قصة قصيرة
بثينة الناصري
لا أحد يعرف كيف اكتسبت (الحاجةعديلة) لقبها القدسي هذا، وقد اختلط
على أحفادها إن كانت ذهبت فعلا الى الحج أو إنه مجرد لقب شرفي حازته لكبر سنها وقدرها
في العائلة. ولم تعد الحقيقة تهم أحدا لولا الواقعة الأخيرة.
الحاجة عديلة رحلت عن دنيا البشر منذ أكثر من عشرين عاما، ولم يعد أحد
يذكرها إلا في نادرة او طرفة في جلسة عائلية. ولكن ابنتها الوحيدة (بكرية) لاتفتأ تذكرها
بالدعاء عقب كل صلاة.
إلا أن ماحدث أخيرا حرك مياها راكدة كثيرة، بُعثت فيها الحاجة عديلة
في عنفوان لم يعهد فيها مع قبل.
ولا يدري أحد ما الذي حدا بالصحفي كامل فهمي الذي لم يعرف عنه كتابة القصص
والروايات أن يملأ صفحته الثقافية في الجريدة التي يعمل بها بجزء أول من مسلسل قصصي
كما أعلن ووعد القارى بنشر الجزء الثاني والختامي في الإسبوع التالي.
كانت القصة المسلسلة بعنوان (حج الست عديلة) وكانت ستمر مرور الكرام لولا
أن كاملا كان قد انتسب للعائلة بالزواج من ابنة عمة (عديلة) والتي توفيت ايضا في وقت
مبكر دون أن تخلف ذرية، وهكذا تقطعت سبل التواصل بين العائلة وكامل، حتى يمكن القول
انه على مدى ربع قرن لم يقرأ له أحد من العائلة شيئا من مقالاته الصحفية، وبالتأكيد
لم يعرف أحد بإشرافه منذ عدة سنوات على صفحة ثقافية إسبوعية في جريدة (الناس).
ولكن في يوم ما ، حين كانت إحدى الحفيدات تقلب صفحات الانترنيت ، وقع بصرها على عنوان الجزء الأول من القصة الى جانب اسم (كامل فهمي).
(كانت امنية (الست عديلة) أن تذهب الى مكة والمدينة حاجة، وتزور قبر الرسول
وتطوف حول بيت الله ، ومن اجل ذلك كانت تضع القرش على القرش في صندوق مخف تحت طيات
الملابس في دولابها. على مدى سنوات ، كانت تكابد حرمان نفسها من شراء هدمة جديدة، أو
متعة من متع الدنيا، وكانت تتحايل على توفير قروش قليلة من مصروف البيت حتى شاع عنها
بخلها وتقتيرها ، واقتصارها على شراء الرخيص والتالف من الخضروات والفاكهة.)
***
هكذا بدأ كامل فهمي قصته، فصاحت الحفيدة تنادي أمها:
- ماما .. العم كامل كتب قصة عن الحاجة عديلة.
- الحاجة عديلة ؟ عديلتنا؟ أين؟ ماذا يقول؟
استمرت الحفيدة تقرأ :
(بعد سنوات تجمع مبلغ كاف في ذلك الصندوق الصغير المخفي تحت طيات الهدوم.
عدته مرارا ونقلته الى حقيبة يدها بحرص وعناية. وضعت الحقيبة تلك الليلة
تحت مخدتها. ومع أول تباشير الفجر، نهضت قلقة. سحبت الحقيبة وعدت الجنيهات مرة أخرى.
ثم صلّت وتناولت افطارها على عجل، ثم ارتدت ملابس الخروج، احتضنت الحقيبة .. وغادرت
المنزل.)
اشتبكت خطوط الهواتف النقالة بين أفراد عائلة الحاجة عديلة . وصل الخبر
الى إبنتها (بكرية) فشاطت غضبا وطلبت من آخر محدثيها أن يقرأ عليها القصة كلمة كلمة
في الهاتف أو يرسل اليها نسخة مصورة.
- لن أسكت وسوف أحصل على القصة بأي وسيلة. هل قال انها كانت بخيلة وتسرق
فلوس مصروف البيت دون علم أبي؟
(تلفتت الست عديلة حولها وهي تخترق الشوارع القريبة، حتى أوقفت سيارة أجرة . صعدت اليها مسرعة، وتلفظت للسائق بالعنوان. فكرت فيما السيارة تنهب الطريق ان عليها بعد دفع ثمن رحلة الحج أن تستبقي بعض النقود لشراء ملابس الإحرام وربما حقيبة سفر تتسع لأشيائها وللهدايا الصغيرة المباركة التي ستأتي بها من الحج.)
كان كامل فهمي قد عانى كثيرا في جمع أجزاء القصة. كانت هناك عدة روايات
استمع اليها أثناء وجوده داخل العائلة. كان البعض يبتسم حين ياتي ذكرها ويهز رأسه أسفا،
والبعض يشيد بإصرارها على تحقيق حلم حياتها وآخرون كانوا يكتفون بالصمت.
صاحت ابنتها في وجه محدثتها:
- أريد رقم هاتف كامل. لابد أن أوقفه عند حده.
**
(عندما وقفت سيارة الأجرة أخيرا عند المكان، وأرادت الست عديلة الهبوط،
اشتبكت عباءتها بالباب، وبعد لأي ، وشد وجذب ، استطاعت تخليص نفسها ، وقبل ان تغلق
الباب، أشار لها السائق أنها نسيت حقيبتها، فتناولتها من يده بقوة ، فيما انطلقت السيارة
مبتعدة.
صعدت درجات السلم المؤدي الى شركة السفر. دلفت الى الداخل وجلست في انتظار
دورها.
تحسست الحقيبة وفتحتها للمرة الأخيرة.. توترت أصابعها وهي تهوي الى فراغ،
لم تجد رزمة النقود في موضعها. هبط قلبها وهي تقلب الحقيبة . لم تجد سوى المبلغ الذي
عزلته في جيب لشراء ملابس الإحرام.
تلفتت حولها مذعورة . هرعت الى باب الخروج. نظرت الى السيارات المارقة
في الشارع..
أحست بتنميل وخدر في رأسها .. ومثل دوار .. أمسكت حافة الباب لئلا تهوي الى الأرض.)
- ماهذا ؟ هل هذه كل القصة؟
- بل الجزء الأول والثاني بعد إسبوع
اقترحت العمة الكبيرة أن تدعو كامل فهمي الى اجتماع عائلي في بيتها ،
وحاولت تهدئة (بكرية)
- اتركي الموضوع لي
- ماذا ستقولين له؟ لقد نشر الفضيحة وانتهى الأمر. سوف أقدم ضده شكوى
قضائية.
- بأي تهمة؟
- ماذا تقصدين بأي تهمة؟ السب والقذف طبعا. وصف المرحومة أمي بأنها كانت
مقترة وسارقة وألمح أنها لم تذهب الى الحج . التهمة ثابتة فقد ذكر اسمها الحقيقي.
هزت العمة رأسها مؤيدة وقالت:
- هذه هي الغلطة في الواقع. ماذا جرى له؟ أين كان عقله؟
ثم عادت تتوسل :
- ولكن ارجوك.. اتركي المسألة لي..
كان رأي كبراء العائلة ان الضرر قد وقع ولابد من تدارك الآتي.
قال حكيمهم:
- المهم الآن أن نعرف ماذا يريد ان يكتب في الجزء الثاني، وليكن الاجتماع في أسرع وقت
احتدم النقاش في بيت العمة الكبيرة ، وكان رجال ونساء العائلة القادمون
من شتى أطراف القاهرة يتحلقون حول كامل فهمي الذي كان يمسك بعصبية نسخة من الجريدة
يلوح بها ويقرأ منها بين الحين والآخر مقاطع من القصة المنشورة ، ويعود يؤكد لهم:
- هذه قصة .. يعني خيال ..
قاطعته بكرية :
- كيف خيال؟ وانت ذكرت وصف المرحومة واسمها؟
- ياسيدتي .. إفهمي .. الكاتب يستوحي شخصياته من الواقع ولكنه يخلق عالما
خياليا يعيشون فيه
قال كبير العائلة وهو يشير للجميع بالسكوت:
- باختصار، هل تريد القول ان الحاجة عديلة لم تذهب الى الحج؟ ,أن لقب
(الحاجة) لا أساس له؟
هاجت الأصوات مرة أخرى، زاعقة ، ضاجة، متداخلة . ارتفع صوت (أحمد) ابن
بكرية وهو يكاد يصرخ:
- نحن نفهم القصص. انت تريد أن تقول أن جدتي الحاجة سرقت فلوس الحج من
مصروف البيت ولهذا حرمها الله من زيارة بيته
رد كامل "إذا كان هذا هو تفسيرك للقصة ، فهذا أمر يخصك"
تجهمت بكرية وهي تقول بإزدراء:
- سرقت؟ عيب عليك ياكامل. لم اكن أتوقع ذلك منك
صرخ كامل بنفاد صبر :
- أين كلمة ” سرقت“ ؟
ووضع الجريدة تحت عينيها:
- هل قرأت القصة أولا؟
رفعت بكرية صوتها عاليا :
- لاحاجة لقراءة هذه القمامة . الكل يتحدث عنها
أشار كبير العائلة للحاضرين بالسكوت ، وتنحنح وهو يقول:
- إهدأوا قليلا.. دعونا نقول المفيد. القصة نشرت وانتهى الأمر مهما كان
قصد السيد كامل غفر الله له. الان انصت لي يا كامل. ماذا تنوي ان تكتب في الحلقة القادمة؟
الست عديلة ضاعت فلوسها ، تحويشة العمر.. ماذا بعد؟
- والله ياعمي الحاج.. لا أدري. لم أكتب النهاية بعد. تعرف عند كتابة
قصة ، القصة تكتب نفسها
- كيف تكتب نفسها؟ هل هذا جوابك للتخلص من الورطة؟
- ياعمي الحاج .. بل أنا أقصد أن الأفكار تنهال على الورق في حينها
ارتفعت الاصوات زاعقة مرة اخرى ، مع ضحكات عصبية ساخرة
” طبعا هو ذنب القصة التي كتبت نفسها“ .. ”القصة لما كتبت نفسها ، راحت
نشرتها في الجريدة ”
توجه كبير العائلة بكلامه الى ربة المنزل:
- اعتقد حان وقت الشاي؟
أشارت هذه الى احدى بناتها فتهادت متثاقلة الى المطبخ.
ومع رشفات الشاي الساخن، قال كبير العائلة:
- ياكامل يا إبني، فهمت قصدك، ولكن بالتأكيد لديك فكرة ولو بسيطة عما
تنوي كتابته
رد كامل:
- ليس شيئا أكيدا. ولكن واقعية
السرد تفرض أنها ترجع للبيت يائسة وحزينة وقد فقدت الأمل الذي كان في لحظة على وشك
التحقق ثم في لحظة أخرى ضاع كل شيء. ولكن حلمها لا يموت.
سكت كبير العائلة دقائق، ثم مال بجسمه على كامل فهمي قائلا:
- اسمع يا ابني. انت اغضبت الأهل والأحباب في الجزء الأول ولكن مافات
قد مات، وعليك أن تسترضيهم في الجزء الثاني
- قل لي ماذا أفعل؟ مستعد للإعتذار
صاحت بكرية وهي ترفع سبابتها لتأكيد كلامها:
- الاعتذار أن ترجّع فلوس الحاجة
سألها كامل وقد بدأ الغضب يحتشد في داخله:
- ماذا تقصدين؟ هل هذا ابتزاز؟
رفعت العمة الكبيرة صوتها :
- بكرية تقصد ترجع فلوس الست عديلة لتتمكن من السفر.
ضحك كامل وهو يسأل:
- في القصة؟ وكيف أفعل هذا وقد سُرقت الفلوس منها؟
قال كبير العائلة :
- استخدم خيالك .. انت الكاتب
قالت الحفيدة داليا:
- احتمال أن يشعر اللص بالندم ويرجع الفلوس
قال أحمد " أو بواب شركة السفر يلتقط رقم التاكسي ويبلغ الشرطة"
وتوالت الاقتراحات:
"يكافئها ربنا بأن تتعثر وهي راجعة حزينة الى البيت برزمة فلوس أكثر
مما سرق منها"
تعالى صوت ناعم:
- يرجع سائق التاكسي الى الشركة ويقول للست عديلة : هذه الفلوس وقعت منك
ياحاجة
انبرت داليا تقول:
- أنا قلت هذا : يشعر اللص بالندم ويرجع الفلوس
كان كامل يستمع اليهم واضعا رأسه بين كفيه. أدار عينيه بينهم وقال يائسا
:
- لايمكن .. لايمكن إنهاء قصة بهذه الصدف اللامعقولة
قال الشيخ محمد وهو شاب اكتسب لقبه في العائلة بسبب لحيته الكثة التي
أطلقها منذ وقت مبكر:
- بالعكس. أنا أرى أن القصة تكون أكثر فائدة وعبرة حين يندم اللص ويتذكر
آخرته ويعيد المبلغ وهو يستغفر تائبا
"اسمعوا ! أنا عندي فكرة جديدة . تسمع بقصتها مقدمة برنامج في التلفزيون
. تستضيفها وتحكي قصتها . يتصل رجل اعمال بالبرنامج ويعلن تبرعه بمصاريف الحج"
تصايح الحاضرون "نعم نعم .. يحدث كثيرا. صحيح .. فاعل خير"
قال الشيخ محمد وهو يمسد لحيته "نهاية طيبة وواقعية وتشجع الناس
على فعل الخير. ولكن هناك شيئا لست متأكدا منه والأفضل يا أستاذ كامل ان تسأل فيه أهل
الذكر . هل يصح الحج بأموال التبرعات؟ اعتقد ان هذا ينطبق على العمرة فقط . الأفضل
أن تسأل قبل الكتابة"
ردت عليه الست بكرية :
- لايهمني ياشيخ محمد : يصح أو لا يصح. المهم أمي تروح للحج. أنا أعرف
مذيعة كانت تعرض مثل هذه المشاكل. هذا مريض يحتاج عملية وهذه أرملة معاشها قليل، وواحد
يحتاج بضاعة للكشك الذي حصل عليه من البلدية، تطلع على قناة .. نسيت والله ..
ولكزت ابنتها "اية قناة يابنت؟"
قاطعها كامل وهو ينهض:
- طيب ياجماعة . استأذن للإنصراف
تصايح الجمهور معترضا، وقالت العمة الكبيرة :
- تنصرف قبل أن نتوصل الى نتيجة؟
رد كامل:
- أنا استمعت وفهمت وسآخذ كل اقتراحاتكم بنظر الإعتبار، وإن شاء الله
يحصل خير
أشار كبير العائلة لكامل بالإنتظار قائلا له:
- انظر للوجوه الطيبة حولك. كل هؤلاء يعقدون الآمال عليك فلا تخيب ظنهم.
وانت الكاتب ولن نفرض عليك أفكارنا ولكن أكرر لاتخيب أمل هؤلاء الطيبين فيك. ولا أملي
. اكتب ماتشاء ولكن المهم أن تكون النهاية سعيدة
**
(تأخذ الحاجة عديلة نفسا عميقا، وتدفع الباب، فتشعر بشيء أشبه بدوار..
كانت الصالة مزدحمة بنساء العائلة والجيران، ولغط شديد، وصيحات أطفال، ثم ترتفع زغاريد
عالية. يضيء وجهها بابتسامة عريضة وهي تسبح في اتجاه صدر الصالة، والنساء يتلمسن ملابسها
البيضاء تبركا، وفي ذيلها تتقافز ابنتها الصغيرة (بكرية).
تجلس الحاجة عديلة على كرسي يتوسط الصالة المزدانة بشرائط خضراء وبالونات
بكل الألوان. تقفز الى حجرها بكرية. وتجلس الى جانبها ابنة عمتها وهي تتلقى التهاني
معها من الزائرات اللواتي مافتئن يتوافدن بن حين وآخر.
وعند قدوم كل زائرة ، تميل الحاجة عديلة على ابنة عمتها وتهمس في أذنها:
- هدايا الحج كلها في الحقيبة الحمراء. المفتاح معك؟
"في جيبي"
وتضحك الحاجة ضحكة صافية وهي تتلقى زغرودة العمة الكبيرة التي تتمايل
مقبلة عليها من ألم ركبتيها، فتهتف بها :
- لك هدية عندي..تعالي
وتجلسها الى جانبها وتهمس لها "ماء زمزم .. صبّيه على ركبتيك، ترجعي
غزال البراري")
**
كتبت ونشرت في شباط/فبراير 2017