الخميس، 1 يوليو 2021

جوع

 

قصة قصيرة

بثينة الناصري

في مكان ما من الليل تصطف صفائح لا لون لها تطفح بأحشاء المدينة النائمة. ومن عمق الظلام يظهر رجل محلوق الراس محني الظهر يسدل على عظامه ملابس لا شكل لها، يتقدم من صفيحة ويغرس ذراعه داخلها ناثرا الزبالة حوله على الارض، تخرج يده بأوراق خسّ. يتأملها ثم يضعها في جعبة قماش تتدلى من عنقه. يدفن ذراعه مرة اخرى فتخرج بعظمة مازالت نتف لحم ودهن عالقة بها. يقربها من أنفه ويقلبها مرارا ثم يدسها في الجعبة. يعود الى البحث بأناة وصبر. تغوص يده في لزوجة. ينظر اليها ثم يمتص اصابعه بتلذذ.
يحس بحركة خلفه فيزداد تشبثه بالصفيحة ، فيما يلقي نظرة حذرة وراءه . صبيان يقفان متحفزين . يستدير الرجل وقد فتح ذراعيه مثل شراعين وكأنه يخفي عن عيونهما صفيحته . لكن الصبيين يراوغانه ويلتفان حوله ، يضرب احدهما صفيحة مجاورة فتنقلب بما فيها على الارض وينكب صاحبه على الزبالة يقلب فيها بسرعة محمومة .
زمجر الرجل وهجم على الولدين يضربهما بكل ما أوتي من قوة . بيديه وقدميه حتى التوى احدهما صارخا وهو يضع يده على بطنه ثم لحق بالاخر الذي كان يعدو في العتمة حتى ابتلعهما الليل .
 عاد الرجل الى انهماكه السابق فانحنى على الزبالة التي دلقها الصبيان على الارض فوجد علبة سردين فيها قليل من زيت السمك. كما التقط بضع ثمرات من طماطم تالفة ولمّ بأصابع مدربة كومة أرز انتهت الى جعبته .
أحاطت عيناه بالصفائح التي لم يستكشفها بعد وتلفت حوله فلما لم ير أحدا ، ارتمى على الارض وأسند ظهره الى شجرة محاذية ومدد ساقيه واضعا الجعبة في حجره ثم مد يده فيها محاولا ان يعد أسلابه ، دون ان يحول عينيه من الصفائح المترعة وهو يمني النفس ان يلقط انفاسه قليلا قبل ان يستأنف صيده.
فجأة .. يداهمه إحساس أنه لم يعد وحيدا .. مثل همهمة .. وأنفاس حارة تلفح رقبته . يستدير بحذر .. يواجه كلبين يقفان مستعدين وقد كشرا عن أنيابهما يزمجران ، وآخر غير بعيد يتشمم احدى الصفائح .
 تسمر الرجل حائرا ينقّل عينيه بين الكلبين . وهبط قلبه وهو يرى الكلب الثالث يقلب الصفيحة ويندس فيها وصوت عظمة تتكسر تحت أنيابه . فار دم الرجل وصرخ "هش" وحرك ذراعه وكأنه يبعدهما . فازدادت استقامة ظهري الكلبين المهاجمين وتجعد أنفاهما كاشفين عن أنياب خطرة .. فارتد الرجل الى الوراء ثم تلفت حوله فلقطت عيناه حجرا .. وفيما هو ينحني عليه بسرعة انقض الكلبان .. نهش احدهما أسماله الغارقة بالزيت وغرز الآخر أنيابه في لحم ساقه . تكور الرجل صارخا وحاول ان يزحف نحو جعبته . مد يده نحوها .. لكنها اختُطِفت بعيدا وتبعثرت محتوياتها .. فيما كان لحم ذراعيه وظهره ورقبته لقمة سائغة بين أنياب غاضبة .
 جرّ الرجل جسده وهو يعوي عواء فضح سكون الليل ، فتركه الكلبان حين تأكد لهما ابتعاده ورجعا الى الصفائح يبحثان فيها عن بقايا الطعام بنهم وهما يهمهمان :" هم .. هم .."
 استكان الرجل يلهث ألما ، وقد التصق جلبابه بالدماء الناضحة من جروحه . قرب ذراعه من وجهه ونفخ في الجرح الغائر ثم لعقه علّ الالم الحارق يبرد قليلا ، ثم انحنى على جرح في فخذه ونفخ نحوه من بعيد . أغمض عينيه محاولا ان يغفو عن قروحه .
لكنه انتبه فجأة على وجع حاد في بطنه غطى على أوجاع جروحه.. أدرك أنه جائع ولابد له أن يطفيء هذه النار التي تنهش جوفه بلقمة . رنا بحسرة الى الصفائح . اصبحت الكلاب الان أربعة او خمسة . أراد ان ينهض لكنه لم يستطع .
 سحب جسمه المقروح نحو الرائحة التي لم يعد يستطيع ان يقاومها. لما اقترب من الموقع ، أقعى على قائمتيه الخلفيتين وانتظر . رفعت الكلاب رؤوسها وحدقت فيه بانتباه ، ثم عادت الى انهماكها بالأكل .. حبا على أربع وازداد اقترابا . نفر كلب من جماعته ودنا منه . طأطأ الغريب رأسه منتظرا نهشة شرسة ، لكن الكلب تشمم رأسه وأذنيه ودار حوله وتشمم ظهره وساقيه ومابينهما .. ثم هز ذيله واستدار عائدا الى طعامه .
 زحف الغريب على قوائمه حتى اقترب من احدى الصفائح فقلبها ومد يديه يبحث عن شيء يسكت به جوعه، وجد كسرة خبز منقوعة بسائل ما .. فدفعها الى فمه وهو يهمهم راضيا :" هم .. هم .."

****

 نشرت في مجموعة (وطن آخر) القاهرة 1994

تحولت هذه القصة الى فيلم كارتون في محاولة اولى لتحويل قصصي القصيرة الى أفلام،  شاهد الفيلم هنا

.جوع Hunger - YouTube

 

 

هناك تعليق واحد:

  1. قصة مؤلمة وحزينة وللاسف تحدث احيانا فى ارض الواقع ولكن السؤال الذى لا يسئله احد لنفسه ابدا من المتسبب فيما وصل اليه هذا الرجل من الجوع؟ من المتسبب فى ذلك حقيقة؟ من الذى يجوع الناس ويفقر الناس ويمرض الناس؟؟

    ردحذف

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما