الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

(هو)

 قصة قصيرة
بثينة الناصري

جلست تراودني بنظراتها وأنا ممدد على سطح أبيض ناعم. لمستني بإصبعها وكأنها تتأكد من صلابتي ثم وضعت كفها تحت ذقنها ارتكزت على سطح المكتب وهي تتأملني.

أخيرا نهضت وغابت قليلا ورجعت. أمسكت جذعي وبيدها الأخرى دفعت رأسي داخل نفق صلب حاد الحواف فإذا بي ألف حول نفسي . لم يتسن الوقت لأتملص أو   أصرخ . وجدت جلدي يتساقط قشورا كاشفا عري رأسي الأسود اللامع المسنن، ثم وجدتني آلامس السطح الأبيض الناعم بقوة لا إرادية . كان احساسا لا يوصف . لحظة التلامس الأولى . تحركت صاعدا هابطا ومرتعشا اتعثر احيانا في تعرجات حتى ارتخت  اصابعها فوجدتني اخمد متهالكا وانا انظر الى ما سكبت عليه ذاتي. كانت على البياض اشكال سوداء متناثرة بانتظام.

تساءلت بصوت عال، قلق : بداية جيدة؟

نهضتْ وغابتْ لحظات ورجعتْ بإبريق شاي سكبت منه في قدحها ورشفت منه متمهلة ثم ازاحتني جانبا وامسكت الأبيض الناعم ، دعكته بيدها حتى سمعت صوت تمزقه ورمته في سلة على الارض.

على مدى اليومين التاليين مشيت كثيرا على السطح الناعم الابيض ايضا توقفت بين حين وآخر وارتميت خائر القوى . تقلبت بين اصابع حانية مرة ومرة قوية وغاضبة اجدني بين شفتيها او  تنقر بمؤخرتي سطح المكتب، او ترمي بي ايضا من عليائها. وبين مسيرة عمل واخرى ، تدخل رأسي في ذلك النفق ذي الحواف الحادية الذي يبعثر جلدي. لم تكن العملية مؤلمة كثيرا وكنت احس انها من ضمن مسار تأهلي لما خلقت من أجله. لكن بمرور الأيام وقعت على اكتشاف مروع.

حدث ذلك حين وجدت نفسي ذات يوم ارمى داخل علبة فيها آخرون مثلي ويسدل الغطاء علينا.

كانوا جميعا يشبهونني قبل أن ابدأ مسيرتي بين اصابع هذه المرأة، مكتملي القامة، وهكذا اكتشفت ان جسمي يتضاءل ويصغر، لا يكاد يصل الى منتصف هيكل الواحد منهم.

حينها بدأ الهلع يغمرني كلما احاطتني اصابعها صعودا ونزولا تدور معي من اليمين الى اليسار.

صرت افزع كلما توقفت بعد كل حين لتقشرني بالثقب الذي تحشر فيه رأسي.

أدركت اني اتضاءل كلما قطت قشوري. كان جل خوفي ان انتهي قبل ان تكتمل مهمتي في تسويد كل هذا البياض.

تفلتني من اصابعها. اتدحرج قليلا ثم استقر. انظر الى وجهها ، تبادلني النظرات ثم تحركني بسبابتها . تمسكني تنقر بي على ذراع المقعد.

هي:

اتركه يقودني بعذوبة انسيابه على الجسد المتمدد مستسلما. منذ دفقات البداية الأولى ، صار رفيقي الذي اشتاق الى عنفوانه كلما غاب عني برهة اتمنى ان يصمد حتى انتهي من هذه الحكاية القصيرة ؟ الطويلة ؟ كيف لي ان اعرف وقد ارخيت له الزمام؟

كان يسابق الكلمات الضاجة المزدحمة في رأسي. سود صفحات كثيرة ثم توقف لاهثا يحاول ان يلتقط انفاسه كما خيل الي، فانتهزت هذه اللحظات لتقليب الاوراق وقراءتها بتأن.

ماذا؟ قلبت الورق مرارا. ليس هذا ما أردت كتابته. هذه ليست قصتي.

رميت القلم من يدي ونهضت سريعا. توقفت امام النافذة وأخذت نفسا عميقا.

رجعت الى مكتبي. أعدت قراءة الورق. أي شيطان جعلني أكتب كل هذا الهراء؟

 لا أدري ماذا جرى ولكني اكتب مالا يخطر على بالي، وكأن الكلمات تسابقني الى نهاية لم أخطط لها.

أمسكه بصعوبة هذه المرة لأنه بدا اصغر حجما من قدرتي على التحكم فيه بين  اصابعي، لكني استطعت أن اشطب جملة هنا اعدل كلمة هناك أو ارسم سهما الى هامش للمراجعة.

كورت الورق وألقيت به على  الأرض ثم جلست بهدوء على الكرسي.  تناولت قلما جديدا من العلبة ولكن كأن الأفكار هربت كلها من رأسي.

هو:

كان القلم الجديد يستكين بين أصابعها وهي تنقر به على مسند الكرسي او ترفعه الى شفتيها المنفرجتين. ثم فجأة لمحت قمة رأسي منزويا تحت الورق.

التقطتني وقربتني من الصفحة البيضاء. كانت هذه هي اللحظة التي انتظرها كل يوم.

بدأت اتلوى وأضغط على  الورق. وتنهمر الكلمات مثل شلال ماء . بعد عدة سطور وضعتني جانبا وتأملت الكلمات بأناة.

قبضت على رأسي وادخلته في المبراة، ادارتها بي وتساقطت قشوري. وحين امتطتني اصابعها ، عدوت وكأن شيئا لن يوقفني بعد وانطلقت أرسم انحناءات  الكلمات حتى اسودت الصفحة وقفزتُ الى صفحة اخرى. لم يسمع أحد لهاثي . كنت خائفا ان تطوحني بعيدا وانا اقترب من النهاية

توقفت أصابعها عن  الحركة ورفعتني الى فمها وهي تقرأ السطور. احسست بشفتيها تنفرجان عن  ابتسامة هادئة. انزلتني الى منتصف الورقة وخطت بي كلمة أخيرة.

 

هناك تعليق واحد:

  1. سردك السلس الجميل له وقع اجمل من أحداث القصة التي لاينفك المرء إلا أن يكملها شوقا للخاتمة ..

    ردحذف

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما