الأحد، 15 أكتوبر 2023

تل أبيب 2024

كتب باء


تل ابيب .. 2024

 

(توضيح لابد منه: كتبت هذه القصة في آذار 1974 ولهذا قدرت انها لن تحدث قبل نصف قرن بالتمام. وهي تصور محاولات الكيان الفاشلة لابادة الفلسطينيين مع تواطيء الامم المتحدة وصمت العرب. وهي قصة رمزية تستلهم اسلوب الفانتازيا ولكن مع حقائق المكان، سيجد العارفون بفلسطين المحتلة ان اسماء المواقع والشوارع وحتى ارقام الحافلات حقيقي. وقد استعنت بذلك بمصادر شتى . ولهذا اقول دائما ان اضفاء المصداقية على القصص يتطلب البحث الجاد والعمل المضني. فكتابة قصة ليست سهلة ابدا. ولعل رمز المتحف فيه الكثير من المفارقة- القصة نشرت في مجموعتي الاولى – حدوة حصان-  الصادرة في بغداد 1974)

**

في وسط أورشليم الغربية، بين الكنيست ووادي الصليب والجامعة العبرية يقوم بناء حديث الطراز.

كتل معمارية مكعبة ومستطيلة ودائرية ، بالابيض والاسود.

"خذ الباص رقم 5 او 16" ..  هنا تأريخ يوغل في القدم .

قال السائح الأمريكي شيئا ..

ردت المرأة الاسرائيلية الجديدة :

-       اذن متحف رقم 2

القاعة  باردة .. نفحة من رائحة غامضة. أرض لامعة .. صامتة . صناديق زجداجية .. صامتة .. ورائحة ما. قطع  بيضاء تصرخ (انسان نياندرتال) بثلاث لغات. جمجمة متآكلة. عظام سوداء يغصب سرها الضوء. يقف عندها الزمن .

نهاية القاعة .

تلقي عن ظهرك عبء ست ملايين سنة .

تدلف الى اخرى ..

صندوق زجاجي عريض .. خيمة نصف محترقة ، يطل منها تمثال امرأة سمراء ، على الوجه تجاعيد وبسمة رضى. يجلس في زاوية من الصندوق رجل يعتمر كوفية وعقال يتفرج على الناس خارج الزجاج .

يضع امامه طاسة فخارية تحوي شيئا أبيض، قد يكون لبن البعير البارك في الجهة الاخرى.

لوحة بيضاء أنيقة :" الانسان العربي عاش في اسرائيل منذ ست آلاف سنة  بدأ في  الانقراض منذ عام 1948"

جرّ ضابط انجليزي زوجته :

-     العرب .

-      أوه ..

وتدلهت بعشق العربي حالما رأته .. ساحت عيناها في انحاء جسمه، عند ملتقى فخذيه. كان جلباب أسمر يغطيه، وفارس الصحراء ثابت النظرات .. يكاد ..

انجرت وراء زوجها :

-     أليس فاتنا ؟

(تعتبر هذه المعروضة من أنفس مقتنيات المتحف لندرة الحصول على النماذج في الوقت الحاضر)

قالت  المرأة الاسرائيلية  الجديدة

-    هذي جوهرة المتحف .

-      استطيع ان أرى ذلك .

-       اقصد المعروضة

-       يهمني التاريخ الحي

-        ليس لي تاريخ بعد

-        اصنع لك واحدا ؟

وسارا نحو باب  الخروج يضحكان .

**

لم يكن شهر آذار خيرا فإلى جانب استمرار  الامطار وقلة السواح .. حدث ذلك الشيء  الذي هز العالم .

بدأ في عطفة من شارع دزنكوف في تل ابيب.

يقال ان كل اسرائيلي – في وقت فراغه – منقب آثار هاو، ويقال ايضا ان ليس ثمة شبر في اسرائيل لم يسكنه يوما الاغريق او البيزنطيون او العرب او الصليبيون او الاتراك ..

وهكذا ما أن غادر شاؤول مخزن (بات آدم) بعد انتهاء العمل حتى تعثر بهذا الاثر الفريد قرب (كافتريا فراك – 131 شارع دزنكوف). تلفت حوله. لا احد هناك. عاين الاثر من كل وجوهه. قلب  الامر في رأسه. تلفت حوله مرة  اخرى. هز كتفيه وحمله الى (كاسيت كافيه) ملتقى الادباء والمفكرين والصعاليك .

لغط وسحب دخان .

يرتفع صوت .. يبدأ الشجار .

يختفي "الأثر " تحت منضدة. تلفت شاؤول المحاسب حوله وغادر المكان .

***

اشترى الامريكي نسخة من "جيروسليم بوست" كان العنوان اسود فاضحا :

لغز يحير العلماء

العثور على ولد عربي حي

"في الساعة السابعة وخمس عشرة دقيقة من مساء الامس، تم العثور على ولد عربي حي. وكان هذا الحدث مفاجأة للعلماء الذين اعلنوا سابقا انقراض الجنس العربي على ارض اسرائيل. وقد اودعت العينة مختبر الجامعة العبرية حيث تخضع عصر اليوم لأولى الفحوص المختبرية قبل تقرير مصيرها.."

قطعت دار الاذاعة برامجها :

" سيداتي سادتي .. وصلنا الان هذا النبأ. نشرت جريدة جيروسليم بوست ..."

وفي المساء طارت برقية من رئيس دولة عربية الى الامين العام للامم المتحدة .

الامريكي يطرق باب التأريخ ..

  الامين العام للامم المتحدة يدعو ممثل اسرائيل الى اجتماع عاجل ..

قاعة رحبة مستديرة .

كان طلاب الجامعة وهواة الآثار يزحمون المدرجات . وعلى المنصة كان علماء الآثار والبايولوجي والاثنولوجي واللغة والإكولوجي يحيطون بالعينة الجالسة على منضدة .

تقدم احدهم .. لحية سوداء مدببة .. قاس محيط الرأس وتمتم شيئا، سجله مساعده .

قاس  الجبهة

سجل مساعده

قاس المؤخرة

سجل مساعده

هيأ لغوي آلته وقربها من العينة .

هز الرجل رأسه :

-      غريبة !

-      أليست العربية ؟

-     نعم .. لكنها غريبة .. لا أفهمها .

واستمر الاجتماع  الى ساعة متأخرة .

"ارسل لنا احد القراء .."

كتب محرر جريدة معاريف :

"يقترح حلا لمعضلة العلماء في تقدير عمر الولد العربي بقياس الكربون المشع. ولا ندري ان كان القاريء الكريم – في اقتراحه – جادا ام هازلا اذ ان هذه الوسيلة تستخدم في تحديد عمر المتحجرات فقط ، فمن المعروف انه بعد الموت يختفي الكربون المشع الذي تحتويه الكائنات الحية ببطء شديد . وبقياس كمية الكربون المشع الذي تحتويه الحفرية يمكن تحديد عمرها" .

الولد ممدود على الطاولة. عالم بيولوجي يمد يده في فمه .. يفحص  اسنانه ثم يجس عظامه ويبدو الإرتياح على وجهه ويعود الى مكانه يكتب ملاحظاته .

الولد يشير الى فمه .

يجفل اللغوي :

-       يقول أنه فقد النطق .

لغط .. آهة .. نفاد صبر

الولد يشير الى فمه

يشتمه اللغوي.

يشير الى فمه

يجلس اللغوي يائسا .

الولد يشير الى فمه

-       يريد ان يأكل !

كان صوت صغير ينزوي بين قدمي أبيه. ومثل صفعة واحدة أدارت رؤوس العلماء نحو المنضدة، يحملقون مدهوشين بالعينة التي تريد ان تأكل !

برقية اخرى .

الكنيست : اجتماع فوق العادة

مدير متحف اسرائيل في اورشليم يجتمع بنائب رئيس الوزراء

الموقف يزداد سوءا

في (كاسيت كافيه) بصق  المثقفون آراءهم على الأرض وفي الهواء وفي وجوه بعضهم .

قال الوافد الجديد :

- اُعتقِل !

- من ؟ من ؟ من ؟

- مدير الاذاعة.

-    كلا .. رئيس تحرير جيروسليم بوست

-    مدير الاذاعة ايضا

همس متأدب : لماذا ؟

نظروا  اليه باحتقار .

-     اذن المسألة جادة .

     طبعا .. لو لم تعبر الحدود لكانت .. أسهل .

-     لكن .. من أوصل الخبر للجريدة ؟

قال  الجميع (لست أنا) وتسللوا من الكافيه واحدا إثر آخر.

الكنيست ينهي اجتماعه

إستقالة عالم بيولوجي من الجامعة العبرية

الامريكي مشغول بصنع التاريخ .

مدير متحف "هآريتز" في تل ابيب يطلب مقابلة وزير الثقافة .

الولد العربي : يريد ان يأكل.

وزير  الدفاع يهدد بالاستقالة .

مدير المتحف يقول : لكنا في تل ابيب وجدناه .

ويرتدي الامريكي بنطلونه .

صاحب كاسيت كافيه لزوجته :" اذا استمر الكساد يحسن بي اغلاق  المحل".

الامين العام للامم المتحدة يجتمع بممثل اسرائيل مجددا.

لغط خارج المبنى

عميد الجامعة العبرية لعالم اللغة: حتى اذا خرجت عن طورك ..كلمني بالعبرية. ثم ان المسألة قد خرجت من يدي او يديك.

"تغيرات متوقعة في حزب الماباي"

اعتقال بروفسور كرونين: الرجل الذي صنع (إشاعة) إنقراض الجنس العربي.

بيان

(بأمر وزير الدفاع

يمنع منعا باتا

التنقيب عن النماذج الأثرية

أو  تداولها والمخالف يعرض

نفسه لأقصى العقوبات)

يفتح  الامريكي  ازرار بنطلونه .

وعلى متحف  اسرائيل في اورشليم علقت لافتة :

(مغلق حتى إشعار آخر) 

**

اخترقت السيارة البيضاء صفين من الخضرة النامية بين مربعات الإسفلت. تنفرج البوابة الحديدية على مصراعيها .

وعلى الدرجات يقف بضعة رجال وإمرأة واحدة. بسمات سعيدة هادئة .

تقترب السيارة . يفتح  الباب راكبها الذي يحمل حقيبة مطبوع عليها شعار الأمم المتحدة . يلتقي بالمستقبلين وسط الطريق . يصافح الجميع بحرارة .

-     آسف لهذا الازعاج

-     أبدا .. على الرحب والسعة . بل علينا أن نعتذر .

-     ؟

-    اليوم السبت ولا نستطيع ان نفعل شيئا .

-    أوه ..كنت آمل أن تنتهي مهمتي بأسرع وقت .

"آوه"  همس وهو يرمي بجسده على مقعد السيارة الفارهة مرة اخرى " إني .. متعب". 

**

ينحني موظف الهوتيل وبسمة ترف على شفتيه. يدخل الضيف جناحه الفخم .. جدران ملونة وفي كل زاوية آنية ورد . مجلات مختارة .. جهاز تلفزيون .. ثلاثة أنواع من الشراب المحلي . تنهد الضيف " ما أحلى الراحة بعد يوم عناء".

فتح باب الشرفة ومال على سورها .

أورشليم المآذن والزيتون والتماع القباب تحت الشمس. ابتسم ابتسامة ماكرة لايعرفها غيره . تقدم نحو السرير. رمى نفسه عليه "ليأت الطوفان .. إني سعيد"

**

يفسح الناس الطريق :

(متحف رقم 2)

يدخل الضيف يتبعه مدير المتحف.

القاعة باردة .. نفحة من رائحة غامضة . أرض لامعة ، صامتة .. صناديق زجاجية ..  صامتة ورائحة ما .

قطع بيضاء تصرخ (إنسان نياندرتال) بثلاث لغات .. جمجمة  متآكلة . عظام سوداء يغصب سرها الضوء ، يقف عندها الزمن .

نهاية القاعة

تلقي عن ظهرك عبء ست ملايين سنة ..

صندوق زجاجي عريض ..خيمة نصف محترقة . . يطل منها تمثال إمرأة سمراء . على الوجه تجاعيد وبسمة رضى . يجلس في زاوية من الصندوق رجل يعتمر كوفية وعقال يتفرج على الضيف خارج الزجاج ، يضع امامه طاسة فخارية تحوي شيئا أبيض .. قد يكون لبن البعير البارك في الجهة الاخرى، وخطمه بيد ولد صغير مفاجأ في حالة لعب أزلية.

التفت مدير المتحف :

-    شيء متواضع من متحف الشمع .

-    ولكن .. رائع !

-    وكما ترى ياسيدي ..

-     أي فن !

-     كانت اشاعة!

وكان وجه الصغير ازرق مجعدا في دهشته .

-      يكاد ينطق بالحياة!

مدير المتحف يغض  الطرف بحياء.

 

-ليست النهاية -


الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما