الاثنين، 22 فبراير 2021

قصة حياة "كلير سويتي" القصيرة جدا

 تأليف: بثينة الناصري



 أنهض من الفراش صباح كل يوم. أدخل الحمام، أحدق في وجهي في المرآة، وأتذكر كلير سويت.

قالت مصححة أن اسمها يُنطق (سويتي). وأنها إيرلندية من بلدة كيرك، التي لم  أسمع بها من قبل.

دقيقة ومرتبة، كما يليق بسكرتيرة تنفيذية في المشروع الدولي الذي كنا نعمل به في مدينة السويس. أنيقة ببساطة، نشيطة ومرحة، بالقدر الذي يسمح به دمها الإيرلندي، وقَصة شعرها الأشقر القصير، تحذف بضع سنوات من عمرها الذي لم استطع تخمينه تماما، ولكنها بالتأكيد تعدت منتصف العمر، ولهذا سأتذكر دائما يوم طرقتُ باب غرفتها، في ذلك الفندق في أسوان، الذي قضينا معا فيه اجازة شتائية رائعة. كان الوقت مبكرا. فتحتْ الباب، فرأيتها لأول مرة بملابس النوم، وشعرها القصير مشوشا، ثم رأيتُ وجهها، بدون مساحيق، وبدون قناع البشاشة والحيوية.

"يا إلهي" هتفتُ في أعماقي "كم هي عجوز!"

والآن، كلما أنهض صباحا، وأدخل الحمام، وأنظر في المرآة،  أتذكر كلير سويتي.

لقد مرت سنوات طويلة، عبرتُ خلالها بسرعة مذهلة، حدود الزمن الذي كان يفصل بين جيلينا. وقبل أيام، وأنا أبحث في أوراقي القديمة، وجدت بطاقة أنيقة صغيرة، كانت كلير قد أرسلتها من روما، مقر الإدارة الرئيسية للمشروع، حيث نقلت إليه، تصف فيها جولة لها في المدينة، كما رأتها في عيد الفصح من ذلك العام 1984.

"إني أقضي وقتا طويلا أتجول في شوارع روما، لزيارة المواقع السياحية. بالأمس مثلا ذهبت إلى مكان يعج بالفنانين، ومقابل مبلغ صغير، يرسمون لوحات بورتريه وكاريكاتير، وكان من الممتع أن اراقبهم وأقارن بين اللوحة والأصل. إن المكان زاخر بالحياة، واللمحات الإنسانية. للأسف، الصورة التي رسموها لي، لم تكن تشبهني اطلاقا. ماذا أقول؟ كانت لعجوز لا أعرفها" ثم أضافت في نهاية البطاقة، جملة ضحكت لها يومها، ولكني أراها الآن غريبة و(كئيبة)

"من فضلك، إبقِ على اتصال، وإبقِ على قيد الحياة"

ذلك أن كلير ماتت بعدها بوقت قصير.

الأربعاء، 3 فبراير 2021

ميلاد

 قصة قصيرة

بثينة الناصري

 كان موتي مفاجأة صاخبة ، آخر ماسمعت صوت اصطدام صخّ أذني ثم صراخ وارتطام جسدي على منضدة حديدية وصليل نصال، وأخيرا صرير باب معدني ثقيل حيث حشرت في درج بارد ضيق ارتجّ وهو ينصفق .. وبعدها احتواني صمت حالك .

هكذا إذن .. 

 لكن وجودي عاريا متخشبا في هذا الحيّز الخانق هو آخر ماكان يخطر على بالي . إنها ورطة لم أتهيأ لها ولم أحقق بعدُ كل أحلامي .. إني حتى لم .. اجل .. هناك شيء ما كنت أريد ان أفعله قبل أن .. بل أشياء كثيرة .

صرخت دون صوت حتى تفجر الدم في عيني  المقفلتين ثم تراءى لي كما لو كنت وسط حديقة كل مافيها بلون الدم .. الاشجار والتراب والحصى . جاثيا كنت في عريي أخشى ان أرفع وجهي للّهيب الذي أحسه ولا أراه ، ثم فتحت عيني .

من بعيد كانت تلوح كوّة نور ساطع . زحفت نحوها ملتاعا ، تلحّ عليّ رغبة واحدة .. أن اعود ..  الى .. أحاول ان أتذكر المكان ؟  هناك ..خارج هذا الجحيم .. ولكن كمثل وريقة طُوِّح بها في نار متأججة ، كنت أحس بكل ما في رأسي .. بكل ما  اختزنته من معرفة .. يسوّدُ ، يذوي ، يتلوّى ، يتساقط رمادا . ألملمُ ما تبقى مني وأجرّ جسدي نحو النور . أمد ذراعي ثم رأسي وتعتريني زمهريرة برد يرتعش لها كياني .

أجدني مرة أخرى في الحديقة ذاتها ولكنها مغطاة بالجليد ، كل مافيها أبيض .. الاشجار والتراب والحصى وضباب بارد يغشى رأسي ويتسرب الى الخلايا ثم ينساب في دمي داخل الشرايين والاوردة طامسا الخير فيّ والشر ، فأغتسل بالبراءة وأنهض ، وقد تسلط عليّ هاجس واحد .. أن اصل الى الخضرة التي تطل من كوة صغيرة نائية ، لعل هناك عالمي الذي عشته من قبل ؟ ومع أني لم اعد أذكر كيف كان أو كنتُ .. ولكن شعوري بالانتماء الى ذلك العالم يشدّ قدمي خارج هذا الصقيع.

وأدلف ثانية الى الحديقة نفسها وقد  اكتسى كل مافيها بلون أخضر .. يغشاني سلام وشيء من الفرح . هل وصلت ؟ لابد أني اوشكت ، سأذكر إسمي .. إسمي ؟ ولكني لا أعرف من .. أنا .. لاشك انه هذا الصمت اللعين الذي لم أعتده . ربما يذكره بعض الذين كنت أعرف ؟ لقد كنت .. بل أني متأكد إني كنت .. كائنا من أكون .. جاهلا ، بريئا ، منسلخا حتى عن إسمي .. يجب ان أخرج من هنا . 

أمد بصري فيرتطم بباب  معدني . في البدء أدرك أني لا استطيع زحزحة أطرافي ، فالمكان يطبق عليّ، فيشل حركتي .. يخطر لي أن لو دفعت برأسي لانفتح الباب .

وهكذا جمعت إرادتي كلها في رأسي كأنها قبضة مضمومة واحدة وضربت الحديد عدة مرات .. دون طائل .

أتوقف هنيهة ألتقط فيها أنفاسي .. الرغبة في الخلاص هاجس لايقاوم حتى يخيل اليّ ان جدران المكان تضيق بي وتحملني في إعصار عارم بدفعة قوية اهتز لها الباب حتى انفرج قليلا .. أم كنت أحلم  ؟

لم يعد ثمة وقت أضيعه .. ضربة أخرى وربما  استطعت ان اخرج رأسي ولو فعلت لتدبرت أمري بشكل ما .

لم أتوقف لحظة لأفكر فيما سيكون عليه حالي خارج السكون والظلام .. أين أذهب ومن أكون ؟

 لقد تجمعت أحلامي في حلم واحد .. هو أن اغادر المكان الذي أحس به الان يطبق علي ويعتصرني حتى كأنه يوشك ان يلفظني خارجه . وأضرب  الباب بكل قوتي هذه المرة ، تلفحني هبة هواء ، فأعرف ان الباب انفتح.

فجأة يصخّ  سمعي ضجيج لا أحتمله ..وصراخ ، ثم أحس بأيد تمسك برأسي وتمتد الى كتفي ، تسحبني بصعوبة الى فضاء أرحب .. يد قوية تمسك قدميّ وترفعني منها الى الاعلى فأظل معلقا برهة في الهواء ..افتح عيني .. يخترقهما ضياء هائل ، فأشهق ، وإذا بماء دافيء يصب على جسدي الصغير ، ثم أمدد على منضدة حديدية ، وأحس بأيد تتلقفني .. تحيطني بقماط يشل أطرافي ، ثم أرفع مرة أخرى ، وإذا بي أهبط على شيء ناعم الملمس . كان رأسي طليقا أحركه كما أشاء .. أتلفت في كل اتجاه .. حتى يتعثر فمي في نتوء لحمي أتشبث به كطوق نجاة ، وفجأة ينساب  الى داخلي سائل دافيء حلو المذاق .. تحيطني ذراعان حانيتان .. أفتح عيني .. فأرى، لأول مرة ، وجه أمي


الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما