السبت، 31 يوليو 2021

الموسيقى الحلال

كتب باء

بثينة الناصري

هل الموسيقى رجس من عمل الشيطان؟

ماذا يفعل المؤمنون بتحريم الموسيقى حين تقتحم آذانهم موسيقى بدون رغبتهم؟ وهم سائرون في الشارع؟ من نوافذ الجيران، من اعلانات التلفزيون الخ. هل يصمون آذانهم؟ هل يستغفرون بشكل مستمر حتى تنتهي محنة الموسيقى؟ هذا السؤال يراودني منذ أن التقيت بشاب يعمل ساعيا في إدارة حكومية . كان شعلة من النشاط يتحرك لتنفيذ طلبات الموظفين: انسخ الوثيقة هذه - هات الملف من الأرشيف - اطلب لنا الشاي من البوفيه - خذ هذه الورقة للتوقيع من المدير - ابحث لي عن جريدة اليوم الخ وهكذا يعمل في دأب على الاستجابة لكل الطلبات، إضافة الى اضطراره للرد على اي مواطن صادفه في الطرقة لسؤاله عن مكتب فلان او قسم تقديم الطلبات الخ . لاحظت أنه يضع سماعتين في أذنيه، من النوع التي يضعها الشباب للاستماع للموسيقى. سألته: هل تستمع للموسيقى؟ أجاب: كلا .. أنا لا أسمع سوى القرآن الكريم. فأشرت الى السماعتين فقال : نعم إني اشغل القرآن طول النهار. قلت له: وكيف تستطيع التركيز والانصات لكلام الله وانت مضطر بحكم عملك للاستماع لكلام الناس؟ أليس هناك آية تقول "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"

ومثله الموظفة التي رأيتها تضع المصحف أمامها على مكتبها، لتقرأ فيه وهي ترد بين حين وآخر على طلبات المواطنين !! طيب أنت موجودة الآن لخدمة المواطنين، أليس من الواجب و(العبادة) أن تتفرغي بكل حواسك وعقلك لانجاز أعمال المواطنين ؟ او ذلك الذي يجلس في ميكروباص مزدحم فيخرج مصحفه الصغير ويبدأ يقرأ فيه ، باعتبار ان ذلك يمنعه من ان يسمع (لغوا) او ربما موسيقى من راديو السيارة الخ .. أو ربما يمنعه من ان يقع بصره مضطرا على كعب قدم امرأة جالسة الى جواره.

لايمكن ان تكون الموسيقى حرام، لأسباب عديدة سوف نتطرق اليها ومن يقول بذلك يقع في تناقض كبير وحين لا يعرف الرد يحاول إفحامك واسكاتك بالقول :" يكفي ان الله والرسول حرماها". أين كان ذلك ؟ يأتون لك بتفاسير لتعبير (لهو الكلام) و(المعازف) وبعدها يخففون عنك بالقول أنه ليس كل الموسيقى محرمة وإنما فقط الألات الوترية وآلات النفخ والبيانو الخ ولكن الطبول والطبلة والدفوف حلال. وهناك من يقول لك أن موسيقى الكون (تغريد الطيور ونبض القلب وخرير المياه وصفير الرياح ووقع سنابك الخيل واصطفاق الشجر الخ ) كل هذه حلال سماعها ولكن الموسيقى التي يصنعها الإنسان حرام!!

مع أن الإنسان لم يصنع موسيقاه إلا تقليدا لموسيقى الله في كونه، فقد قلد الإنسان كل هذه الاصوات كما يدلنا تاريخ الموسيقى وكيف بدأت. وبالتأكيد ليس كل انسان يستطيع صناعة موسيقى، وإنما المبدعون فقط وهؤلاء يتلقون الوحي بأعظم الألحان من موسيقى الكون، أي موسيقى الله.

كل المبدعين في مختلف المجالات (الرسم - الكتابة - التصوير - التلحين - الغناء - صناعة التماثيل الخ) يقلدون الله في خلقه بوحي منه، لأن هذه الملكات لم توزع على كل البشر وإنما على البعض منهم، ولأن البشر يشمل في خلقه الجزء الحيواني الذي يشده الى الأرض والجزء الروحاني الذي يشده الى السماء، فيحاول تقليد ماخلقه الله ، ليس تشبها به أو شركا به، وإنما للسمو الروحاني. ولهذا حين يشدو الانسان بصوت جميل يوصف عادة بأنه (العندليب) (الكروان) (البلبل) وبكل اسماء الطيور المغردة ويعتبر هذا اجمل لقب ممكن ان يوصف به المغني من البشر، فما معنى هذا؟

حتى رقص الباليه مثلا يقلد في حركاته الطيور الرشيقة ذات الارجل الطويلة برفرفة اجنحتها وحركات جسمها المتناغمة. كل ما أبدعه الإنسان مستوحى من الكون . التصوير مثلا.. يلتقط تعاقب الوان السماء عند الشروق والغروب، اشكال الاشجار مع تعاقب الفصول، ثورة البحر وهدوءه، القمر والشمس والرياح والفيضانات والوجه الانساني ولغة اجساد البشر في اوضاعها المختلفة، ونادرا ماتجد لوحة مرسومة او فوتغرافية تصور جمادات صنعها الانسان إلا نادرا، ومبدع الروايات والقصص يخلق عوالم مشابهة او مختلفة عن عالمنا، ويخلق كائنات شبيهة بالبشر او مختلفة ، كل هذا تقليد لإبداع الخالق. العقل الانساني المحدود لا يأتي بشيء جديد إلا (يتشابه بالموجود أو يتناقض معه) وكما علمنا من علماء الرياضيات والهندسة أن الكون مخلوق على نفس أسس السلالم الموسيقية. ويعلمنا علماء الأحياء أن حنجرة الانسان بأوتارها تشابه في عملها آلالات الموسيقية الوترية.

كل هذه المعلومات موجودة وموثقة لمن يريد ان يستزيد.. فإذا كانت الموسيقى فطرة انسانية (وحيوانية ايضا) إذ تبين أن الموسيقى تؤثر على المخ فتضبط الكيمياء داخل الجسم فتريحه او تسعده او تحزنه او تهيجه الخ حتى الأبقار شاع قبل سنوات اكتشاف تأثرها بالموسيقى مما يجعلها تدر لبنا اكثر.

فإذا كانت الموسيقى فطرة فطرها الله تعالى، فمن اين التحريم ولماذا؟

(لماذا) هذه يكرهها المتشددون كره العمى، لأنهم سيضطرون الى فضح تهافتهم وتناقضهم وجهلهم. لايريدونك ان تسأل عن السبب، يخرسونك بقولة (هذا موجود في القرآن والسنة) .. والواقع أنه ليس هناك دين جاء بوحي من الله (إذا كنت تؤمن بذلك حقا) يمكن ان يعارض فطرة الله في الانسان والحيوان. والفطرة نعرفها من كل ما ذكرته آنفا، وأيضا بملاحظة بسيطة لأي طفل عمره لايتجاوز الاربع شهور: طفل لم يتعلم الكلام بعد، ولم يتعلم الحرام والحلال، ولم يسمع عن الشيطان بعد، ولم يتناول تفاحة ابليس لتتبدى له (عورته)، أو ليعلم معنى الخطيئة. هذا الطفل لم يتعلم السلم الموسيقي ولكن ما أن تبدأ امه تترنم له أو يسمع ايقاعا قريبا، او تصفيقا منغما حتى يبدأ في التقافز على حجر أمه على وقع مايسمعه من موسيقى. كلنا خبرنا ذلك مع اطفالنا واحفادنا.. هذه هي الفطرة الموسيقية لدى الانسان. الموسيقى تؤثر على المشاعر فتحرك الجسم .. ومن هنا نشأ الرقص عند الفرح، واللطم بالجسد عند الحزن (العراقيون يعرفون بالضبط كيف تحرك النساء اللاطمات اجسادهن وهن جلوس) والرقص الديني في الأذكار (تحريك الجسم تناغما مع الدفوف) وتحريك الجسم ايضا على قرع الطبل استعدادا للحرب. فالموسيقى والرقص والغناء فطرة نشأ عليها الانسان منذ قديم الأزل وفي كل أغراضه: الفرح والحزن والحرب والسلم الخ. وربما هذه سبقت اللغة لأن الموسيقى والقرع على الطبول والعزف على الات بدائية اخرى والنفخ في القصب والابواق المصنوعة من قرون الحيوانات ، كانت تؤدي أغراض اللغة في التواصل والتعبير عن المشاعر أو لايصال رسالة.

لماذا إذن الموسيقى حرام؟ هل تلهي عن ذكر الله؟ وهكذا فهي من الشيطان؟

هل تلهي الموسيقى عن ذكر الله ؟ يقول لك المتشددون أن قوله تعالى (وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ) معناها ان يصلوا ليل نهار وأن يقرأوا القرآن في كل مكان .. وهم في العمل، وهم في السيارة ، قبل النوم بعد الاستيقاظ ، حيث ان السمع والبصر واللسان لم يخلقوا إلا لسماع القرآن ورؤية حروفه وقراءته مع التسبيح والاستغفار في كل دقيقة من حياتك، وماعدا ذلك فهو لهو يلهيك به الشيطان عن هذه (العبادة) التي خلقت من أجلها.

لا أدري من فسر وشرح لهم ذلك . لأن (العبادة) هنا ليست التحول الى ببغاوات تردد الكلام وتؤدي (الطقوس) بدون فهم المعنى الحقيقي للعبادة. في أحد المواقع وجدت هذا في تفسير الآية ((العبادة) الطاعة، والتَّعبُّد التَّنسك. فمعنى «لِيَعْبُدُونِ» ليذِلّوا ويخضعوا ويعبدوا. { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } «مِنْ» صلة أي رزقاً بل أنا الرزّاق والمعطي. وقال ٱبن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها.) تمام .. يعني يحبسوا أنفسهم في بيوتهم دون أن يسعوا أو يعملوا أو يجتهدوا فإن الله سوف يبعث لهم الغذاء والدواء واللابتوب والثلاجة والتلفزيون وكل ما يحتاجه البيت.

لا أحتاج الى قراءة كتب او فتاوي أو سؤال شيوخ حتى أفهم معنى العبادة بفطرتي وبالعقل والمنطق والبديهة. العبادة هنا هي (الاقتداء بقيم وأخلاق وروح الدين) هي الاقتداء بالخالق (الذي تحبه وتعبده) بتعمير الأرض وخلق جنتك ونارك عليها. والآن قل لي كيف يستقيم ان تعتبر أن كل (عمل او علم ) يلهيك عن ذكر الله في كل لحظة وكل دقيقة ، هو من اباطيل الشيطان؟ كيف يستقيم ان أصطحب القرآن معي الى مقاعد الدراسة وبدلا من الانتباه الى المدرس اخرج القرآن لأقرأ به لئلا يلهيني المدرس عن ذكر الله. كيف يستقيم أن اكون مهندسا واحتاج تكريس ساعات طويلة حتى ارسم خارطة بناء وربما حتى تفوتني الصلاة ، مع متطلبات المتشددين أن لا ينطق فمي إلا بالتسبيح والاستغفار؟ كيف اكتب رواية تشغل كل تفكيري لأشهر عديدة ، ربما حتى انسى ان استغفر الله إذا كتبت كلمة خارجة تقتضيها الرواية؟ وبالمقابل كيف اندمج بقراءة الرواية كقارىء وانسى نفسي واهلي وكل شيء وانا اتابع بعيني احداثها المثيرة؟ (من حسن الحظ انهم لم يحرموا كتابة وقراءة الروايات وهي اكبر لهو حسب تعريفهم للهو) .

لو اتبعنا اسلوبهم في الحياة فوداعا لأي عمل ولأي علم (ماعدا علوم القرآن) ولأي متنفس يرتاح اليه المخ الذي خلقه الله بهذه الكيفية : مخ يتجاوب مع الموسيقى.

يقال لك أيضا أن الإسلام حرم الالات الوترية والنفخية والبيانو واشباهه وحلل الدف والطبل والطبلة. لماذا ياترى؟ هل ذكر القرآن ذلك بالنص؟ أليس (نفخ الصور) في يوم القيامة يعني استخدام آلة نفخ مثل البوق وعلى قول الرسول محمد (ص) في تفسيره لأتباعه أن (الصور) مثل (القرن) وقد ذكر القرن لأن منه كانت تصنع آلة البوق بشكلها البدائي. ولماذا خلقت الحنجرة التي تصدر اصواتا خشنة او ناعمة حسب شكل الاوتار، بالضبط مثل الآلات الوترية.

تاريخيا، كان الطبل هو أول اشكال الآلات الإيقاعية. كل قبائل ماقبل التاريخ كانت تستخدم الطبول بشكل أو بآخر، او بالأحرى (القرع على شيء ما) ربما قرع خشبتين او القرع بصخرتين او أي شيء تطوربعدها الى اختراع الطبلة . القرع والنقر مأخوذان من أصوات الطبيعة (حوافر الحيوانات الراكضة ، او المتهادية ، نقر بعض الطيورعلى جذوع الاشجار الخ) والواحد منا حتى لو لم يكن موسيقيا حين تعجبنا نغمة ما نجد انفسنا ننقر او نقرع بإيقاع على المنضدة التي نجلس اليها او على الركبة أو على ظهر اليد الخ .. اي شيء يصلح للنقر عليه. وبالتأكيد كانت هذه عادة اي انسان بدائي لا يعرف ماذا تعني موسيقى، ولكنها فطرة . الجسم (متمثلا باليد والاصابع) ينقر او يدق على اي شيء للتعبير عن غضبه ، فرحه، حزنه، تواصله الخ .

إذن النقر على الطبول هو فطرة انسانية تحرك المشاعر (البدائية والهمجية) وليست المشاعر الرومانسية الحالمة الرقيقة السامية التي تحركها الأوتار و(المعازف الأخرى) .

أريد أن يجيبني أي شخص يقرأ هذا: ما الذي يدفعك الى القيام من مقعدك وربما الالتحام بدبكة او القفز والرقص وانت جالس في حفلة زواج مثلا أو غيرها: ايقاع الطبلة أو صوت الكمان؟

ايها يحرك مشاعرك ويدفعك لتحريك جسدك بنشاط مفاجيء؟

ايقاع الطبول طبعا ولهذا كانت تستخدم في الحث على الحروب.

أيها يستدعي في وجدانك (الشهوة والغريزة) ضرب البيانو أم ايقاع طبلة ودفوف؟ والشهوة هنا يحركها حافز آخر مرتبط بالطبل مثل ارتباط صوت الجرس بالشعور بالجوع لدى كلب بافلوف في التجربة الشهيرة. قيل أنه من الأحاديث النبوية (ولعله ضعيف) أن الآلة الحلال هي الدف والطبلة ولاينبغي استخدامهما سوى في الأعراس .

إذن في ذهن المسلم المؤمن الذي يحلل ويحرم ، ترتبط الطبلة بـ(ليلة الزفاف) فكلما سمع صوت طبلة تذكر تلك الليلة وما تحركه من غرائز. إذن من باب أولى أن تكون الطبلة هي (مزمار الشيطان) في تحريك شهواتك ورغباتك المكبوتة وليس اصوات الناي الحزين او البيانو الرصين أو الكمان الرقيق الحالم .

يقول لك البعض أن تلك الالات (ماعدا الطبلة ) حرمت لأنها تبعث على الحزن. هذا تفسير جديد، لأن في الأحاديث النبوية يُذكر أن قراءات القرآن ينبغي ان تكون حزينة وتبعث على الحزن!!!

وبمناسبة ذكر قراءة القرآن، فإن التجويد يقوم على 7 مقامات موسيقية هي نفسها اساس المقام العراقي واغاني الطرب.

في رأيي أن مسألة تحريم (المعازف) ومزامير الشيطان الخ ترتبط ارتباطا تاريخيا بمسألة القيان والجواري خاصة الأجنبيات من خارج الجزيرة العربية ، لأن الالات الوترية والنفخية ربما كانت تأتي من حضارات اخرى، وبما ان مجالس القيان كان يشوبها فسق وفجور وتحلل، فقد كان ذلك التحريم (إذا كان المقصود به هذا) يتعلق بالبيئة المصاحبة للموسيقى والغناء، وهما فنان مثل بقية الإبداعات يمكن ان تخرج منها بما يضر البشر أو بما يفيده. وعلى ذكر الغناء، أذكّر فقط بأن النبي محمد (ص) كان يتخير لتأدية الأذان أحسن الناس صوتا، وكذلك لقراءة القرآن لأنه يعرف تأثير الصوت الحسن على الأسماع، أما الاجيال الحاضرة التي ترى أن الموسيقى حرام والغناء حرام والصوت عورة، فنحن نرى خطل رأيها في اختيار اسوأ الأصوات للأذان ، وسوء التنسيق حين يتداخل عشر اصوات من مآذن متقاربة بأصوات ذكرت في القرآن لقبحها، تتداخل فيما بينهما بنشاز غريب لاتنفع معه طبلة ولا بيانو.

والله جميل يحب الجمال.

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما