورية من بريقها . لقد وضعوا النقاط على الحروف . وبينوا كيف ان مشروع الليبرالية الجديدة كلف الناس بيوتهم واراضيهم واعمالهم وكرامتهم . لقد جعلوا مما لايفهم مفهوما.
ان هذا نصر كبير . صنعه التنسيق بين الجماعات السياسية اليائسة باشكال مختلفة من الاستراتيجية . ولكنهم جميعا وضعوا هدفا واحدا لغضبهم ونشاطهم وعنادهم. وهذه كانت البداية للعولمة الحقيقية . عولمة الرفض.
بشكل عام هناك نوعان من حركات المقاومة الجماهيرية في دول العالم الثالث اليوم : حركة الناس الذين لا ارض لهم في البرازيل و حركة المناهضين للسد في الهند والزاباتيستا في المكسيك و منتدى ضد الخصخصة في جنوب افريقيا والمئات من الحركات الاخرى التي تقاتل حكوماتها ذات السيادة والتي هي في الواقع حكومات وكيلة لمشروع الليبرالية الجديدة. ومعظم هذه الحركات راديكالية تحارب لتغير هيكل ونموذج " التنمية" في بلادهم.
وهناك ايضا اولئك الذين يقاتلون الاحتلالات الرسمية والوحشية للكولونيالية الجديدة في اراض متنازع عليها والتي رسمت حدودها عادة في القرن الماضي من قبل القوى الاستعمارية. في فلسطين والتبت والشيشان وكشمير وعدة اقاليم في جنوب شرق الهند ، والناس هنا يحاربون من اجل تقرير المصير.
العديد من هذه الحركات كانت راديكالية وحتى ثورية في بداياتها ولكن غالبا بسبب وحشية القمع الذي واجهته تحولت الى حركات محافظة وحتى رجعية حيث تستخدم نفس استراتيجيات العنف واللغة الدينية والثقافة القومية التي تستخدمها الحكومات التي تريد هذه الحركات الحلول محلها .
وكثير من المناضلين في هذه الحركات سيجدون ، مثل اولئك الذين حاربوا الابارتهايد في جنوب افريقيا ، انهم ما ان يتخلصوا من الاحتلال الصريح حتى يدخلوا معركة اخرى لمحاربة الكولونيالية الاقتصادية المتخفية.
وفي هذه الاثناء ، عندما تزداد الهوة بين الاغنياء والفقراء وتزداد حدة المعركة من اجل الهيمنة على موارد العالم ، تعود الكولونيالية الاقتصادية من خلال العدوان العسكري الرسمي .
والعراق اليوم هو نموذج مؤلم على هذا . غزو لا شرعي . احتلال وحشي باسم التحرير. اعادة كتابة القوانين التي تسمح بالاستيلاء المخزي على ثروة وموارد البلاد من قبل الشركات التابعة للاحتلال والان مسرحية " الحكومة العراقية " المحلية.
لهذه الاسباب فمن السخافة ادانة المقاومة للاحتلال الامريكي للعراق باعتبارها من تخطيط ارهابيين او متمردين او موالين لصدام حسين . فعلى أي حال لو كانت الولايات المتحدة قد تعرضت لغزو هل سيكون كل من يقاوم هذا الغزو هو ارهابي او متمرد او موال لبوش ؟
ان المقاومة العراقية تحارب في جبهة المعركة ضد الامبراطورية . ولهذا فإن هذه المعركة هي معركتنا .
ومثل معظم حركات المقاومة ، تتشكل المقاومة العراقية من اطياف مختلفة . . بعثيين سابقين وليبراليين واسلاميين ومتعاونين انقلبوا على الاحتلال وشيوعيين الخ . ومن الطبيعي ان تبتلي المقاومة ايضا بالانتهازية والمنافسة المحلية والدماجوجية و التصرفات الاجرامية . ولكن اذا كنا سندعم الحركات النقية فقط فلن تكون هناك مقاومة جديرة بنقائنا .
ليس معنى هذا اننا يجب الا ننتقد حركات المقاومة . الكثير منها يفتقد الديمقراطية ومن تأليه زعمائهم ومن نقص الشفافية ومن افتقاد الرؤية والاتجاه ولكن اكثر من أي شيء تعاني هذه الحركات من تشويه السمعة والقمع وقلة الموارد.
وقبل ان نعظ المقاومة العراقية في كيفية توجيه معركتها . علينا ان نقوم بدورنا نحن في مقاومة الولايات المتحدة وحلفائها وحثها على الانسحاب من العراق.
كانت اول مجابهة في الولايات المتحدة بين حركات العدالة العالمية والليبرالية الجديدة في مؤتمر منظمة التجارة العالمية في سياتل في كانون الاول /ديسمبر 1999 . وبالنسبة لكثير من حركات الجماهير في الدول النامية التي كانت تحارب وحدها لمدة طويلة، كانت سياتل اول علامة سارة على ان ثمة اناس من الدول الامبريالية يشاطرونهم الان غضبهم ورؤيتهم لعالم جديد.
في كانون الثاني / يناير 2001 في بورتو اليجرا في البرازيل تجمع 20000 من الناشطين والطلاب وصانعي الافلام – بعضهم من افضل العقول في العالم – من اجل تبادل التجارب و الافكار حول سبل مواجهة الامبراطورية. كان ذلك ميلاد منتدى العالم الاجتماعي . كان اول تجمع رسمي لنوع جديد من "قوة الجماهير" . . مثيرة وفوضوية وغير مؤدلجة. وكان شعار المنتدى " عالم آخر ممكن" وقد اصبح منبرا لمئات المحادثات والمناقشات والندوات التي سعت لصياغة رؤية حول ماهية العالم الذي نريده.
بحلول كانون الثاني / يناير 2004 عندما عقد المنتدى الرابع في مومباي في الهند اجتذب 200000 من المشاركين. لم اكن في حياتي جزءا من تجمع اكثر جاذبية. كان علامة على نجاح المنتدى الاجتماعي الذي أغفلته تماما وسائل الاعلام شبه الرسمية . ولكن الان المنتدى مهدد بسبب نجاحه. لقد اتاح جو المنتدى الآمن والمفتوح للسياسيين والمنظمات غير الحكومية المندمجة مع الانظمة السياسية والاقتصادية التي يعارضها المنتدى ان تشارك وتتحدث فيه.
الخطر الثاني هو ان المنتدى الاجتماعي العالمي الذي لعب دورا مهما في حركة العدالة العالمية يتعرض لخطر ان يصبح غاية بحد ذاته. فإن مجرد تنظيمه كل سنة يستهلك طاقات بعض افضل الناشطين. واذا حل الحديث عن المقاومة محل العصيان المدني الحقيقي ، عندها يصبح المنتدى رصيدا لاولئك الذين تأسس المنتدى لمعارضتهم. يجب الحفاظ على المنتدى ويجب ان ينمو ولكن علينا ان نجد طرقا لتحويل احاديثنا فيه الى افعال حقيقية.
وبما ان حركات المقاومة بدأت تمد اذرعها عبر الحدود الوطنية وتشكل خطرا حقيقيا ، طورت الحكومات استراتيجياتها الخاصة بالتعامل مع تلك الحركات ، والتي تتراوح بين الاحتواء والقمع.
سوف اتحدث عن ثلاثة من الاخطار المعاصرة التي تجابه حركات المقاومة : صعوبة ايجاد نقطة التقاء بين الحركات الجماهيرية والاعلام ، اخطار تحويل المقاومة الى منظمات غير حكومية، والمجابهة بين حركات المقاومة والحكومات القمعية.
ان نقطة التقاء الاعلام مع الحركات الجماهيرية امر معقد.
لقد تعلمت الحكومات ان الاعلام الذي تسوقه الازمات لا يملك ان يستقر على موضوع واحد لمدة طويلة . فهو مثلما تحتاج المشاريع التجارية الى مدد مالي نقدي ، فإن الاعلام يحتاج الى مدد ازمات . دول كاملة تصبح اخبارا قديمة . فهي تختفي عن الوجود ويصبح الظلام اكثر عتمة مما كان قبل ان يشع الضياء عليها لبرهة وجيزة . لقد رأينا ذلك يحدث في افغانستان عندما انسحب السوفيت والان بعد الحرب عليها وتنصيب وكالة المخابرات المركزية حامد كرزاي، قذفت بافغانستان الى زعماء الحرب مرة اخرى.
وعميل آخر لوكالة المخابرات المركزية وهو اياد علاوي جرى تنصيبه في العراق ولهذا ربما يكون قد حان الوقت لتحول الاعلام عن العراق ايضا.
وفي حين ان الحكومات تشحذ فن انتظار الاوقات المواتية لعبور الازمات ، تقع حركات المقاومة دائما في فخ دوامة صنع الازمات وهي تحاول ايجاد طرق لصناعتها باشكال مهضومة ومفهومة للجمهور.
كل حركة شعبية تحترم نفسها ، كل "قضية" يفترض ان يكون لها منطاد خاص بها يرتفع في الجو ويعلن عن هويتها و اهدافها.
لهذا السبب، فإن الموت بسبب الجوع يعتبر اعلانا اكثر تأثيرا في التعبير عن الفقر من ملايين الناس الذين يعانون من امراض نقص التغذية ، وكذلك السدود لاتعتبر مادة اخبارية حتى تحدث اضرارا بالغة يجعلها جديرة بشاشات التلفزيون (وعندها يكون قد فات الاوان).
فيما مضى ، كان الوقوف لأيام طويلة وسط الماء الذي يتصاعد داخل خزان وانت تراقب بيتك وممتلكاتك وهي تعوم مبتعدة ، طريقة ناجعة للاحتجاج على بناء سد ضخم ، ولكن لم يعد الامر كذلك . بل انه يصيب الاعلام بملل قاتل. وهكذا فليس امام مئات الالوف من الناس الذين تشردهم السدود سوى ابتكار حيل جديدة او التخلي عن المعركة.
التظاهرات الملونة ومسيرات نهاية الاسبوع وحدها ليست كافية لايقاف الحروب. لايوقف الحروب سوى ان يرفض الجنود القتال و يرفض العمال شحن الاسلحة في السفن والطائرات ويقاطع الشعب المخافر الاقتصادية للامبراطورية التي تمتد عبر الكون .
اذا اردنا ان نحتفظ بمكانة العصيان المدني ، ينبغي علينا ان نحرر انفسنا من طغيان اعلان الازمات وخوفه مما يجري على ارض الواقع . ينبغي ان نستخدم خبرتنا وخيالنا وابداعنا لنسائل الوسائل الحكومية التي تضمن بقاء "الاوضاع الطبيعية" كما هي : قاسية وغير عادلة و غير مقبولة. علينا ان نفضح السياسات والعمليات التي تجعل من الاشياء الاعتيادية : الطعام والماء والملجأ والكرامة – حلما بعيد المنال للناس العاديين . ان الضربة الوقائية الحقيقية هي ان نفهم ان الحروب هي نهاية طبيعية لسلام ناقص وغير عادل .
وبقدر تعلق الامر بحركات المقاومة الجماهيرية ، فإن الحقيقة هو انه ليس هناك تغطية اعلامية تستطيع ان تعادل قوة الجماهير على الارض. ليس هناك بديل في الواقع للتحريك السياسي التقليدي القاصم للظهر.
لقد وسعت شركات العولمة الهوة بين اولئك الذين يصنعون القرارات وبين الذين عليهم ان يعانوا نتائج هذه القرارات. وفي منتديات مثل المنتدى الاجتماعي العالمي يمكن لحركات المقاومة المحلية من تقليل تلك الهوة والاتصال بنظائرهم في البلاد الغنية . وهذا التحالف مهم وهائل. مثلا ، عندما كان يبنى اول سد خاص في الهند ، وهو سد ماهيشوار ، عملت التحالفات بين نرمادا باتشاو اندولان و منظمة اورجوالد الالمانية و اعلان بيرن في سويسرا وشبكة الانهار الدولية في بركلي ، عملت معا لاخراج سلسلة من البنوك والشركات الدولية من المشروع. ولم يكن هذا ممكنا لو لم يكن هناك حركة مقاومة راسخة على الارض. وقد ضخم المؤيدون على المسرح العالمي صوت تلك الحركة المحلية مما احرج المستثمرين واجبرهم على الانسحاب.
ان عددا لا محدودا من تحالفات مماثلة تستهدف مشروعات معينة وشركات معينة سوف يساعد على خلق عالم افضل. يجب ان نبدأ بالشركات التي تعاملت مع نظام صدام حسين والان تتربح من غزو واحتلال العراق.
الخطر الثاني الذي يواجه الحركات الجماهيرية هو تحويل المقاومة الى منظمات غير حكومية. سيكون من السهل حرف ما اقوله الى تجريم كل المنظمات غير الحكومية. وهذا ليس صحيحا. في المياه المعتمة للمنظمات غير الحكومية الزائفة التي تنشأ لاستنزاف اموال المنح او لمراوغة الضرائب ، من الطبيعي ان تجد الى جانبها منظمات غير حكومية تقوم بعمل عظيم . ولكن من المهم النظر في ظاهرة المنظمات غير الحكومية في اطار سياسي ا وسع.
في الهند ، مثلا ، بدأت ظاهرة ازدهار المنظمات غير الحكومية الممولة في اواخر الثمانينات والتسعينات . وقد واكب ذلك انفتاحا في الاسواق الهندية نحو الليبرالية الجديدة. في ذلك الوقت ، كانت الحكومة الهندية ، تماشيا مع متطلبات التعديل الهيكلي ، تنسحب من تمويل التنمية الزراعية والزراعة والطاقة والنقل والصحة العامة. ومع تخلي الدولة عن دورها التقليدي ، دخلت المنظمات غير الحكومية لتحل محلها في هذه المجالات. الفرق ، طبعا ، ان الاموال المتاحة لللمنظمات كانت جزءا ضئيلا جدا من الاقتطاع الفعلي للنفقات العامة. ومعظم المنظمات غير الحكومية الكبيرة تمولها وترعاها هيئات الاغاثة والتنمية والتي بدورها تمول من الحكومات الغربية والبنك الدولي والامم المتحدة وبعض الشركات متعددة الجنسية . ورغم انها قد لاتكون نفس الهيئات ولكنها بالتأكيد جزء من نفس التشكيلة السياسية الفضفاضة التي تشرف على المشروع الليبرالي الجديد والتي تطالب ببتر الدعم الحكومي للجماهير.
لماذا تمول هذه الهيئات المنظمات غير الحكومية ؟ هل يمكن ان يكون ذلك هو نفس الدافع التبشيري القديم ؟ ام الشعور بالذنب ؟ ان الامر يتجاوز ذلك بقليل . تعطي المنظمات غير الحكومية الانطباع بأنها تملأ الفراغ الذي ينشأ بتراجع دور الدولة. وهي كذلك ، ولكن بطريقة غير مترابطة واقعيا. ان مساهمتهم الحقيقية هي نزع فتيل الغضب السياسي وتوفير الحقوق الاساسية للمواطن وكأنها صدقات واحسان.
انهم يغيرون النفسية الجماهيرية. فهم يحولون الناس الى ضحايا معتمدين عليهم ويثلمون شفرات المقاومة السياسية . تعمل المنظمات غير الحكومية كمخفف للصدمات بين الحكومة والشعب. بين الامبراطورية ورعاياها. لقد اصبحت هذه المنظمات الوسيط والمترجم وميسر الامور .
وفي نهاية المطاف تقف المنظمات غير الحكومية مسؤولة امام مموليها وليس امامالشعب الذي تعمل وسطه. ويبدو انه كلما كان الخراب الذي تسببه الليبرالية الجديدة اعظم كانت انطلاقة المنظمات غير الحكومية اكبر . لاشيء يوضح هذا اكثر دقة من ظاهرة تحضير الولايات المتحدة لغزو دولة وفي نفس الوقت اعداد المنظمات غير الحكومية للذهاب وتنظيف الخراب.
ومن اجل ان تضمن هذه المنظمات عدم تعرض تمويلها الى الخطر وان الحكومات التي تعمل في دولها سوف تسمح لهم بالعمل ، تضطر المنظمات غير الحكومية الى تقديم اعمالها في اطار ضحل مجرد تقريبا من أي مضمون سياسي او تاريخي .
ان تقارير الكوارث السياسية عن الدول الفقيرة ومناطق الحروب تجعل من الشعوب ( داكنة البشرة) في تلك الدول وكأنها ضحايا اوبئة . . هندي ناقص التغذية آخر ، اثيوبي آخر يموت جوعا ، معسكر لاجئين افغاني آخر، سوداني معوق آخر . . يحتاجون الى مساعدة الرجل الابيض . انهم يؤكدون الانماط العنصرية ويبرزون انجازات ومساعدات وتعاطف الحضارة الغربية . انهم المبشرون العلمانيون في العصر الحديث.
وفي النهاية – وعلى نطاق اصغر ولكن اكثر مكرا – فإن رأس المال المتاح للمنظمات غير الحكومية يلعب نفس الدور في السياسة البديلة كرأس المال المضاربي الذي يتدفق داخل وخارج اقتصادات الدول الفقيرة . يبدأ في املاء الاجندة . ويحول المجابهات الى مفاوضات. انه يفقد المقاومة موقفها السياسي. وهو يتدخل مع الحركات الشعبية المحلية التي كانت دائما ذاتية الاعتماد ، وتملك المنظمات غير الحكومية اموالا يمكنها من تشغيل الناس المحليين الذين قد يتحولون – بعكس ذلك – الى ناشطين في حركات المقاومة ، ولكنهم الان يشعرون انهم يقومون بعمل جيد مباشر ومبدع (ويكسبون عيشهم وهم يفعلون ذلك ) . والمقاومة السياسية الحقيقية لا تقدم مثل هذه الطرق السريعة المثمرة .
ان تحويل الحركات السياسية الى منظمات غير حكومية يهدد بخطر تحول المقاومة الى وظيفة ثابتة ، مهذبة ومعقولة وبأجر جيد وبشيء من المتعة . المقاومة الحقيقية لها نتائج حقيقية وبدون اجر .
وهذا يقودنا الى الخطر الثالث الذي اود الحديث عنه هذه الليلة : الطبيعة القاتلة للمجابهة الحقيقية بين حركات المقاومة والحكومات القمعية . بين قوة الجماهير وعملاء الامبراطورية .
ما ان تبدي المقاومة المدنية اقل علامة على تطورها من فعل رمزي الى أي شيء يهدد بأقل خطر ، يبدأ الضرب العنيف وبدون رحمة . لقد رأينا ما حدث للتظاهرات في سياتل وميامي وجوثنبرج وجنوة.
في الولايات المتحدة ، لديك قانون الوطني الامريكي الذي اصبح الطبعة الزرقاء لكل القوانين المضادة للارهاب التي سنتها الحكومات في انحاء العالم . كبح الحرية باسم حماية الحرية. وطالما سلمنا حرياتنا ، لن نسترجعها الا بثورة .
لبعض الحكومات خبرة واسعة في كبح الحريات مع احتفاظها برائحة عطرة. وحكومة الهند وهي ذات يد طولى بهذه اللعبة، تقود بها هذا الطريق .
على مدى السنوات شرعت الحكومة الهندية مجموعة من القوانين التي تسمح لها بأن تتهم أي شخص بأنه ارهابي او متمرد او مسلح. عندنا قانون السلطات الخاصة للقوات المسلحة ، وقانون الامن العام وقانون امن المناطق الخاصة وقانون العصابات وقانون المناطق الارهابية والممزقة و القانون الاحدث وهو قانون منع الارهاب وهو المضاد الحيوي الاشمل لمرض المعارضة.
هناك خطوات اخرى تتخذ ، مثل احكام المحاكم التي تكبح حرية الرأي وحق عمال الحكومة في الاضراب وحق الحياة والمعيشة . لقد بدأت المحاكم في الهند تدير حياتنا . وانتقاد المحاكم جريمة جنائية .
ولكن نعود مرة اخرى الى اجراءات مكافحة الارهاب ، فخلال العقد الماضي كان عدد الناس الذين قتلتهم الشرطة وقوات الامن يصل الى عشرات الالوف ، في ولاية اندرا براديش (مدللة شركات العولمة في الهند) كل عام يقتل في المتوسط حوالي 200 (متطرف) فيما يسمى (المواجهات) . وتفخر شرطة بومباي بعدد (رجال العصابات) الذين قتلتهم في (عمليات اطلاق النار) في كشمير ، في وضع يكاد يصل الى حالة حرب ، قتل مايقارب 80000 شخص منذ عام 1989. واختفى الالوف . اما في الاقاليم الشمالية الشرقية فالوضع لايختلف.
في السنوات الاخيرة فتحت الشرطة الهندية النار على اناس عزل . والاسلوب المفضل هو قتلهم ثم تسميتهم ارهابيين . والهند ليست وحدها فقد رأينا اوضاعا مشابهة في دول مثل بوليفيا وتشيلي وجنوب افريقيا. في عصر الليبرالية الجديدة الفقر جريمة والاحتجاج ضده صار يعرف بأنه ارهاب.
في الهند يسمى الناس قانون منع الارهاب " قانون انتاج الارهاب". انه قانون متعدد الاستعمالات يمكن تطبيقه على أي شخص من عضو بالقاعدة الى محصل الاتوبيس المتشكي . وكما في كل القوانين المكافحة للارهاب ، فإن عبقرية هذا القانون هو انه يصلح لأي شيء تريده الحكومة . بعد مذبحة 2002 المنظمة التي شاركت فيها الحكومة في ولاية كوجارات قتل حوالي 2000 مسلم بوحشية من قبل رعاع هندوس و شرد حوالي 150000 من بيوتهم ، ولكن اعتقل 287 بموجب قانون منع الارهاب ومن هؤلاء 286 مسلم وواحد من السيخ !!
والقانون يسمح بانتزاع الاعترافات في مراكز الشرطة لتقدم باعتبارها ادلة قضائية. ولهذا فإن التعذيب يحل محل الاستجوابات. ويسجل مركز توثيق حقوق الانسان في جنوب اسيا أن الهند لديها اعلى رقم في وفيات التعذيب والاحتجاز في العالم . وتبين سجلات الحكومة انه كان هناك 1307 وفاة في احتجاز قضائي في 2002 وحدها.
منذ عدة اشهر ، كنت عضوة في محكمة الشعب حول قانون منع الارهاب . وفي خلال يومين استمعنا الى شهادات مرعبة عما يحدث في بلادنا الديمقراطية الرائعة . كل شيء : من اجبار الناس على شرب بولهم الى تجريدهم من الثياب الى اذلالهم وصعقهم بالكهرباء وحرقهم باعقاب السجائر الى ادخا لخوازيق حديدية في الشرج الى الضرب والركل حتى الموت.
وقد وعدت الحكومة الجديدة بالغاء القانون . ستصيبني الدهشة اذا حدث ذلك قبل ان يشرع في مكانه قانون مشابه ولكن تحت مسمى آخر .
عندما تغلق كل السبل للمعارضة السلمية ، وكل من يحتج ضد انتهاك حقوقه الانسانية يسمى ارهابيا ، هل يدهشنا حقا اذا اكتسح اجزاء شاسعة من البلاد اولئك الذين يؤمنون بالمقاومة المسلحة دون ان تستطيع الدولة السيطرة عليهم : في كشمير وفي الاقاليم الشمالية الشرقية واجزاء كبيرة من ماديا براديش وتشاتسجارث وجرخند واندرا براديش . والناس العاديون في هذه المناطق محصورون بين عنف الجماعات المسلحة والدولة .
في كشمير ، يقدر الجيش الهندي ان هناك ما بين 3000 الى 4000 مسلح . ومن اجل السيطرة عليهم تنشر الحكومة حوالي 500000 جندي . ومن الواضح ان الجيش لايقصد ان يسيطر على المسلحين فحسب وانما كل السكان المهانين والتعساء الذين يرون في الجيش الهندي قوة احتلال.
ويسمح قانون السلطات الخاصة للقوات المسلحة ليس للضباط وحدهم وانما حتى الضباط الصغار في الجيش باستخدام القوة وحتى قتل أي شخص بمجرد الاشتباه بأنه يسبب تكديرا للأمن العام . وقد فرض لأول مرة في بعض المناطق في ولاية مانيبور عام 1958. اليوم يطبق تقريبا في كل مناطق الشمال الشرقي وفي كشمير. ان وثائق امثلة التعذيب والاختفاءات والموت والاغتصاب والاعدام الفوري الذي تقوم بها القوات الخاصة كاف لاصابتك بالغثيان والقيء.
في اندرا براديش ، في قلب الهند ، قامت جماعة الحرب الشعبية الماركسية اللينينية المسلحة – التي انخرطت لسنوات في نزاع مسلحة وكانت الهدف الرئيسي لكثير من "المواجهات" المزيفة لشرطة اندرا - بعقد اجتماعها الاول منذ سنوات في 28/7/2004 في مدينة وارانجال.
وحضر الاجتماع مئات الالوف من الناس الذين اعتبروا جميعا ارهابيين بموجب قانون منع الارهاب. هل يمكن اعتقالهم جميعا في غونتنامو هندي ؟
وجميع سكان الشمال الشرقي ووادي كشمير على حافة الغليان والانفجار . ماذا سوف تفعل الحكومة بكل هذه الملايين من البشر ؟
ليس هناك الان في العالم جدل اكثر اهمية من ذلك الذي يدور حول استراتيجيات المقاومة . واختيار الاستراتيجية ليس كليا في ايدي الجماهير . انه ايضا في ايدي السركار .
فعندما غزت الولايات المتحدة العراق بالاسلوب الذي نفذته ، بقوة عسكرية كاسحة ، هل كان يمكن ان نتوقع من المقاومة ان تكون جيشا تقليديا ؟ (طبعا حتى لو كان تقليديا ، فسوف يقال عنه انه ارهابي) . ومن المفارقة ان تجعل ترسانة الحكومة الامريكية من الاسلحة وقوة النيران والطيران المتفوقة ، من الارهاب رد فعل لا يمكن تفاديه. فما يفتقده الناس من الثروة والقوة يعوضوه بالتخفي والاستراتيجية .
في هذه الايام القلقة واليائسة ، اذا لم تعمل الحكومات كل مابوسعها للاعتراف بالمقاومة السلمية ، فإنها تقدم صنيعا لاولئك الذين يتحولون الى العنف. ولن تكون ثمة صدقية لادانة الحكومة للارهاب اذا لم تبين انها تفتح صدرها للمعارضة السلمية .
ولكنها بدلا من ذلك تسحق حركات المقاومة السلمية . وكل نوع من انواع التحريك السياسي الجماهيري إما يشترى او يسحق او يهمش.
وفي هذه الاثناء ، تغدق الحكومات والاعلام ولاتنسوا صناعة الافلام ، كل وقتهم واهتمامهم وتقنياتهم وابحاثهم واعجابهم على الحرب والارهاب. العنف يجابه بالعنف .
الرسالة التي يبعثها هذا المفهوم خطرة وتثير القلق : اذا ارادت الجماهير ان تعلن عن مظلمة اصابتها فإن العنف اكثر فعالية من اللاعنف.
وفيما تزداد الهوة بين الاغنياء والفقراء ، وفيما تصبح الحاجة الى السيطرة على موارد العالم لاطعام الماكنة الرأسمالية الهائلة اكثر الحاحا ، سوف يتصاعد الاضطراب في العالم .
وبالنسبة لنا نحن الذين على الجانب الخاطيء من الامبراطورية ، لقد تجاوز الاذلال الاحتمال.
كل طفل عراقي قتلته الولايات المتحدة هو طفلنا . كل سجين عذب في ابو غريب هو رفيقنا . صرخاتهم هي صرخاتنا، و اهانتهم اهانة لنا . والجنود الامريكان الذين يحاربون في العراق – معظمهم متطوعون في تجانيد الفقر من مدن صغيرة وازقة فقيرة – هم ضحايا مثل العراقيين تماما لذات العملية المريعة التي تطلب منهم ان يموتوا من اجل نصر لن يكون لهم .
رؤساء الشركات العملاقة ، المصرفيون ، السياسيون ، القضاة ، الجنرالات . . ينظرون الينا من عليائهم ويهزون رؤوسهم قائلين بحدة :" ليس ثمة بديل " ويطلقون علينا كلاب الحرب .
ثم من اطلال افغانستان ومن انقاض العراق والشيشان ومن شوارع فلسطين المحتلة وجبال كشمير ومن تلال وسهول كولومبيا و غابات اندرا براديش واسام يأتي الجواب الرهيب : " ليس هناك بديل سوى الارهاب" الارهاب ، الكفاح المسلح ، التمرد . سمه ماتشاء .
ان الارهاب بشع يجرد مرتكبه وضحيته على السواء من صفة الانسانية . ولكن كذلك تفعل الحرب ايضا . يمكنك القول ان الارهاب هو خصخصة الحرب. "الارهابيون" هم اناس لايؤمنون بأحتكار الدولة لشرعية استخدام العنف.
ان المجتمع البشري يتجه نحو مصير رهيب.
ولكن بالطبع هناك بديل "للارهاب" . . اسمه العدل .
وقد حان الوقت للاعتراف بأنه لا الاسلحة النووية او الهيمنة المطلقة او ادوات التعذيب او مجالس الحكم او اللويا جركا يمكن ان تشتري السلام على حساب العدل.
ان شوق البعض الى الهيمنة والتفوق سيقابله توق الاخرين الى الكرامة والعدل.
اما شكل المعركة القادمة ، هل تكون جميلة او دموية . . هذا يعتمد علينا
* *
ارونداتي روي ولدت في الهند 1959 (في بعض المراجع 1961) ودرست العمارة في نيو دلهي حيث تعيش الان وعملت في تصميم الافلام والتمثيل وكتابة المسرحية . وفازت اول رواية لها (اله الاشياء الصغيرة) بجائزة بوكر عام 1997 وهي افضل جائزة بريطانية . وبيعت من هذه الرواية 6 ملايين نسخة وترجمت الى 20 لغة. والفت كتبا اخرى عديدة في غير مجال الرواية . ومنها: دفتر الشيكات وصاروخ كروز ، تكاليف المعيشة ، وسياسة القوة، ودليل الشخص العادي الى الامبراطورية.
* موقع الديمقراطية الان 16/8/ 2004
خطابها الذي القته في سان فرنسيسكو بكاليفورنيا في 16/8/2004
ترجمة بثينة الناصري
عندما تذبح اللغة وتنزف معانيها ، كيف يمكن ان نفهم "قوة الجماهير" ؟ اذا كانت الحرية تعني الاحتلال والديمقراطية تعني رأسمالية الليبرالية الجديدة و الاصلاح يعني القمع ، وعندما تسري في جسدك قشعريرة لدى سماعك كلمات مثل "تمكين" و"حفظ السلام" – لماذا اذن يمكن ان يعني مصطلح "قوة الجماهير" ماتريده ان يعنيه . لهذا كله سوف اعرف " قوة الجماهير" من خلال هذه المقالة باسلوب "اخدم نفسك" الذي اجيده.
في الهند اصبحت كلمة (بابلك - جماهير) كلمة هندية . وهي تعني الشعب. في اللغة الهندية لدينا ساركار وبابلك : الحكومة والشعب . ويتضمن هذا الاستخدام للكلمتين الافتراض ان الحكومة والشعب منفصلان . ويعود هذا التمييز الى نضال الهند في سبيل التحرر الذي لم يكن - رغم عظمته - ثوريا . لقد انزلقت الصفوة الهندية بيسر واناقة في احذية المستعمرين البريطانيين . واصبح المجتمع المدقع والاقطاعي دولة مستقلة حديثة. و حتى يومنا هذا ، وبعد خمسة وسبعين عاما من الاستقلال ، مازالت تنظر الطبقات المسحوقة الى الحكومة باعتبارها الراعي والمعيل. اما الاكثر تطرفا ، اولئك الذين مازالت بطونهم تفور نارا ، فهم ينظرون الى الحكومة باعتبارها لصا وناهبا لكل شيء .
وفي كل الحالات ، يعتبر معظم الهنود السركار منفصلا عن البابلك. وعلى اية حال ، كلما صعدت في السلم الاجتماعي الهندي ، يغيم الفرق بين الحكومة والشعب . فإن الصفوة الهندية مثل اية صفوة في أي مكان في العالم ، تجد انه من الصعوبة عليها فصل ذاتها عن الحكومة . فهي ترى مثل الحكومة وتفكر مثل الحكومة وتتحدث مثل الحكومة.
في الولايات المتحدة ، من جانب آخر ، تغلغل الضباب الذي يحيط السركار والشعب في اعمق اعماق المجتمع. وهذا قد يكون علامة على حيوية الديمقراطية ولكن لسوء الحظ ان الامر اكثر تعقيدا واقل جمالا من ذلك . فمن بين اشياء اخرى ، للامر علاقة بالشبكة المعقدة للبارانويا التي خلقتها حكومة الولايات المتحدة ونسجتها مؤسسات الاعلام وهوليوود. لقد استغل الامريكيون العاديون لدفعهم الى التصور انهم شعب تحت الحصار وملاذهم وحاميهم الوحيد هو الحكومة . فإذا لم يكن الخطر من الشيوعيين فهو من القاعدة ، واذا لم تكن كوبا فهي نيكاراغوا . نتيجة لذلك ، فإن اقوى امة في العالم – بترسانتها المتفوقة من الاسلحة وتاريخها في شن ورعاية حروب لانهاية لها ، والامة الوحيدة في التاريخ التي استخدمت فعلا القنابل النووية – يسكنها مواطنون يتلبسهم الرعب من ظلالهم . شعب يرتبط بالدولة لا بسبب الخدمات الاجتماعية او الرعاية الصحية او ضمانات العاطلين وانما بسبب الخوف.
ويستغل هذا الخوف المصنوع من اجل الحصول على موافقة الشعب لارتكاب اعمال العدوان . وهكذا يستمر الحال ، هستريا لولبية تضبط الحكومة الامريكية رسميا درجاتها بانذاراتها الملونة المدهشة : الفوشيا والتركواز والوردي المدخن .
بالنسبة للمراقب الخارجي ، فإن هذا الاندماج بين السركار والشعب في الولايات المتحدة يجعل من الصعب فصل افعال حكومة الولايات المتحدة عن الشعب الامريكي . وهذا الخلط هو الذي يذكي اوار العداء للأمريكان في العالم . وهذا العداء تستغله الحكومة الامريكية وتضخمه في منافذ وسائلها الاعلامية . وانت تعرف الروتين : " لماذا يكرهوننا ؟ انهم يكرهون حريتنا " الخ الخ . وهذا يزيد من الشعور بالعزلة بين الشعب الامريكي ويجعل التصاقهم بالحكومة اشد . مثل ان تبحث ذات القلنسوة الحمراء في الحكاية الشعبية عن الحنان في سرير الذئب .
ان استخدام التخويف من خطر خارجي من اجل اصطفاف الشعب وراء الحكومة هو حصان عجوز مرهق امتطاه السياسيون للاستحواذ على السلطة منذ قرون. ولكن الا يمكن ان يكون الاناس العاديون قد ضجروا من الحصان العجوز المرهق ويبحثون عن شيء آخر مختلف ؟ هناك اغنية في احد الافلام الهندية تقول : يا بابلك هاي ، يا ساب جانتي هاي . (الجماهير ، انها تعرف كل شيء ) . ألن يكون شيئا جميلا ان تكون الاغنية على حق والسياسيون على خطأ ؟
قبل غزو واشنطن اللاشرعي للعراق ، اظهر استطلاع للرأي اجراه معهد جالوب الدولي بأن موافقة الدول الاوربية على شن حرب احادية كانت بنسبة 11 % . وفي 15 شباط/فبراير 2003 في الاسابيع التي سبقت الغزو خرج اكثر من عشرة ملايين شخص في مسيرة ضد الحرب في القارات المختلفة بضمنها امريكا الشمالية . ومع هذا فإن حكومات عدد من الدول المفترض ان تكون ديمقراطية اصرت على شن الحرب.
السؤال هو : هل مازالت "الدول الديمقراطية " ديمقراطية ؟
هل تشعر الحكومات الديمقراطية انها مسؤولة امام الشعب الذي اختارها ؟ وبشكل اكثر دقة ، هل الجماهير في الدول الديمقراطية مسؤولة عن افعال حكوماتها ؟
اذا فكرت في الامر ، فإن المنطق خلف الحرب على "الارهاب" والمنطق خلف "الارهاب" هو ذاته. كلاهما يجعلا المواطن العادي يدفع ثمن افعال حكوماته . القاعدة جعلت شعب الولايات المتحدة يدفع حياته مقابل اخطاء حكومته في فلسطين والسعودية والعراق وافغانستان . وحكومة الولايات المتحدة جعلت شعب افغانستان يدفع بآلاف الضحايا ثمن افعال طالبان وشعب العراق يدفع مئات الالوف ثمن افعال صدام حسين .
الفرق المهم هو انه لا احد انتخب القاعدة او طالبان او صدام حسين . ولكن رئيس الولايات المتحدة كان منتخبا (حسنا . . بتعبير ما ) .
كما انتخب رؤساء وزراء ايطاليا واسبانيا والمملكة المتحدة . هل يمكن اذن القول ان مواطني هذه الدول اكثر مسؤولية عن افعال حكوماتهم عن العراقيين او الافغان ؟
ربّ من الذي يقرر ماهي (الحرب العادلة) وماهي الحرب غير العادلة ؟ مرة قال جورج بوش الاب :" لن اعتذر عن الولايات المتحدة . لاتهمني الوقائع " عندما لايهتم رئيس اقوى دولة في العالم بالوقائع ، فلابد ان نكون على يقين من اننا دخلنا عصر الامبراطورية .
اذن ماذا تعني " قوة الجماهير" في عصر الامبراطورية ؟ هل تعني أي شيء اطلاقا ؟ بل هل توجد اصلا ؟
في هذه الازمان الديمقراطية افتراضا ، تسود الفكرة السياسية التقليدية بأن الجماهير تمارس قوتها من خلال التصويت. وعشرات الامم في هذا العالم سوف تذهب الى صناديق الاقتراع هذا العام . معظمها (وليس كلها) سوف تحصل على الحكومات التي صوتوا لها . ولكن هل سيحصلون حقا على الحكومات التي ارادوا ؟
في الهند هذا العام صوتنا لصالح اخراج القوميين الهندوس. ولكن حتى ونحن نحتفل كنا نعرف انه في قضايا القنابل النووية والليبرالية الجديدة والخصخصة و الرقابة والسدود الكبيرة – كل قضية كبيرة غير تلك المتعلقة بالقومية الهندوسية الصريحة – لم يكن للمؤتمر و البي جي بي (حزب بهاراتيا جاناتي ) اختلافات ايديولوجية كبيرة. نعرف ان ارث الخمسين سنة من حزب المؤتمر هو الذي مهد الارض ثقافيا وسياسيا لأقصى اليمين. وكذلك كان حزب المؤتمر الذي فتح اسواق الهند للعولمة .
وفي حملته الانتخابية اشار حزب المؤتمر الى انه مستعد لاعادة التفكير بسياساته الاقتصادية السابقة . وهكذا جاء الملايين من افقر جماهير الهند للتصويت في الانتخابات. وكان مشهد الديمقراطية الهندية العظيمة يذاع حيا على شاشات التلفزيون – المزارعون الفقراء والشيوخ والعجزة والنساء المبرقعات وهن يرتدين حليهن الفضية الجميلة . .كل هؤلاء كانوا يقومون برحلات مضنية الى مراكز الانتخاب على الفيلة والجمال والعربات . وبخلاف توقعات كل خبراء الهند ، فاز المؤتمر باصوات اكثر من أي حزب آخر . وقد فازت الاحزاب الشيوعية باكبر حصة من التصويت في تاريخها. كان من الواضح ان فقراء الهند صوتوا ضد الاصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة و الفاشية المتنامية . وفور عد الاصوات ، اهملتهم وسائل الاعلام وكأنهم كومبارس تافهون في طاقم فيلم. وكانت قنوات التلفزيون تصور شاشات مقسومة نصف الشاشة يبين الفوضى خارج بيت سونيا غاندي زعيمة المؤتمر حيث كان يجري ترقيع حكومة التحالف .
اما النصف الاخر فقد كان يظهر فزع سماسرة البورصة المتجمهرين خارج بورصة بومباي وهم يضعون ايديهم على قلوبهم من ان ينفذ حزب المؤتمر وعوده للناخبين . رأينا مؤشر الاسهم برتفع اعلى واسفل والى الجانبين . وكانت وسائل الاعلام التي هبطت اسهمها نفسها ، تبث تقاريرا عن انهيار سوق الاسهم وكأن باكستان اطلقت قنابلها النووية على نيو دلهي .
حتى قبل تحليف الحكومة الجديدة ، انطلقت تصريحات السياسيون الكبار في حزب المؤتمر يطمئنون المستثمرين والاعلام بأن خصخصة مرافق الدولة سوف تستمر . وفي هذه الاثناء بدأ حزب (بي جي بي) بشكل يثير السخرية في معارضة الاستثمارات الاجنبية المباشرة وفتح الاسواق الهندية .
هذا هو منطق الديمقراطية الانتخابية الزائف .
اما بالنسبة للفقراء الهنود فالمطلوب منهم طالما انهوا واجبهم الانتخابي ان ينصرفوا الى منازلهم . فإن تقرير السياسات سيكون رغما عنهم .
وماذا عن الانتخابات الامريكي ؟ هل يملك الناخبون الامريكان اختيارا حقيقيا ؟
عندما يصبح جون كيري رئيسا لابد ان يتغير بعض حيتان رأس المال والمتعصبين المسيحيين في البيت الابيض ، والقليل من الناس سوف يأسفون لرؤية عرض اكتاف ديك تشيني او دونالد رامسفيلد او جون اشكروفت بلصوصيتهم الوقحة ، ولكن الخوف الحقيقي هو ان تستمر سياساتهم في الادارة الجديدة . ان يكون لدينا بوشية بدون بوش.
ان اصحاب السلطة الحقيقية – المصرفيين ورؤساء مجالس الشركات لايتغيرون مع الانتخابات (وعلى اية حال هم الذين يمولون الطرفين).
ولسوء الحظ انحدرت قيمة الانتخابات الامريكية الى نوع من تنافس الشخصيات . نزاع على من يدير شؤون الامبراطورية بشكل افضل . وجون كيري ليس اقل حماسا عن جورج بوش في مسألة الايمان بالامبراطورية .
لقد صمم النظام السياسي الامريكي بحيث يضمن ان لايصعد الى السلطة من لا يؤمن باهمية تركيبة الجيش – الصناعة – الشركات الكبرى .
واذا ادركت هذا ، لن تدهش اذا عرفت انه سيكون لدينا في هذه الانتخابات اثنان من خريجي جامعة ييل وكلاهما عضوان في جمعية الجمجمة والعظام السرية وكلاهما من اصحاب الملايين وكلاهما يدعوان للحرب بل انهما يتجادلان مثل الاطفال عمن يكون الافضل بقيادة الحرب على الارهاب.
ومثل الرئيس بيل كلنتون قبله ، سوف يستمر كيري بتوسيع التغلغل الامريكي الاقتصادي والعسكري في العالم . انه يقول انه كان سيصوت لصالح الموافقة لبوش على شن الحرب على العراق حتى لو كان يعرف ان العراق لايملك اسلحة دمار شامل . وهو يعد بارسال المزيد من القوات الى العراق . وقد قال مؤخرا انه يدعم سياسات بوش نحو اسرائيل واريل شارون مائة بالمائة . ويقول انه سوف يستبقي على 98% من استقطاعات ضرائب بوش.
اذن تحت غطاء تبادل الاتهامات الحاد هناك توافق تام . ويبدو انه حتى لو انتخب الامريكان كيري سيكون لديهم بوش. الرئيس جون كيربوش او الرئيس جورج بيري.
انه ليس اختيارا حقيقيا . بل اختيار الموجود . مثل اختيار نوع من المنظفات . سواء اشتريت ماركة (ايفوري سنو) او (تايد) فكلاهما من شركة واحدة هي بروكتور اند جامبل.
هذا لايعني ان حزب المؤتمر وبي جي بي والعمال الجديد والمحافظين والديمقراطيين والجمهوريين متماثلون. انهم ليسوا كذلك بطبيعة الحال. ولا منظف تايد يشبه ايفوري سنو : "تايد" حاد الفعالية في حين ان"ايفوري سن" منظف ناعم .
في الهند هناك فرق بين حزب فاشي بشكل علني (بي جي بي ) وحزب يحرض بخبث طائفة ضد اخرى (المؤتمر) ويبذر بذور الطائفية التي يحصدها باقتدار حزب بي جي بي.
هناك فرق في مستوى القسوة بين مرشحي الرئاسة الامريكانيين لهذا العام. لقد قامت الحركة المناهضة للحرب في الولايات المتحدة بعمل خارق بفضح الاكاذيب التي قادت الى غزو العراق رغم الاعلام الدعائي والترهيب الذي واجهته.
لم تكن هذه الخدمة للشعب هنا فقط وانما لكل العالم . ولكن الان اذا دعت هذه الحركة بشكل علني لانتخاب كيري سوف يعتقد بقية العالم ان الحركة توافق على سياساته الداعية الى امبريالية حساسة . هل تكون الامبريالية الامريكية افضل اذا ساندتها الامم المتحدة والدول الاوربية ؟ هل تكون الامبريالية افضل اذا ناشدت الامم المتحدة الجنود الهنود والباكستانيين للقيام باعمال القتل والموت في العراق بدلا من الجنود الامريكان ؟ هل الفرصة الوحيدة التي يترجاها العراقيون هو ان تشارك الشركات الفرنسية والالمانية والروسية في غنائم احتلال بلدهم ؟
هل هذا حقا افضل او اسوأ لنا الذين نعيش في امم مستعمرة ؟ هل من الافضل للعالم ان يكون لديه امبراطور اذكى ام اغبى ؟ هل هذا هو الاختيار الوحيد المتبقي لنا ؟
اعتذر لأن هذه اسئلة قاسية وغير مريحة ولكنها يجب ان تطرح .
الحقيقة هي ان الديمقراطية الانتخابية اصبحت عملية استغلال . فهي توفر لنا فسحة سياسية ضئيلة جدا . ومن السذاجة الاعتقاد ان هذه الفسحة تشكل اختيارا حقيقيا .
ان ازمة الدميقراطية الحديثة عميقة.
على المسرح الكوني ، بعيدا عن سلطات الدول ذات السيادة ، فإن الادوات العالمية للتجارة والمال تشرف على نظام مركب من القوانين والاتفاقيات متعددة الجنسيات التي رسخت نظاما للاستيلاء يخزي الكولونيالية . يسمح هذا النظام بالدخول والخروج غير المقيد لمبالغ ضخمة من رأس المال – اموال ساخنة – داخل وخارج دول العالم الثالث ، ثم املاء السياسة الاقتصادية على هذه الدول. باستخدام التهديد بهروب رأس المال ، ويتغلغل رأس المال الدولي داخل اقتصادات هذه الدول. ان الشركات العملاقة العابرة للقارات تهيمن على البنى التحتية الضرورية والموارد الطبيعية : المعادن و المياه والكهرباء . وفي النهاية ، فإن منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات مالية اخرى مثل بنك التنمية الاسيوي هم الذين يرسمون خطة السياسة الاقتصادية والتشريع البرلماني . وبمزيج قاتل من الغطرسة والقسوة يرفعون مطارقهم على المجتمعات الهشة والمعقدة تاريخيا ويدمرونها.
كل هذا يجري تحت الراية الخفاقة لـ"الاصلاح" .
ونتيجة لهذا الاصلاح في افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية ، افلست الالوف من المشاريع والصناعات الصغيرة وفقد ملايين العمال والعائلات اعمالهم واراضيهم.
وفي هذه الاثناء تطمئننا صحيفة السبيكتاتور في لندن بأننا "نعيش في العصر الاكثر سعادة وصحة وأمنا في تاريخنا البشري" ويتساءل الملايين : من هو "أننا" ؟ اين يعيش ؟ ما اسمه ؟
الشيء الواجب فهمه هو ان الديمقراطية الحديثة اصبحت في عرف الامم وكأنها دين راسخ. ولكن عولمة الشركات ليست كذلك . ولا رأس المال السائل. ولذلك حتى اذا كان رأس المال يحتاج الى قوى الامة لاطفاء الثورات في اقسام الخدم ، فإن هذا الترتيب يضمن عدم امكانية قيام أي امة منفردة بمعارضة عولمة الشركات وحدها .
ان التغيير الجذري لايمكن ان تتفاوض عليه الحكومات ولن يحدث ذلك . لايمكن الا ان يفرضه الشعب. الجماهير التي تستطيع ان تضع ايديها بايدي بعضها عبر الحدود الوطنية .
اذن عندما نتكلم عن "قوة الجماهير في عصر الامبراطورية" آمل الا يكون من الوقاحة افتراض ان الشيء الوحيد الجدير بالمناقشة الجادة هو قوة جماهير معارضة. جماهير تعارض جوهر مفهوم الامبراطورية . جماهير وضعت نفسها في مجابهة مع السلطة المنصبة – حكومات ومؤسسات دولية او وطنية او اقليمية تدعم وتخدم الامبراطورية .
ماهي سبل الاحتجاج المتاحة للجماهير الراغبة في مقاومة الامبراطورية ؟ بالمقاومة ، لا اعني التعبير عن المعارضة فقط ولكن اعني بها فرض التغيير . الامبراطورية تستخدم عدة اسلحة لفتح اسواق مختلفة بالعنوة . وتعرفون تلك الوسائل : دفتر الشيكات وصواريخ كروز.
بالنسبة للجماهير الفقيرة في كثير من البلدان ، لاتظهر الامبراطورية بشكل صواريخ كروز ودبابات كما في العراق او افغانستان او فيتنام . انها تتجسد في حياتهم بصور محلية جدا : فقدان وظائفهم او استلام فواتير كهرباء يعجزون عن سدادها ، او قطع المياه عنهم او اخلائهم من منازلهم وطردهم من اراضيهم. وكل ذلك باشراف الالة القاهرة للدولة والشرطة والجيش والقضاء. انها عملية تفقير مستمرة يعرفها الفقراء منذ زمن بعيد. ماتفعله الامبراطورية هو فرض وتعميق اللامساواة القائمة.
حتى وقت قريب جدا كان من الصعب على الناس ان يروا انفسهم كضحايا غزوات الامبراطورية . ولكن المقاومة المحلية الان بدأت ترى بوضوح هذا الدور . وقد تبدو هذه الكلمات كبيرة ولكنهم في الواقع يجابهون الامبراطورية معتمدين على انفسهم باشكال مختلفة. مختلفة في العراق وفي جنوب افريقيا والارجنتين ومختلفة ايضا في شوارع اوربا والولايات المتحدة .
لقد اتفقت حركات المقاومة والناشطون الفرديون والصحفيون والفنانون وصانعو الافلام على تجريد الامبراطورية من بريقها . لقد وضعوا النقاط على الحروف . وبينوا كيف ان مشروع الليبرالية الجديدة كلف الناس بيوتهم واراضيهم واعمالهم وكرامتهم . لقد جعلوا مما لايفهم مفهوما.
ان هذا نصر كبير . صنعه التنسيق بين الجماعات السياسية اليائسة باشكال مختلفة من الاستراتيجية . ولكنهم جميعا وضعوا هدفا واحدا لغضبهم ونشاطهم وعنادهم. وهذه كانت البداية للعولمة الحقيقية . عولمة الرفض.
بشكل عام هناك نوعان من حركات المقاومة الجماهيرية في دول العالم الثالث اليوم : حركة الناس الذين لا ارض لهم في البرازيل و حركة المناهضين للسد في الهند والزاباتيستا في المكسيك و منتدى ضد الخصخصة في جنوب افريقيا والمئات من الحركات الاخرى التي تقاتل حكوماتها ذات السيادة والتي هي في الواقع حكومات وكيلة لمشروع الليبرالية الجديدة. ومعظم هذه الحركات راديكالية تحارب لتغير هيكل ونموذج " التنمية" في بلادهم.
وهناك ايضا اولئك الذين يقاتلون الاحتلالات الرسمية والوحشية للكولونيالية الجديدة في اراض متنازع عليها والتي رسمت حدودها عادة في القرن الماضي من قبل القوى الاستعمارية. في فلسطين والتبت والشيشان وكشمير وعدة اقاليم في جنوب شرق الهند ، والناس هنا يحاربون من اجل تقرير المصير.
العديد من هذه الحركات كانت راديكالية وحتى ثورية في بداياتها ولكن غالبا بسبب وحشية القمع الذي واجهته تحولت الى حركات محافظة وحتى رجعية حيث تستخدم نفس استراتيجيات العنف واللغة الدينية والثقافة القومية التي تستخدمها الحكومات التي تريد هذه الحركات الحلول محلها .
وكثير من المناضلين في هذه الحركات سيجدون ، مثل اولئك الذين حاربوا الابارتهايد في جنوب افريقيا ، انهم ما ان يتخلصوا من الاحتلال الصريح حتى يدخلوا معركة اخرى لمحاربة الكولونيالية الاقتصادية المتخفية.
وفي هذه الاثناء ، عندما تزداد الهوة بين الاغنياء والفقراء وتزداد حدة المعركة من اجل الهيمنة على موارد العالم ، تعود الكولونيالية الاقتصادية من خلال العدوان العسكري الرسمي .
والعراق اليوم هو نموذج مؤلم على هذا . غزو لا شرعي . احتلال وحشي باسم التحرير. اعادة كتابة القوانين التي تسمح بالاستيلاء المخزي على ثروة وموارد البلاد من قبل الشركات التابعة للاحتلال والان مسرحية " الحكومة العراقية " المحلية.
لهذه الاسباب فمن السخافة ادانة المقاومة للاحتلال الامريكي للعراق باعتبارها من تخطيط ارهابيين او متمردين او موالين لصدام حسين . فعلى أي حال لو كانت الولايات المتحدة قد تعرضت لغزو هل سيكون كل من يقاوم هذا الغزو هو ارهابي او متمرد او موال لبوش ؟
ان المقاومة العراقية تحارب في جبهة المعركة ضد الامبراطورية . ولهذا فإن هذه المعركة هي معركتنا .
ومثل معظم حركات المقاومة ، تتشكل المقاومة العراقية من اطياف مختلفة . . بعثيين سابقين وليبراليين واسلاميين ومتعاونين انقلبوا على الاحتلال وشيوعيين الخ . ومن الطبيعي ان تبتلي المقاومة ايضا بالانتهازية والمنافسة المحلية والدماجوجية و التصرفات الاجرامية . ولكن اذا كنا سندعم الحركات النقية فقط فلن تكون هناك مقاومة جديرة بنقائنا .
ليس معنى هذا اننا يجب الا ننتقد حركات المقاومة . الكثير منها يفتقد الديمقراطية ومن تأليه زعمائهم ومن نقص الشفافية ومن افتقاد الرؤية والاتجاه ولكن اكثر من أي شيء تعاني هذه الحركات من تشويه السمعة والقمع وقلة الموارد.
وقبل ان نعظ المقاومة العراقية في كيفية توجيه معركتها . علينا ان نقوم بدورنا نحن في مقاومة الولايات المتحدة وحلفائها وحثها على الانسحاب من العراق.
كانت اول مجابهة في الولايات المتحدة بين حركات العدالة العالمية والليبرالية الجديدة في مؤتمر منظمة التجارة العالمية في سياتل في كانون الاول /ديسمبر 1999 . وبالنسبة لكثير من حركات الجماهير في الدول النامية التي كانت تحارب وحدها لمدة طويلة، كانت سياتل اول علامة سارة على ان ثمة اناس من الدول الامبريالية يشاطرونهم الان غضبهم ورؤيتهم لعالم جديد.
في كانون الثاني / يناير 2001 في بورتو اليجرا في البرازيل تجمع 20000 من الناشطين والطلاب وصانعي الافلام – بعضهم من افضل العقول في العالم – من اجل تبادل التجارب و الافكار حول سبل مواجهة الامبراطورية. كان ذلك ميلاد منتدى العالم الاجتماعي . كان اول تجمع رسمي لنوع جديد من "قوة الجماهير" . . مثيرة وفوضوية وغير مؤدلجة. وكان شعار المنتدى " عالم آخر ممكن" وقد اصبح منبرا لمئات المحادثات والمناقشات والندوات التي سعت لصياغة رؤية حول ماهية العالم الذي نريده.
بحلول كانون الثاني / يناير 2004 عندما عقد المنتدى الرابع في مومباي في الهند اجتذب 200000 من المشاركين. لم اكن في حياتي جزءا من تجمع اكثر جاذبية. كان علامة على نجاح المنتدى الاجتماعي الذي أغفلته تماما وسائل الاعلام شبه الرسمية . ولكن الان المنتدى مهدد بسبب نجاحه. لقد اتاح جو المنتدى الآمن والمفتوح للسياسيين والمنظمات غير الحكومية المندمجة مع الانظمة السياسية والاقتصادية التي يعارضها المنتدى ان تشارك وتتحدث فيه.
الخطر الثاني هو ان المنتدى الاجتماعي العالمي الذي لعب دورا مهما في حركة العدالة العالمية يتعرض لخطر ان يصبح غاية بحد ذاته. فإن مجرد تنظيمه كل سنة يستهلك طاقات بعض افضل الناشطين. واذا حل الحديث عن المقاومة محل العصيان المدني الحقيقي ، عندها يصبح المنتدى رصيدا لاولئك الذين تأسس المنتدى لمعارضتهم. يجب الحفاظ على المنتدى ويجب ان ينمو ولكن علينا ان نجد طرقا لتحويل احاديثنا فيه الى افعال حقيقية.
وبما ان حركات المقاومة بدأت تمد اذرعها عبر الحدود الوطنية وتشكل خطرا حقيقيا ، طورت الحكومات استراتيجياتها الخاصة بالتعامل مع تلك الحركات ، والتي تتراوح بين الاحتواء والقمع.
سوف اتحدث عن ثلاثة من الاخطار المعاصرة التي تجابه حركات المقاومة : صعوبة ايجاد نقطة التقاء بين الحركات الجماهيرية والاعلام ، اخطار تحويل المقاومة الى منظمات غير حكومية، والمجابهة بين حركات المقاومة والحكومات القمعية.
ان نقطة التقاء الاعلام مع الحركات الجماهيرية امر معقد.
لقد تعلمت الحكومات ان الاعلام الذي تسوقه الازمات لا يملك ان يستقر على موضوع واحد لمدة طويلة . فهو مثلما تحتاج المشاريع التجارية الى مدد مالي نقدي ، فإن الاعلام يحتاج الى مدد ازمات . دول كاملة تصبح اخبارا قديمة . فهي تختفي عن الوجود ويصبح الظلام اكثر عتمة مما كان قبل ان يشع الضياء عليها لبرهة وجيزة . لقد رأينا ذلك يحدث في افغانستان عندما انسحب السوفيت والان بعد الحرب عليها وتنصيب وكالة المخابرات المركزية حامد كرزاي، قذفت بافغانستان الى زعماء الحرب مرة اخرى.
وعميل آخر لوكالة المخابرات المركزية وهو اياد علاوي جرى تنصيبه في العراق ولهذا ربما يكون قد حان الوقت لتحول الاعلام عن العراق ايضا.
وفي حين ان الحكومات تشحذ فن انتظار الاوقات المواتية لعبور الازمات ، تقع حركات المقاومة دائما في فخ دوامة صنع الازمات وهي تحاول ايجاد طرق لصناعتها باشكال مهضومة ومفهومة للجمهور.
كل حركة شعبية تحترم نفسها ، كل "قضية" يفترض ان يكون لها منطاد خاص بها يرتفع في الجو ويعلن عن هويتها و اهدافها.
لهذا السبب، فإن الموت بسبب الجوع يعتبر اعلانا اكثر تأثيرا في التعبير عن الفقر من ملايين الناس الذين يعانون من امراض نقص التغذية ، وكذلك السدود لاتعتبر مادة اخبارية حتى تحدث اضرارا بالغة يجعلها جديرة بشاشات التلفزيون (وعندها يكون قد فات الاوان).
فيما مضى ، كان الوقوف لأيام طويلة وسط الماء الذي يتصاعد داخل خزان وانت تراقب بيتك وممتلكاتك وهي تعوم مبتعدة ، طريقة ناجعة للاحتجاج على بناء سد ضخم ، ولكن لم يعد الامر كذلك . بل انه يصيب الاعلام بملل قاتل. وهكذا فليس امام مئات الالوف من الناس الذين تشردهم السدود سوى ابتكار حيل جديدة او التخلي عن المعركة.
التظاهرات الملونة ومسيرات نهاية الاسبوع وحدها ليست كافية لايقاف الحروب. لايوقف الحروب سوى ان يرفض الجنود القتال و يرفض العمال شحن الاسلحة في السفن والطائرات ويقاطع الشعب المخافر الاقتصادية للامبراطورية التي تمتد عبر الكون .
اذا اردنا ان نحتفظ بمكانة العصيان المدني ، ينبغي علينا ان نحرر انفسنا من طغيان اعلان الازمات وخوفه مما يجري على ارض الواقع . ينبغي ان نستخدم خبرتنا وخيالنا وابداعنا لنسائل الوسائل الحكومية التي تضمن بقاء "الاوضاع الطبيعية" كما هي : قاسية وغير عادلة و غير مقبولة. علينا ان نفضح السياسات والعمليات التي تجعل من الاشياء الاعتيادية : الطعام والماء والملجأ والكرامة – حلما بعيد المنال للناس العاديين . ان الضربة الوقائية الحقيقية هي ان نفهم ان الحروب هي نهاية طبيعية لسلام ناقص وغير عادل .
وبقدر تعلق الامر بحركات المقاومة الجماهيرية ، فإن الحقيقة هو انه ليس هناك تغطية اعلامية تستطيع ان تعادل قوة الجماهير على الارض. ليس هناك بديل في الواقع للتحريك السياسي التقليدي القاصم للظهر.
لقد وسعت شركات العولمة الهوة بين اولئك الذين يصنعون القرارات وبين الذين عليهم ان يعانوا نتائج هذه القرارات. وفي منتديات مثل المنتدى الاجتماعي العالمي يمكن لحركات المقاومة المحلية من تقليل تلك الهوة والاتصال بنظائرهم في البلاد الغنية . وهذا التحالف مهم وهائل. مثلا ، عندما كان يبنى اول سد خاص في الهند ، وهو سد ماهيشوار ، عملت التحالفات بين نرمادا باتشاو اندولان و منظمة اورجوالد الالمانية و اعلان بيرن في سويسرا وشبكة الانهار الدولية في بركلي ، عملت معا لاخراج سلسلة من البنوك والشركات الدولية من المشروع. ولم يكن هذا ممكنا لو لم يكن هناك حركة مقاومة راسخة على الارض. وقد ضخم المؤيدون على المسرح العالمي صوت تلك الحركة المحلية مما احرج المستثمرين واجبرهم على الانسحاب.
ان عددا لا محدودا من تحالفات مماثلة تستهدف مشروعات معينة وشركات معينة سوف يساعد على خلق عالم افضل. يجب ان نبدأ بالشركات التي تعاملت مع نظام صدام حسين والان تتربح من غزو واحتلال العراق.
الخطر الثاني الذي يواجه الحركات الجماهيرية هو تحويل المقاومة الى منظمات غير حكومية. سيكون من السهل حرف ما اقوله الى تجريم كل المنظمات غير الحكومية. وهذا ليس صحيحا. في المياه المعتمة للمنظمات غير الحكومية الزائفة التي تنشأ لاستنزاف اموال المنح او لمراوغة الضرائب ، من الطبيعي ان تجد الى جانبها منظمات غير حكومية تقوم بعمل عظيم . ولكن من المهم النظر في ظاهرة المنظمات غير الحكومية في اطار سياسي ا وسع.
في الهند ، مثلا ، بدأت ظاهرة ازدهار المنظمات غير الحكومية الممولة في اواخر الثمانينات والتسعينات . وقد واكب ذلك انفتاحا في الاسواق الهندية نحو الليبرالية الجديدة. في ذلك الوقت ، كانت الحكومة الهندية ، تماشيا مع متطلبات التعديل الهيكلي ، تنسحب من تمويل التنمية الزراعية والزراعة والطاقة والنقل والصحة العامة. ومع تخلي الدولة عن دورها التقليدي ، دخلت المنظمات غير الحكومية لتحل محلها في هذه المجالات. الفرق ، طبعا ، ان الاموال المتاحة لللمنظمات كانت جزءا ضئيلا جدا من الاقتطاع الفعلي للنفقات العامة. ومعظم المنظمات غير الحكومية الكبيرة تمولها وترعاها هيئات الاغاثة والتنمية والتي بدورها تمول من الحكومات الغربية والبنك الدولي والامم المتحدة وبعض الشركات متعددة الجنسية . ورغم انها قد لاتكون نفس الهيئات ولكنها بالتأكيد جزء من نفس التشكيلة السياسية الفضفاضة التي تشرف على المشروع الليبرالي الجديد والتي تطالب ببتر الدعم الحكومي للجماهير.
لماذا تمول هذه الهيئات المنظمات غير الحكومية ؟ هل يمكن ان يكون ذلك هو نفس الدافع التبشيري القديم ؟ ام الشعور بالذنب ؟ ان الامر يتجاوز ذلك بقليل . تعطي المنظمات غير الحكومية الانطباع بأنها تملأ الفراغ الذي ينشأ بتراجع دور الدولة. وهي كذلك ، ولكن بطريقة غير مترابطة واقعيا. ان مساهمتهم الحقيقية هي نزع فتيل الغضب السياسي وتوفير الحقوق الاساسية للمواطن وكأنها صدقات واحسان.
انهم يغيرون النفسية الجماهيرية. فهم يحولون الناس الى ضحايا معتمدين عليهم ويثلمون شفرات المقاومة السياسية . تعمل المنظمات غير الحكومية كمخفف للصدمات بين الحكومة والشعب. بين الامبراطورية ورعاياها. لقد اصبحت هذه المنظمات الوسيط والمترجم وميسر الامور .
وفي نهاية المطاف تقف المنظمات غير الحكومية مسؤولة امام مموليها وليس امامالشعب الذي تعمل وسطه. ويبدو انه كلما كان الخراب الذي تسببه الليبرالية الجديدة اعظم كانت انطلاقة المنظمات غير الحكومية اكبر . لاشيء يوضح هذا اكثر دقة من ظاهرة تحضير الولايات المتحدة لغزو دولة وفي نفس الوقت اعداد المنظمات غير الحكومية للذهاب وتنظيف الخراب.
ومن اجل ان تضمن هذه المنظمات عدم تعرض تمويلها الى الخطر وان الحكومات التي تعمل في دولها سوف تسمح لهم بالعمل ، تضطر المنظمات غير الحكومية الى تقديم اعمالها في اطار ضحل مجرد تقريبا من أي مضمون سياسي او تاريخي .
ان تقارير الكوارث السياسية عن الدول الفقيرة ومناطق الحروب تجعل من الشعوب ( داكنة البشرة) في تلك الدول وكأنها ضحايا اوبئة . . هندي ناقص التغذية آخر ، اثيوبي آخر يموت جوعا ، معسكر لاجئين افغاني آخر، سوداني معوق آخر . . يحتاجون الى مساعدة الرجل الابيض . انهم يؤكدون الانماط العنصرية ويبرزون انجازات ومساعدات وتعاطف الحضارة الغربية . انهم المبشرون العلمانيون في العصر الحديث.
وفي النهاية – وعلى نطاق اصغر ولكن اكثر مكرا – فإن رأس المال المتاح للمنظمات غير الحكومية يلعب نفس الدور في السياسة البديلة كرأس المال المضاربي الذي يتدفق داخل وخارج اقتصادات الدول الفقيرة . يبدأ في املاء الاجندة . ويحول المجابهات الى مفاوضات. انه يفقد المقاومة موقفها السياسي. وهو يتدخل مع الحركات الشعبية المحلية التي كانت دائما ذاتية الاعتماد ، وتملك المنظمات غير الحكومية اموالا يمكنها من تشغيل الناس المحليين الذين قد يتحولون – بعكس ذلك – الى ناشطين في حركات المقاومة ، ولكنهم الان يشعرون انهم يقومون بعمل جيد مباشر ومبدع (ويكسبون عيشهم وهم يفعلون ذلك ) . والمقاومة السياسية الحقيقية لا تقدم مثل هذه الطرق السريعة المثمرة .
ان تحويل الحركات السياسية الى منظمات غير حكومية يهدد بخطر تحول المقاومة الى وظيفة ثابتة ، مهذبة ومعقولة وبأجر جيد وبشيء من المتعة . المقاومة الحقيقية لها نتائج حقيقية وبدون اجر .
وهذا يقودنا الى الخطر الثالث الذي اود الحديث عنه هذه الليلة : الطبيعة القاتلة للمجابهة الحقيقية بين حركات المقاومة والحكومات القمعية . بين قوة الجماهير وعملاء الامبراطورية .
ما ان تبدي المقاومة المدنية اقل علامة على تطورها من فعل رمزي الى أي شيء يهدد بأقل خطر ، يبدأ الضرب العنيف وبدون رحمة . لقد رأينا ما حدث للتظاهرات في سياتل وميامي وجوثنبرج وجنوة.
في الولايات المتحدة ، لديك قانون الوطني الامريكي الذي اصبح الطبعة الزرقاء لكل القوانين المضادة للارهاب التي سنتها الحكومات في انحاء العالم . كبح الحرية باسم حماية الحرية. وطالما سلمنا حرياتنا ، لن نسترجعها الا بثورة .
لبعض الحكومات خبرة واسعة في كبح الحريات مع احتفاظها برائحة عطرة. وحكومة الهند وهي ذات يد طولى بهذه اللعبة، تقود بها هذا الطريق .
على مدى السنوات شرعت الحكومة الهندية مجموعة من القوانين التي تسمح لها بأن تتهم أي شخص بأنه ارهابي او متمرد او مسلح. عندنا قانون السلطات الخاصة للقوات المسلحة ، وقانون الامن العام وقانون امن المناطق الخاصة وقانون العصابات وقانون المناطق الارهابية والممزقة و القانون الاحدث وهو قانون منع الارهاب وهو المضاد الحيوي الاشمل لمرض المعارضة.
هناك خطوات اخرى تتخذ ، مثل احكام المحاكم التي تكبح حرية الرأي وحق عمال الحكومة في الاضراب وحق الحياة والمعيشة . لقد بدأت المحاكم في الهند تدير حياتنا . وانتقاد المحاكم جريمة جنائية .
ولكن نعود مرة اخرى الى اجراءات مكافحة الارهاب ، فخلال العقد الماضي كان عدد الناس الذين قتلتهم الشرطة وقوات الامن يصل الى عشرات الالوف ، في ولاية اندرا براديش (مدللة شركات العولمة في الهند) كل عام يقتل في المتوسط حوالي 200 (متطرف) فيما يسمى (المواجهات) . وتفخر شرطة بومباي بعدد (رجال العصابات) الذين قتلتهم في (عمليات اطلاق النار) في كشمير ، في وضع يكاد يصل الى حالة حرب ، قتل مايقارب 80000 شخص منذ عام 1989. واختفى الالوف . اما في الاقاليم الشمالية الشرقية فالوضع لايختلف.
في السنوات الاخيرة فتحت الشرطة الهندية النار على اناس عزل . والاسلوب المفضل هو قتلهم ثم تسميتهم ارهابيين . والهند ليست وحدها فقد رأينا اوضاعا مشابهة في دول مثل بوليفيا وتشيلي وجنوب افريقيا. في عصر الليبرالية الجديدة الفقر جريمة والاحتجاج ضده صار يعرف بأنه ارهاب.
في الهند يسمى الناس قانون منع الارهاب " قانون انتاج الارهاب". انه قانون متعدد الاستعمالات يمكن تطبيقه على أي شخص من عضو بالقاعدة الى محصل الاتوبيس المتشكي . وكما في كل القوانين المكافحة للارهاب ، فإن عبقرية هذا القانون هو انه يصلح لأي شيء تريده الحكومة . بعد مذبحة 2002 المنظمة التي شاركت فيها الحكومة في ولاية كوجارات قتل حوالي 2000 مسلم بوحشية من قبل رعاع هندوس و شرد حوالي 150000 من بيوتهم ، ولكن اعتقل 287 بموجب قانون منع الارهاب ومن هؤلاء 286 مسلم وواحد من السيخ !!
والقانون يسمح بانتزاع الاعترافات في مراكز الشرطة لتقدم باعتبارها ادلة قضائية. ولهذا فإن التعذيب يحل محل الاستجوابات. ويسجل مركز توثيق حقوق الانسان في جنوب اسيا أن الهند لديها اعلى رقم في وفيات التعذيب والاحتجاز في العالم . وتبين سجلات الحكومة انه كان هناك 1307 وفاة في احتجاز قضائي في 2002 وحدها.
منذ عدة اشهر ، كنت عضوة في محكمة الشعب حول قانون منع الارهاب . وفي خلال يومين استمعنا الى شهادات مرعبة عما يحدث في بلادنا الديمقراطية الرائعة . كل شيء : من اجبار الناس على شرب بولهم الى تجريدهم من الثياب الى اذلالهم وصعقهم بالكهرباء وحرقهم باعقاب السجائر الى ادخا لخوازيق حديدية في الشرج الى الضرب والركل حتى الموت.
وقد وعدت الحكومة الجديدة بالغاء القانون . ستصيبني الدهشة اذا حدث ذلك قبل ان يشرع في مكانه قانون مشابه ولكن تحت مسمى آخر .
عندما تغلق كل السبل للمعارضة السلمية ، وكل من يحتج ضد انتهاك حقوقه الانسانية يسمى ارهابيا ، هل يدهشنا حقا اذا اكتسح اجزاء شاسعة من البلاد اولئك الذين يؤمنون بالمقاومة المسلحة دون ان تستطيع الدولة السيطرة عليهم : في كشمير وفي الاقاليم الشمالية الشرقية واجزاء كبيرة من ماديا براديش وتشاتسجارث وجرخند واندرا براديش . والناس العاديون في هذه المناطق محصورون بين عنف الجماعات المسلحة والدولة .
في كشمير ، يقدر الجيش الهندي ان هناك ما بين 3000 الى 4000 مسلح . ومن اجل السيطرة عليهم تنشر الحكومة حوالي 500000 جندي . ومن الواضح ان الجيش لايقصد ان يسيطر على المسلحين فحسب وانما كل السكان المهانين والتعساء الذين يرون في الجيش الهندي قوة احتلال.
ويسمح قانون السلطات الخاصة للقوات المسلحة ليس للضباط وحدهم وانما حتى الضباط الصغار في الجيش باستخدام القوة وحتى قتل أي شخص بمجرد الاشتباه بأنه يسبب تكديرا للأمن العام . وقد فرض لأول مرة في بعض المناطق في ولاية مانيبور عام 1958. اليوم يطبق تقريبا في كل مناطق الشمال الشرقي وفي كشمير. ان وثائق امثلة التعذيب والاختفاءات والموت والاغتصاب والاعدام الفوري الذي تقوم بها القوات الخاصة كاف لاصابتك بالغثيان والقيء.
في اندرا براديش ، في قلب الهند ، قامت جماعة الحرب الشعبية الماركسية اللينينية المسلحة – التي انخرطت لسنوات في نزاع مسلحة وكانت الهدف الرئيسي لكثير من "المواجهات" المزيفة لشرطة اندرا - بعقد اجتماعها الاول منذ سنوات في 28/7/2004 في مدينة وارانجال.
وحضر الاجتماع مئات الالوف من الناس الذين اعتبروا جميعا ارهابيين بموجب قانون منع الارهاب. هل يمكن اعتقالهم جميعا في غونتنامو هندي ؟
وجميع سكان الشمال الشرقي ووادي كشمير على حافة الغليان والانفجار . ماذا سوف تفعل الحكومة بكل هذه الملايين من البشر ؟
ليس هناك الان في العالم جدل اكثر اهمية من ذلك الذي يدور حول استراتيجيات المقاومة . واختيار الاستراتيجية ليس كليا في ايدي الجماهير . انه ايضا في ايدي السركار .
فعندما غزت الولايات المتحدة العراق بالاسلوب الذي نفذته ، بقوة عسكرية كاسحة ، هل كان يمكن ان نتوقع من المقاومة ان تكون جيشا تقليديا ؟ (طبعا حتى لو كان تقليديا ، فسوف يقال عنه انه ارهابي) . ومن المفارقة ان تجعل ترسانة الحكومة الامريكية من الاسلحة وقوة النيران والطيران المتفوقة ، من الارهاب رد فعل لا يمكن تفاديه. فما يفتقده الناس من الثروة والقوة يعوضوه بالتخفي والاستراتيجية .
في هذه الايام القلقة واليائسة ، اذا لم تعمل الحكومات كل مابوسعها للاعتراف بالمقاومة السلمية ، فإنها تقدم صنيعا لاولئك الذين يتحولون الى العنف. ولن تكون ثمة صدقية لادانة الحكومة للارهاب اذا لم تبين انها تفتح صدرها للمعارضة السلمية .
ولكنها بدلا من ذلك تسحق حركات المقاومة السلمية . وكل نوع من انواع التحريك السياسي الجماهيري إما يشترى او يسحق او يهمش.
وفي هذه الاثناء ، تغدق الحكومات والاعلام ولاتنسوا صناعة الافلام ، كل وقتهم واهتمامهم وتقنياتهم وابحاثهم واعجابهم على الحرب والارهاب. العنف يجابه بالعنف .
الرسالة التي يبعثها هذا المفهوم خطرة وتثير القلق : اذا ارادت الجماهير ان تعلن عن مظلمة اصابتها فإن العنف اكثر فعالية من اللاعنف.
وفيما تزداد الهوة بين الاغنياء والفقراء ، وفيما تصبح الحاجة الى السيطرة على موارد العالم لاطعام الماكنة الرأسمالية الهائلة اكثر الحاحا ، سوف يتصاعد الاضطراب في العالم .
وبالنسبة لنا نحن الذين على الجانب الخاطيء من الامبراطورية ، لقد تجاوز الاذلال الاحتمال.
كل طفل عراقي قتلته الولايات المتحدة هو طفلنا . كل سجين عذب في ابو غريب هو رفيقنا . صرخاتهم هي صرخاتنا، و اهانتهم اهانة لنا . والجنود الامريكان الذين يحاربون في العراق – معظمهم متطوعون في تجانيد الفقر من مدن صغيرة وازقة فقيرة – هم ضحايا مثل العراقيين تماما لذات العملية المريعة التي تطلب منهم ان يموتوا من اجل نصر لن يكون لهم .
رؤساء الشركات العملاقة ، المصرفيون ، السياسيون ، القضاة ، الجنرالات . . ينظرون الينا من عليائهم ويهزون رؤوسهم قائلين بحدة :" ليس ثمة بديل " ويطلقون علينا كلاب الحرب .
ثم من اطلال افغانستان ومن انقاض العراق والشيشان ومن شوارع فلسطين المحتلة وجبال كشمير ومن تلال وسهول كولومبيا و غابات اندرا براديش واسام يأتي الجواب الرهيب : " ليس هناك بديل سوى الارهاب" الارهاب ، الكفاح المسلح ، التمرد . سمه ماتشاء .
ان الارهاب بشع يجرد مرتكبه وضحيته على السواء من صفة الانسانية . ولكن كذلك تفعل الحرب ايضا . يمكنك القول ان الارهاب هو خصخصة الحرب. "الارهابيون" هم اناس لايؤمنون بأحتكار الدولة لشرعية استخدام العنف.
ان المجتمع البشري يتجه نحو مصير رهيب.
ولكن بالطبع هناك بديل "للارهاب" . . اسمه العدل .
وقد حان الوقت للاعتراف بأنه لا الاسلحة النووية او الهيمنة المطلقة او ادوات التعذيب او مجالس الحكم او اللويا جركا يمكن ان تشتري السلام على حساب العدل.
ان شوق البعض الى الهيمنة والتفوق سيقابله توق الاخرين الى الكرامة والعدل.
اما شكل المعركة القادمة ، هل تكون جميلة او دموية . . هذا يعتمد علينا
* *
ارونداتي روي ولدت في الهند 1959 (في بعض المراجع 1961) ودرست العمارة في نيو دلهي حيث تعيش الان وعملت في تصميم الافلام والتمثيل وكتابة المسرحية . وفازت اول رواية لها (اله الاشياء الصغيرة) بجائزة بوكر عام 1997 وهي افضل جائزة بريطانية . وبيعت من هذه الرواية 6 ملايين نسخة وترجمت الى 20 لغة. والفت كتبا اخرى عديدة في غير مجال الرواية . ومنها: دفتر الشيكات وصاروخ كروز ، تكاليف المعيشة ، وسياسة القوة، ودليل الشخص العادي الى الامبراطورية.
* موقع الديمقراطية الان 16/8/ 2004
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق