بثينة الناصري
منذ الفجر يسيرون ، توقفوا مرتين على عجل، مرة لملء قربهم
بالماء ومرة لملء بطونهم بالخبز، قبل ان يسوقهم بعصاه السحرية ، هذا القادم من مديان.
- إسرعوا، لا وقت للراحة.
قال شيخ منهم:
- ولكنا خرجنا بإذنهم. ألم يقل: إخرجوا من بين شعبي؟
غضب القادم من مديان ونظر اليه بعين نارية ثم مال على أخيه
لأن الغضب ألجم لسانه، فقال هذا:
- إتركوا الأمر لنا. مازلتم تناقشون فيما لا تفقهون.
استدار السائل متعبا. رأى وجه ابنه فهز رأسه وهمس:
- أبوك الشيخ لا يفقه! سمعته بإذني يقول: إذهبوا وباركوني
أيضا.
جرّه الشاب بعيدا:
- ألم أقل لك دعنا يا أبي نموت في البلد الذي فيه ولدنا؟
سحب الرجل ذراعه من قبضة إبنه وقال وهو يبتعد:
- الموت؟ أم تلك البنت المصرية؟
ومن ترتيل االشيوخ وهم يصلون سرا، تنحدر دموعهم على لحاهم
الشائبة ، ودمدمة الشباب وآهات النساء ، كانت جبال الصخر ترجّع صدى همهمة لا يقطعها
سوى صفير الريح وهي تجرف الرمل تلقيه في الوجوه.
(من سكّوت نزلوا في إيثام)
تعلق ذرات الرمل في مناخير الجمال فتحم وتهز رؤوسها ثم تدفنها
في ارتعاشة باقات الشوك. تميل العدول وترتفع صرخة خائفة ولكن لا شيء يحدث.
وبعد أن دفنوا رجلا آخر خلف الصخور، وخلفوه دون علامة، انسحب
بضعة رجال وبدأوا يتهامسون. ارتفعت أصواتهم . صاح أحدهم محذرا، وتفرقوا.
قبل الفجر بقليل تعثرت القافلة ، كان التعب باديا في العيون
الذابلة . أشار القائد بالتوقف ثم لف عباءته حوله وأومأ لأخيه أن يتبعه.
تبعتهما العيون المنهكة ، يصعدان رابية . يقفان. ينظران في
كل اتجاه، ثم يجلسان متقابلين. كانت أولى خطوط الفجر تبهر الشبحين الرابضين فوق الرابية.
- إنزل يا أخي فقل لهم إنا تهنا.
ظل الآخر صامتا يحدق في وجهه.
- قل تهنا بمشيئة الرب.
نهض هارون. وقف برهة يرنو نحو المنحدر. الظلام يحجب النظر،
لكنه استطاع ان يتبين كتلا من الناس والدواب مكومة على الأرض ساكنة تماما، كأنه يطل
على قبور ترعى في جوانبها إبل تائهة.
تنهد هارون وبدأ يهبط.
***
كانت قاعة الإستقبال في قصر الملك رحبة تحيط بها أعمدة اسطوانية
ومضلعة منقوشة بالكتابة والرسوم الملونة ، ترفع أفاريز مزخرفة بالورد والحيوانات والراقصات.
وعلى الأرض المرصوفة بقطع كبيرة من الحجارة، تمتد سجادة حمراء من الباب حتى الدرجات
المفضية الى العرش.
كان (مري ن بتح) يجلس على كرسي ذهبي ينتهي مسنداه برأسي ليثين
رابضين، يلبس رداءه الأبيض ذا الطيات العديدة، يوشحه حزام مرصع بالذهب والجواهر ، يتدلى
طرفه بين ساقيه. يقف خلفه حاملا مهفات الريش يروحان عنه حرارة الصيف، وإلى جانبيه حارسان
عاريان إلا من غطاء الرأس المخطط والتنورة البيضاء البسيطة والنعال ، وكان كل منهما
يحمل رمحا ودرعا.
يبدو القلق واضحا على الفرعون حتى يدخل وزيره يخب بردائه
الطويل ليقف بين يديه، وقبل ان ينطق مري ن بتح بما يشغل باله، يقول الوزير لاهثا:
- سيدي. تقول الاخبار انهم تاهوا في الصحراء قرب البحيرات
المرة.
ترف بسمة صغيرة على وجه الملك ويقول بصوت خفيض:
- هذا الموسى لا يخلف وعدا؟
- يبدو انه كذلك يا سيدي.
- طيب. مرهم ان يخرجوا ستمائة مركبة منتخبة مع محاربيها.
***
عند ظهر اليوم التالي ، وصلت القافلة الى مابين مجدل والبحر
أمام بعل صفون. وبعد أن راح موسى جئية وذهابا أمام المكان، وضع يده فوق عينه وراقب
الضفة الأخرى ثم أشار بالتوقف ونصب خيمة له اختفى داخلها مع بعض رجاله المقربين حتى
حل الليل.
وتحت جنح الظلام دبت حركة طفيفة بين الخيمة والبحر، ثم خرج
رجال يتأبطون شيئا، خلع قسم منهم ملابسه وقفز الى البحر يجر معه طرف شيء طويل يبدو
لانهاية له.
وقف موسى ملتفعا ببردته يرقب ما يجري على الطرف الاخر من
البحر. وبعد فترة بدت كأنها دهر، عاد رجاله معلنين انتهاء مهمتهم. وسرعان ماشرعوا يعالجون
شيئا على الضفة القريبة من الخيمة.
همس هارون بإذن أخيه:
- الآن؟
- كلا. لم يحن الوقت بعد.
- ماذا ننتظر؟
التفت موسى وزجر أخاه:
- قلت لك إفهم هذه الحكمة الحربية: التوقيت نصف النصر.
نظر هارون الى أخيه بإعجاب ثم قال وهو يشير الى ضبابة بعيدة.
- بوادر عاصفة.
- بل أقسم ان هذا غبار المركبات المصرية.
دبت حركة عارمة، خائفة، مرتبكة في صفوف بني إسرائيل لكن هارون
استطاع ان يبث فيهم السكينة بلسانه الذلق وروحه المتفائلة. ثم حثهم ان يكونوا على استعداد
لعبور البحر عند انطلاق الاشارة.
اقترب جيش فرعون وسُمعت جعجعة العربات وسنابك الخيل وهي تقترب،
تدك الأرض ثم تتوقف في مكان قريب.
استدعى (مري ن بتح) وزيره الى عربته وتشاور معه طويلا. كان
الفرعون منفعلا. استطاع الوزير ان يلحظ ذلك إذ كان يحرك عصاه الإلهية بين يديه ويعبث
بالقلائد التي تحيط رقبته حتى كاد يقطعها، وعزا الوزير هذا القلق الى جهل الفرعون بالسباحة.
وأراد أن يؤكد له أنه سيكون الى جانبه طوال الوقت ، لكنه خجل في آخر لحظة وقال:
- أحس أن علينا أن ننتظر.
ومر الهزيع الأخير من الليل، وقبل أن ينبلج الصبح أحس الوزير
بحركة غير عادية في معسكر العدو فأيقظ الفرعون من نومه بهزة خفيفة ، وأشار الى ما يجري
في الجانب الآخر من التل.
اصطف بنو اسرائيل صفا طويلا، وبحذر شديد سار هارون أمامهم
وموسى وراءهم يخفي أثرهم بعمود من الدخان والنار.
ظل الفرعون يرقب العمود الناري المتراقص بعينين مدهوشتين
حتى خيل اليه أن العمود يتضاءل فيصير لهبة نار على الجانب الآخر من البحر.
استدار ونظر الى وجه وزيره مليا ثم اشار اليه أن يأمر الجيش
بالحركة ، وفي اللحظة التي صعد المحاربون الى عرباتهم وهمز سائقوها الخيل ، تساقطت
العجلات على الأرض محدثة أصواتا عالية وهي ترتطم بعضها ببعض.
ثم أن (مري ن بتح) أصر على جر المركبات المعطوبة خلف بني
اسرائيل، وكان مما يزيد من صعوبة السير بهذا الشكل ، طبقات الرمل الكثيفة التي تغوص
فيها الأقدام حتى اضطر المحاربون بعد فترة الى الهبوط من المركبات ودفعها حتى ساحل
البحر.
وقف قوم موسى على تربة سيناء يراقبون بعيون لا تطرف، جيش
الملك المصري يتقدم نحو الضفة الأخرى، ثم وهو يجر المركبات على الطريق الذي عبروا لتوهم
عليه، وحين توسط المحاربون وخيلهم وعرباتهم الطريق ، انفصل موسى عن قومه وأشار برأسه
لأخيه وسرعان ما انهمكا في عمل سريع على الضفة وقبل ان يدرك المصريون ماحدث، أحسوا
بالجسر الذي ساروا عليه يهبط بهم.. يغوص.. وينطبق عليهم البحر.
هليلويا ..
ارتفعت هتافات العبرانيين تشق عنان السماء، وأعلن موسى بيانا
سمعه كل شعب اسرائيل وأذاعوه بين قبائل البدو الذين جاءوا يستطلعون الخبر.
"دفع الرب المصريين في وسط البحر فرجع الماء وغطى مركبات
وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر، لم يبق منهم ولا واحد. وأما بنو اسرائيل
فمشوا على اليابسة في وسط البحر والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم ، فخلص الرب في
ذلك اليوم اسرائيل من يد المصريين ونظر اسرائيل المصريين امواتا على شاطىء البحر"
(1)
انطرح المصريون على الرمال منهوكي القوى يقطر الماء منهم.
كان بعضهم مايزال يحمل رمحه، ومن أطراف عيونهم المجهدة رأوا تاج (مري ن بتح) يلوح فوق
الماء. ثم جسد الفرعون يسحبه الوزير الى الشاطىء ، ويرميه على الرمل.
سعل الملك وفتح عينيه، فرأى ساعده الأيمن يحدق في وجهه. هز
رأسه وحاول ان ينهض فأعانه الوزير وأسنده الى صخرة. قال مري:
- ألم يشتط موسى هذه المرة؟
قال الوزير وأسبل جفنيه:
- ضرورة تاريخية يا سيدي.
اندكت الأرض قربهما. التفت الفرعون فزعا فرأى جنديين غير
مسلحين يمسكان بآخر يرتجف، ويقطر الماء من تنورته الملتصقة بفخذيه الى الأرض.
- ضبطناه يقول نكتة.
قال الملك غاضبا:
- ولم ينتظر حتى ينشف؟ خذوه !
كان الفجر قد غزا الليل بلون قرمزي.
- ولضرورتك التاريخية يا عزيزي الوزير، اكتب عني هذا البلاغ
ولينقله الى المدينة أسرع جندي:
- "حاق بكنعان كل سوء وسبيت عسقلان وقبض على قاجر. ينوعان
أصبحت كأن لم تكن واسرائيل ابيد ولن يكون له بذر، وبلاد خارو كالأرملة لمصر، وكل البلاد
مجتمعة في سلام" (2)
وقف الوزير حائرا مترددا ، ولما لحظ نفاد الصبر على وجه الفرعون ، قال بخجل:
- سيدي.. أردت أن أقول: ألم يكن سيدي خصب الخيال في .. في
.. هذا؟
وأشار الى البلاغ.
أجاب ملكه وهو يعقد مابين حاجبيه مفكرا:
- كلا.. تعرف إن أبي كان شديدا على البدو والآسيويين ، وقد
انتصر عليهم انتصارات باهرة ، فصدقني لن يرضى شعبي بأقل من هذا. آه .. ياصديقي ، لو
قدر لك أن تكون سليل آلهة ، لعرفت إن الحكم ليس نكتة.
***
"أرنم للرب فإنه قد تعظم"
اتحدت حناجرهم بترنيمة تمايلت أجسادهم عل وقعها وصفقت أكفهم
بهزج واحد.
"هذا إلهي فأمجده"
"إنه أبي فأرفعه"
"ربي رجل الحرب"
رفع موسى ذراعيه مكشوفين الى السماء وقد اصطبغت بالنجيع،
تخططه سحابة بيضاء خطوطا متوازية أفقية.
"ربي رجل الحرب"
في جانب من السماء، مازالت النجوم تلتمع فوق رقعة زرقاء داكنة..
نجوم مرصوفة لا حصر لها مثل ولايات الرب، وتمنى موسى وهو يملأ عينيه من السماء ان يكون
جبل صهيون نجما يهديهم إليه.
"حتى يعبر شعبك يارب
حتى يعبر الشعب الذي اقتنيته،
تجىء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك.
المكان الذي صنعته يارب لسكناك."
ارتفع صوت الفرعون عبر الشط قويا عميقا ملتاعا..
"ادع ياموسى لنا ربك يكشف عنا الغمة"
وكان بيرق الرب المرسوم على صفحة السماء يخيم فوق سيناء..
*
هوامش:
(1) التوراة – خروج
14
(2) النص مترجم عن الهيروغليفية من لوحة (انتصارات مرنبتاح)
**
(كتبت في كانون أول/ديسمبر 1973) (جرت احداث هذه القصة في القرن
الثالث عشر قبل الميلاد ولا صلة لها بالقرن العشرين)