‏إظهار الرسائل ذات التسميات death. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات death. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 6 يوليو 2021

مسألة أمتار

قصة قصيرة  

بثينة الناصري

الشارع عرضه أمتار قليلة ،  ولكن عبد العظيم أفندي حين حاول أن يعبره وهو ينوء بأكياس الفاكهة والسيارات تمرق امامه مسرعة والشمس تخرق عينيه ، لم يحسبها جيدا ، ولهذا لم يستطع الوصول الى الرصيف المقابل أبدا. 

بعد ساعات وفي الطرف الاخر من العالم ، كان  الاسطى حسين مقاول  المدافن يتربع على مصطبة داخل سقيفة في مدخل احدى حواري المقبرة ، مبنية بما يناسب التراث الذي يحيط المكان : اربعة اعمدة من جذوع اشجار ترفع سقفا من سعف النخيل . وكان يتفق بصعوبة مع مندوبي العائلة على مثوى عبد العظيم أفندي . بعد قليل حسم الاسطى حسن المناقشة بصيحة "لا اله الا  الله" وتقدم المندوبين يشق الطريق الرملي الى مدفن متهدم. تسور بقايا حائط متهالك والرجال وراءه ثم دفع بابا تشقق خشبه ، فانفتح على غرفة صغيرة ليس فيها سوى حوض مستطيل من الاسمنت والتراب وعلى الحائط رخامة سوداء مكتوب عليها "الحاجة محفوظة السيد عزمي توفيت في 18 مايو 1965". 

أشار  الاسطى الى القبر وهو يقول :

-   لم ندفن احدا هنا بعدها لأن الارض تحتها ماء . 

وسار بحذر عبر الغرفة واشار الى مكان ينخفض عما عداه ، وقال : 

-  هل ترون هذا الهبوط ؟ لو حفرنا لظهر الماء . أقول لكم الارض غير صالحة للدفن .

قال كبير  المفاوضين – ماذا نفعل إذن ؟ وصية المرحوم ان يدفن مع أمه .

كان المرحوم لاينفك يردد كلما جاء ذكر الموت "وصيتي يازينب ان ادفن مع الحاجّة . الله يرحمها كانت  تحب العشرة والناس ولا تطيق  الوحدة . 

وقبل ان تحدث  المصيبة روى عبد العظيم افندي لأمرأته انه رأى – اللهم اجعله خيرا – فيما يرى النائم ان امه جالسة في صدر مجلس منطلقة ومستبشرة ضاحكة السن كما كانت في ايام عزّها . وكانت ترحب به بإلحاف وتدعوه الى الجلوس بجانبها . 

أجاب  المقاول : هذا الله وهذي حكمته . ليس أمامنا الا  المنامات *.

وهناك في  البيت شبت النار في قلب الحاجة زينب ارملة المرحوم وهي امرأة لم تعتد ان يُكسر كلامها فتوقفت عن البكاء وسيطرت على مشاعرها بلمح البصر وقالت باصرار : 

-   لن يدفن عبد العظيم  افندي الا الدفن  الشرعي . 

قالوا لها ان المقبرة صغيرة ومتهدمة والمكان الوحيد الموجود لم يعد يصلح للدفن ولكنها ردت بلهجة متعبة صارمة : 

-  ادفنوه في أي مكان ..ولكن لابد ان يكون شرعيا . 

وعادت الى نحيبها مما تعذر مخاطبتها مرة اخرى ، ورجع رجال العائلة الى الروض وبحثوا عن الاسطى حسن حتى وجدوه يزاول عمله في مدفن غير بعيد . استمع اليهم بصبر ثم  انزوى بهم جانبا واقترح ان يستأذنوا أهل الميت الذي يحفرون له باستضافة عبد العظيم أفندي في مدفنهم . ولكن هؤلاء  اعتذروا بأن الحوش يكتظ باجساد رجال ونساء عائلتهم الكبيرة وماتبقى من مساحة بالكاد يكفي الاحياء منهم ساعة تحين آجالهم . 

رجع بهم الاسطى الى المدفن الخرب ووقف الرجال يتأملون الموقع بحثا عن مكان مناسب . أشار بعضهم الى المساحة تحت السور المتهدم ... لكن المقاول اوضح لهم عمليا خطل هذا الرأي اذ سيكون المرحوم مداسا للرائح والغادي.

في البيت عندما حانت ساعة الفراق وكان الليل قد انتصف منذ وقت غير قليل ، صرخت  النساء وأحطن بالحاجة زينب . وعلا العويل والرجال يحملون الخشبة ويضعونها في  السيارة تتبعها ارملته وهي تتساند على أذرع جاراتها . أجهشت النساء في بكاء حقيقي حين امتنعت السيارة التي تحمل  الجثمان عن القيام وقيل ان روح المرحوم مازالت تهفو الى دنيا الاحياء ،  واضمرت  الحاجة زينب في نفسها ان تشتري في اول جمعة تخرج بها لزيارة  الغالي ماكان نفسه فيه ولم يتسن له ان يهنأ به : رمانا وعنبا وخوخا .. ثم استبعدت العنب اذ لم تسمع من قبل ان احدا اخرج الرحمة عنبا ، ومالت على جارتها تسألها المشورة. 

ولما تحركت السيارة بعد محاولات مضنية، تنفس المشيعون الصعداء ، فقد كان الليل يسرع حثيثا نحو الفجر وكان السائق يتأفف بصوت عال اذ لم يسبق لميت ان  استغرق كل هذا الوقت في اللحاق بالاخرة . وحتى  عندما توقفت  السيارة اخيرا امام المدفن وحمل الرجال  الخشبة كاد احدهم ان يقع لولا ستر الله فقد تعثر بحجارة  الطريق حتى مالت الخشبة وتعالت صيحات "الله  اكبر" ثم استعاد توازنه .. وقد ظلت هذه الواقعة تذكر وتستعاد في كل مجالس  العزاء في الحي بعد ذلك . 

أخيرا ومع أول نسمات الفجر آن لعظام عبد العظيم أفندي ان تنحشر داخل مترين بين باب  الروض والطريق العام ، ومع انصراف آخر خطوات الدنيا عنه ، استكان الرجل في وحدته الموحشة الرطبة لايؤنسه غير صوت مروق السيارات السريعة على أرض الشارع .

 ******

·       المنامات – هي طريقة للدفن تشبه الطريقة الفرعونية حيث يدفن الاموات في قبر واحد متسع اشبه بقاعة يدفن فيها الرجال بمعزل عن النساء ، وهي ليست الطريقة الشرعية الاسلامية حيث يدفن كل ميت في قبر خاص به . والمدافن في مصر عبارة عن احواش اشبه بالبيت فيها غرف يدفن فيها الميت شرعيا وفسحات تحوي المنامات. والحوش (المقبرة) خاصة بكل عائلة، وهناك مقابر الصدقة للأغراب او لمن لايملك شراء حوش خاص. وتسمى المقبرة التي تضم الأحواش (الروض))

     ( جو القصة متأثر بالحياة في مصر وهكذا العديد من قصصي التي كتبتها بعد انتقالي الى مصر في 1980)

** نشرت القصة في مجموعة (وطن آخر) القاهرة 1994

الأربعاء، 3 فبراير 2021

ميلاد

 قصة قصيرة

بثينة الناصري

 كان موتي مفاجأة صاخبة ، آخر ماسمعت صوت اصطدام صخّ أذني ثم صراخ وارتطام جسدي على منضدة حديدية وصليل نصال، وأخيرا صرير باب معدني ثقيل حيث حشرت في درج بارد ضيق ارتجّ وهو ينصفق .. وبعدها احتواني صمت حالك .

هكذا إذن .. 

 لكن وجودي عاريا متخشبا في هذا الحيّز الخانق هو آخر ماكان يخطر على بالي . إنها ورطة لم أتهيأ لها ولم أحقق بعدُ كل أحلامي .. إني حتى لم .. اجل .. هناك شيء ما كنت أريد ان أفعله قبل أن .. بل أشياء كثيرة .

صرخت دون صوت حتى تفجر الدم في عيني  المقفلتين ثم تراءى لي كما لو كنت وسط حديقة كل مافيها بلون الدم .. الاشجار والتراب والحصى . جاثيا كنت في عريي أخشى ان أرفع وجهي للّهيب الذي أحسه ولا أراه ، ثم فتحت عيني .

من بعيد كانت تلوح كوّة نور ساطع . زحفت نحوها ملتاعا ، تلحّ عليّ رغبة واحدة .. أن اعود ..  الى .. أحاول ان أتذكر المكان ؟  هناك ..خارج هذا الجحيم .. ولكن كمثل وريقة طُوِّح بها في نار متأججة ، كنت أحس بكل ما في رأسي .. بكل ما  اختزنته من معرفة .. يسوّدُ ، يذوي ، يتلوّى ، يتساقط رمادا . ألملمُ ما تبقى مني وأجرّ جسدي نحو النور . أمد ذراعي ثم رأسي وتعتريني زمهريرة برد يرتعش لها كياني .

أجدني مرة أخرى في الحديقة ذاتها ولكنها مغطاة بالجليد ، كل مافيها أبيض .. الاشجار والتراب والحصى وضباب بارد يغشى رأسي ويتسرب الى الخلايا ثم ينساب في دمي داخل الشرايين والاوردة طامسا الخير فيّ والشر ، فأغتسل بالبراءة وأنهض ، وقد تسلط عليّ هاجس واحد .. أن اصل الى الخضرة التي تطل من كوة صغيرة نائية ، لعل هناك عالمي الذي عشته من قبل ؟ ومع أني لم اعد أذكر كيف كان أو كنتُ .. ولكن شعوري بالانتماء الى ذلك العالم يشدّ قدمي خارج هذا الصقيع.

وأدلف ثانية الى الحديقة نفسها وقد  اكتسى كل مافيها بلون أخضر .. يغشاني سلام وشيء من الفرح . هل وصلت ؟ لابد أني اوشكت ، سأذكر إسمي .. إسمي ؟ ولكني لا أعرف من .. أنا .. لاشك انه هذا الصمت اللعين الذي لم أعتده . ربما يذكره بعض الذين كنت أعرف ؟ لقد كنت .. بل أني متأكد إني كنت .. كائنا من أكون .. جاهلا ، بريئا ، منسلخا حتى عن إسمي .. يجب ان أخرج من هنا . 

أمد بصري فيرتطم بباب  معدني . في البدء أدرك أني لا استطيع زحزحة أطرافي ، فالمكان يطبق عليّ، فيشل حركتي .. يخطر لي أن لو دفعت برأسي لانفتح الباب .

وهكذا جمعت إرادتي كلها في رأسي كأنها قبضة مضمومة واحدة وضربت الحديد عدة مرات .. دون طائل .

أتوقف هنيهة ألتقط فيها أنفاسي .. الرغبة في الخلاص هاجس لايقاوم حتى يخيل اليّ ان جدران المكان تضيق بي وتحملني في إعصار عارم بدفعة قوية اهتز لها الباب حتى انفرج قليلا .. أم كنت أحلم  ؟

لم يعد ثمة وقت أضيعه .. ضربة أخرى وربما  استطعت ان اخرج رأسي ولو فعلت لتدبرت أمري بشكل ما .

لم أتوقف لحظة لأفكر فيما سيكون عليه حالي خارج السكون والظلام .. أين أذهب ومن أكون ؟

 لقد تجمعت أحلامي في حلم واحد .. هو أن اغادر المكان الذي أحس به الان يطبق علي ويعتصرني حتى كأنه يوشك ان يلفظني خارجه . وأضرب  الباب بكل قوتي هذه المرة ، تلفحني هبة هواء ، فأعرف ان الباب انفتح.

فجأة يصخّ  سمعي ضجيج لا أحتمله ..وصراخ ، ثم أحس بأيد تمسك برأسي وتمتد الى كتفي ، تسحبني بصعوبة الى فضاء أرحب .. يد قوية تمسك قدميّ وترفعني منها الى الاعلى فأظل معلقا برهة في الهواء ..افتح عيني .. يخترقهما ضياء هائل ، فأشهق ، وإذا بماء دافيء يصب على جسدي الصغير ، ثم أمدد على منضدة حديدية ، وأحس بأيد تتلقفني .. تحيطني بقماط يشل أطرافي ، ثم أرفع مرة أخرى ، وإذا بي أهبط على شيء ناعم الملمس . كان رأسي طليقا أحركه كما أشاء .. أتلفت في كل اتجاه .. حتى يتعثر فمي في نتوء لحمي أتشبث به كطوق نجاة ، وفجأة ينساب  الى داخلي سائل دافيء حلو المذاق .. تحيطني ذراعان حانيتان .. أفتح عيني .. فأرى، لأول مرة ، وجه أمي


السبت، 2 يناير 2021

لا أحد يمسح الغبار عن وجهي





قصة قصيرة 
بثينة الناصري

(ملاحظة للقارىء: لكل حذاء قصة وتاريخ ومن هنا تبدأ هذه الحكاية)

_**

المرأة

آخر ما تتذكره في غرفة المستشفى تلك، انها كانت تقف الى جانب سريره حين قال انه يشعر بالغثيان وطلب ان تعد له عصير برتقال. وفيما هي تقطع الثمرة بالسكين سمعته يسعل بصوت مكتوم. التفتت اليه. كان قد انقلب على وجهه في السرير هو يشهق طلبا للهواء. وقفت حائرة وحاولت ان تعدل من انكفائه، وفي نفس الوقت راقبت انسلال زرقة خلف أذنيه. فجأة اقتحم الغرفة رجال بثياب المستشفى. دفعوها خارج المكان وانقضوا عليه بأجهزتهم.

بعد قليل، رأت أخاها مقبلا نحوها يلطم خديه. كان أول ما تبادر الى ذهنها أن الرجال لا يلطمون خدودهم. وقبل ان تسأله ، تقدم منها وسحبها من يدها الى قاعة اخرى. كان ثمة رجال لاتعرفهم متحلقين وكأنهم يتآمرون. افسحوا لها المجال بينهم. حدق أحدهم، وكان قصيرا وبدينا، فيها بعينين ثابتتين وهو يتمتم بإيات قرآنية.

صرخت بوجوههم:

-      هل تأكدتم؟ تأكدوا أولا. لم يمت. طلب مني عصير برتقال. دعوني ادخل اليه.

لم يسمحوا لها بالدخول. غاب أخوها في الداخل فترة طويلة ثم خرج وهو يحمل

 فردتي حذاء وكيسا منفوخا. قادها من يدها الى خارج المستشفى. جلس على السلالم

 المؤدية الى الشارع، أجلسها الى جانبه، ووضع بينهما الحذاء والكيس.

امتدت يدها الى الكيس فتحته قليلا ثم وضعته على حجرها. قلبت مافي داخله. كانت

 ملابس داخلية مشقوقة ومنقطة بالدم. أقفلت الكيس بسرعة وأعادته الى مكانه.

عندما حان وقت المغادرة ، أمسكت فردتي الحذاء وقلبتهما. كانا اسودين لامعين.

 تأملت الكعبين، متآكلين من الخارج. وأحست بثقل الساقين المنفرجتين اللتين

 لبستهما في السنوات الأخيرة.

حملتهما معها وانصرفت.

الراوي

حين اكتملتُ وبدأت أعي ما حولي، وجدتني على رف زجاجي في مكان هادىء

 ودافيء يطل على شارع مزدحم بالأحذية الرائحة والغادية. أحيانا تسرع، وأحيانا

 تتعثر، البعض يتمهل، يقف، يحدق بي من كل الجوانب ويمضي، وأنا اتطلع بأسى من

 نافذة النعيم الذي أرفل به الى الأحذية الكادحة في شمس الصيف ومطر الشتاء، وقد

 تغضنت وجوهها المتربة وتكسرت بالتجاعيد وتكلس الطين على جنباتها.

لوني أسود لامع. قبعت على رف زجاجي رقيق زمنا طويلا. كانت بين حين وآخر تمتد

 الي يدان تحملاني برفق وتمسحاني بقطعة قماش وتعيداني الى المكان. حتى جاء هذا

 الرجل في ذلك اليوم. لم أحب ملامحه المريبة في أول الأمر. أشار إليّ.

وهكذا وجدتني وتوأمي على الأرض لأول مرة. 

هذه هي الأرض إذن، ثابتة وصلبة ولا تهتز مثل الرف الزجاجي. كان الغريب يحاول

 اختراقنا بقدميه، بصعوبة بادىء الامر، ثم انسلتا بنعومة داخلنا.

قال الرجل "سآخذه" بعد ان تمشى قليلا بنا. وضعونا في علبة صغيرة، كدت أختنق

 في أفقها الضيق.

ركبنا معه السيارة وفي بيته الصغير، تنفست الصعداء حيث وجدت الدفء داخل

 دولاب ملابسه. مرت ليال ونهارات كثيرة. كان كل يوم يفتح الدولاب ويتحسسنا ثم

 يغطينا، حتى جاء يوم، استلنا بيد مرتعشة، وضعنا على الأرض ثم دس قدميه فينا.

 وقف أمام المرآة . كان يرتدي ملابس مثل لوني. وقف كثيرا أمام المرآة، استدار ثم

 تمشى ثم عاد، واخيرا خرج من الباب حيث كان كثير من الناس يصخبون ويضجون.

كانت اولى خطواتي على الطريق مؤلمة، حاملا كل هذا الثقل، هل هذا ما خلقت له؟

 كان الرجل يترنح بقدميه بطريقة غريبة كأن في ساقه اليسرى عوج ما، فقد كان

 الضغط يميل بي وبتوأمي الى جانب واحد مع أن الأرض تحتي كانت مستوية وثابتة.

سار الرجل متأنيا حتى لقيت الى جانبي تحت خيمة بيضاء فضفاضة واحدة مثلي ولكن

 بكعب عال رفيع. حاولت ان استرق النظر اليها من تحت الخيمة المتحركة لكني لم

 استطع، فقد قضينا وقتا طويلا نتحرك ونركب سيارات ونهبط منها وسط ضجيج وقع

 أحذية من حولنا، ثم في نهاية ليلة مضنية وجدتنا نسرع في صعود سلم ثم باب يفتح

 ويغلق وسط ضحكات.

أخيرا افلتتنا القدمان بقوة فوقعت انا ملامسا صاحبتي ذات الكعب العالي التي كانت

 هي الاخرى مرمية بغير عناية على الأرض.

المرأة

دخلت بيتي . كل شيء في مكانه ولكن استجد شيء مختلف: الغياب.

وضعت الحذاء على مائدة الطعام ودلفت الى غرفة النوم. تمددت على السرير أحاول

 أن ألملم أفكاري المشتتة.  

في الصباح، كان الحذاء مايزال على المائدة . جلست أتأمله. كان في حياته شديد الأناقة ، وحذاؤه لابد ان يكون لامعا في كل المناسبات.هناك تجاعيد كثيرة في الوجه ولكن الكعبين متآكلان الى الخارج بسبب تقوس ساقيه قليلا، وقد داعبته مرة متسائلة "هل حدث ذلك لركوب الخيل؟ لماذا لم تخبرني انك كنت فارسا لايشق له غبار؟"  

كان لديه أحذية أخرى ولكنه كان المفضل عنده منذ زواجنا قبل خمس سنوات. كان

 يعتني به كثيرا. يخرجه من مكمنه ويلمعه ويلبسه في المناسبات المهمة قائلا حين

 ألفت نظره " أتفاءل به"

وضعتهما على الارض، وادخلت قدمي فيهما، انزلقتا الى الداخل بسهولة. غاصتا في

 دفء غريب وكأنك نزعت قدميك منهما للتو، أحسست برعشة في نبضات قلبي،

 والدفء يتسلل صاعدا الى جسدي فيغمره بفيض من حنان ولأول مرة ينتابني شعور

 بأني أتوحد معك بطريقة ما، وأني لن أكون وحيدة وانت تملأ كياني وفضائي البارد

 مرة أخرى. مشيت بهما الى غرفة النوم. فتحت دولاب ملابسك ونزعتهما برفق من

 قدمي. أودعتهما الدولاب وأغلقت بابه بقوة. هل خشيت أن يرحلا عني بعيدا؟

الراوي

مرة ثانية أجد نفسي في دولابه، ملتفعا برائحة ملابسه. اتدثر بدفء الراحة أخيرا

 من المشي وصعود السلالم وضرب كرة طائشة عبرت الشارع من بين سيقان

 صبيان يلعبون، نخوض في مياه آسنة ، او نغوص في طين، نقفز عبر مجرى ماء

 في وسط الشارع. ننتظر ساعات في مكان مزدحم بالاحذية، تنغرز فيّ هذه القدم أو

 يخف الضغط كلما حوّل صاحبي ثقله من ساق الى أخرى، أو الجلوس طيلة النهار

 خلف مكتبه وهو يحرك أصابع قدمه داخلي أو يخرجها ويدعكها ويعيدها اليّ. أو ما

 حدث ذلك اليوم حين دخل بنا صاحبي مكانا فيه رجل آخر اشار له ان يخلعنا ويتمدد

 على سرير حديدي، ومن مكاني تحت السرير، رأيت الغريب يقترب ومعه جهاز

 يجره وراءه ، ثم يوصل اسلاكا بصدر صاحبي. بعد فترة، نهض هذا ومد أصابع

 قدمه داخلي وسحبني الى كرسي جلس عليه وهو يحادث الغريب بصوت خافت.  

  لا ادري إن كان سيغيب طويلا هذه المرة، ولكنا نستحق قليلا من الراحة داخل هذا الدولاب الآمن بعيدا عن ّحفر الطريق واشواكه التي تنغرز احيانا في باطن احدنا، او الايدي الخشنة التي تتداولنا بقسوة كما حدث قبل يومين حين كنا خارجين من مكان العمل، وإذا بي أدور حول نفسي وتوأمي ثم بصاحبي يتهاوى علينا بجسده الضخم فأختنق تحته. ثم سمعت صياح جمع من الناس، ثم نوضع في سيارة تسرع بنا ثم تتوقف، وايقاعات احذية راكضة ثم نمدد على سرير، وفجأة تنتزعني ايد فظة ترمي بي وتوأمي على الارض بعنف.

الآن  في هذا الصمت الحالك داخل الدولاب إلا من أصوات متباعدة، رنات أوان

 معدنية، ايقاع خطوات رتيبة متثاقلة. لقد مضى وقت طويل قبل ان ادرك اني وحدي

 مع توأمي في هذا المكان. لم  يكن معنا رفاقنا : الحذاء الرياضي الأبيض، وحذاء

 جلد بني، والاخر ذا اللون الأحمر الغريب. ولم يكن ذلك يهمني كثيرا فلم يكن بيننا

 حقا شيء من الود. كانوا ينظرون الينا وكأننا غريمان لهم بشكل ما، وربما كانوا

 وكنا، فما زلت  اذكر يوم كنا نصعد معه هذا التل الترابي، ثم نزلنا بسرعة ، جلس

 على الارض، خلعنا، وارتدى الأبيض الذي كان يحمله في كيس وقال لغرباء كانوا

 معه "الرياضي أحسن من الجلد هنا" لكنا كنا نتفرد برعايته. ففي كل مكان نسير

 اليه ، ينظر الينا بين الفينة والاخرى ، ثم ينحني وبمنديله يمسح ذرات تراب علقت

 على وجهينا.

أحيانا وهو يخرجنا من الدولاب، وهو يرتدينا، يحادثنا مترنما بالكلمات "امامنا طريق

 طويل اليوم، طريق صعب، لكنا معا سوف نصل" ثم يسكت وحين يتأهب للخروج،

 يطل علينا من عليائه ويقول "نحتاج شيئا من  الصبر" وكانت كلماته تشحذ همتنا

 لئلا نخذله، بل ربما ندوس على آلامنا كما حدث حين كشط جلد جانب وجه توأمي

 إثر احتكاكه بمسمار ناشز من سور سلم حديدي.  

ولكن هذا اليوم فوجئت بأبواب الدولاب تفتح على مصاريعها، والنور يقتحم ظلمتي

 ثم يد تجذبني بقوة الى الخارج.

المرأة

جاء أخي في ذلك الصباح مبكرا وقال بحسم "أمامك ساعتان لتحزمي اغراضك. اتفقت

 مع سيارة نقل صغيرة لنقل أشيائك"

وكانت أمي قد همست لي ونحن نتلقى  العزاء وسط نسوة ملتفات بالسواد، "لن تبقي

 وحدك. ستأتين للعيش معي. مازلت شابة وكلام  الناس كثير"

دخلت مع أخي غرفة النوم وأشرت الى السرير متسائلة، فقال:

-      لن نأخذه. ليس له مكان في شقة أمي. سنأخذ السرير الفردي المخصص للضيوف.

- المكتبة؟

- خذي بعض الكتب المهمة فقط.

- ولكني سآخذ هذا المكتب الصغير الذي كان يجلس إليه كل يوم.

تأمله أخي وقال مترددا "لابأس" ثم وضع أمامي صندوقين من الكرتون .

-      واحد للكتب واشيائك الضرورية  والاخر لملابسك.

-      - وملابسه؟

تنهد أخي وقال "ضعيها في اكياس وسوف نتصدق بها على روحه"

فتحت أبواب الدولاب على مصاريعها.

الراوي

تقدمت المرأة من سائق سيارة النقل الذي حمّل السيارة، بمساعدة عامل معه، بالاثاث

 القليل ، وسألته على استحياء:

-     " كم مقاس حذائك؟"

-      "43"

قالت وهي تسلمه الكيس :

-      "إذن هذا لك. والله هذا الحذاء بالذات عزيز علي، فساعة القضاء والقدر كان المرحوم

 يرتديه. وماكنت افرط فيه ولكن يمكن ينفعك، خذه واقرأ له الفاتحة".

أمسك السائق بالكيس حذرا وفتحه ونظر الينا ثم أغلقه بسرعة ، ثم رمى الكيس على

 ارض السيارة وبعد ان تحركت سمعت صوته يقول لمساعده:

-      "انت مقاسك مثلي تقريبا. سوف أخذ الحذاء الرياضي وانت خذ الحذاء الاسود."

أجاب الآخر: "ولكن المرأة اهدتك الاسود، والرياضي ينفعني في الشغل اكثر."

قال السائق ضاحكا:

-      "حذاء شؤم يا اخي وانت سمعت المرأة تقول ان المرحوم مات فيه وانا مازلت شابا."

ضحك الاخر وهو يقول :

-      "وانا اطفالي مازالوا صغارا . خذ الرياضي وأنا سآخذ  الحذاء الأحمر."

-     " طيب ، ناولني الكيس."

أخذه وباليد الاخرى حاد بالسيارة الى جانب الطريق  ومد يده من الشباك ، وهو يقول

 "يروح لصاحب الرزق" ولم اشعر إلا وأنا اطير في الهواء ثم اسقط في هاوية

 عميقة.    

استقبلتني روائح نفاذة تختلف عما كان صاحبي يرشها على جسمه وملابسه. هذا

 عالم جديد يموج بالحركة . قبل قليل مزقت آظافر حادة  الكيس وأطل علينا وجه قط

 تشممنا ثم ابتعد، ولم يمر وقت طويل حتى  انهالت علينا اثقال لزجة باردة، واخرى

 صلبة مثل الحجارة . ثم اخترق الزحمة زعيق قطط تتعارك على شيء ما داخل

 الهاوية التي وجدت نفسي فيها. ولم يهدأ الضجيج حتى سمعت صوت رجل ينهرها

 فتتقافز خارج المكان. حينها امتدت يدان تفتشان حولنا، سمعت اصوات زجاج يتكسر

 على الارض وآهة اطلقها الرجل ثم تحوم اليدان حول الكيس الذي نقبع فيه

 وتلتقطانه. ارتفعت من الهوة ونزع الرجل الكيس عني فوجدتني ارتفع من صندوق

 قمامة في يدي رجل بأسمال رثة وشعر أشعث، حملني الى الرصيف حيث جلس وهو

 يحاول ان يحشر قدميه داخلي. ظل يمطني من الجانبين ويدفع احدى قدميه الكبيرتين

 في حيزي الصغير. ولما عجز عن اختراقي، قلبني بيديه، تأملني مفكرا ثم رماني

 وتوأمي في كيس قماش كبير ملىء بأغراض متنوعة : خبز يابس، قناني ماء

 بلاستيكية فارغة، قميص ممزق، وحقيبة جلدية مقطوعة وأكياس صغيرة لم اعرف

 ما بداخلها.

نهض الرجل ، طوح الكيس على ظهره ، ومضينا. سار الرجل بنا مسافة كبيرة، ثم

 توقف فجأة والقى تحية على آخر وسمعت صوته يقول "اهلا . عندي لك هدية

 فاخرة، تشتري؟" هبط الكيس على الأرض، وامتدت يد لاخراجنا. تلقفتنا يدا الغريب

 الذي كان يبدو اقصر حجما واكبر عمرا وأشد رثاثة. وجلس على حافة الرصيف،

 يحاول انتهاكنا فلم يستطع. قال الغريب " قدمي عريضة والحذاء لا يناسبني ولكن

 بكم تبيعه؟ ربما يناسب أبني"

وهكذا بعد حوار طويل انتقلنا الى كيس غريب آخر، وسط علب معدنية صغيرة واشياء

 اخرى صدئة وبقايا طعام، ومضينا على درب طويل. ورغم الزحمة الشديدة التي كنا

 فيها، فلم يكن  الجو خانقا، لأن خرقا صغيرا في جانب الكيس كان يدخل الهواء

 وضوء النهار.. ومع تأرجح حركة الكيس على ظهر الغريب وصخب العلب المعدنية

 واصطكاك القناني ببعضها ، ودمدمة الرجل مع نفسه، بدأت أفكر في ما آل اليه حالي.

كنت أعيش في فردوس زجاجي عال، بعيدا عن المنال، يتأملني الناس  بإعجاب، وأنا

 انظر اليهم هانئا، مسرورا، مرتخيا بنعيم الراحة والأمان. ثم جاء هذا الغريب

 يراودني فأنزلني صانعي الى الأرض ومعي توأمي، وبدأت رحلة شقاء مع صاحبنا

 الذي سوف نكون معينا له على خوض غمار الأرض.    

كم من الدروب سرنا فيها وكم من التلال تسلقناها وكم من الأوحال خضناها، وكم من

 الانتظارات صبرنا عليها،   واحيانا كنا ونحن نخترق أرضا جرداء، نجد فردة حذاء

 مرمية في زقاق منكفئة على وجهها تشكو فراق توأمها، كان صاحبي ينظر اليها ثم

 يقول مع نفسه "فردة واحدة لن تنفع أحدا" ونمضي معا.

 لا  ادري لماذا طردتني وتوأمي هذه المرأة من البيت قبل رجوع صاحبنا. وكيف تستطيع اي قدمين غريبتين ان تنتهكا الحيز الذي ترك صاحبه بصمات لاتمحى عليه، بل شكّله بملامحه ومشيته ووقفاته وجلساته ومزاجه.  في السراء والضراء كنا معا، حتى فرقنا هذا الغياب المفاجىء. حين وصلت الى هذه النقطة من التفكير، عقدت العزم.

التصقت بتوأمي اعتذر له، فما أنوي فعله سوف يقدم له طوق النجاة والحرية أيضا.

 لم يكن القرار الذي وصلت اليه سهلا، فقد عشنا معا في كل أحوال صاحبنا الذي

 امتلكنا ثم ما أن اعتدنا عليه حتى تخلى عنا، ولكن لن نظل  نتنقل بين أقدام الغرباء.

 تحركت ببطء نحو الضياء..دفعت مقدمة رأسي من ثقب الكيس. وبعد جهد وعناء،

 انزلقت بصعوبة منه.

وجدتني أتدحرج هابطا على أرض رخوة، انكفأت على وجهي الذي تمرغ بالتراب

 ولكني تابعت بنظري الكليل اهتزاز الكيس على ظهر الغريب وهو يمضي بتوأمي

 بعيدا حتى صار نقطة في الأفق.


الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما