الأربعاء، 7 يوليو 2021

الحلم الإنجليزي

كتب باء

قصة قصيرة 


هذا شارع في مقاطعة يورك في المملكة المتحدة اسمه شامبلز يعود تاريخه الى القرن الرابع عشر ثم ظل حتى القرن التاسع عشر سوقا للجزارين، ثم تحول بعد ذلك الى أشبه بمتحف ومعلم سياحي من معالم يورك. بعد زيارتي للشارع  في منتصف السبعينات، استلهمت منه هذه القصة التي نشرت في مجموعة (موت إله البحر) القاهرة 1977

بثينة الناصري

 قال الفتى من جامايكا:" ليلة بائسة . لا أظنهم يخاطرون بالخروج

 وابتسم عن أسنانه اللؤلؤية.

كانت حبات المطر ترشق نوافذ السيارة وتسيل على الزجاج جداول متعرجة يتراءى من خلالها زقاق ضيق تخيم على جانبيه اشباح سوداء لبيوت مائلة . . خشبية وصخرية، جاثمة منذ القرن الرابع عشر مثل فزاعات طيور في حقل مهجور. كان ماء المطر ينحدر في ساقية صغيرة وسط الزقاق المظلم.

وقفت سيارة  شركة السياحة في ساحة مدورة . وما أن نزل السياح الستة حتى ارتفعت المظلات السود فوق الرؤوس ، ولم يكن المطر ليمنع هذه الرحلة الممتعة بل انه يضيف جوا من الرهبة. ثم انه الطقس الانجليزي على أية حال.

تقدم الدليل بحذر وأشار للجمع ان يتبعه. كان الى جانب فتى جامايكا الأسمر ذي الاسنان اللؤلؤية، اختان من امريكا، كبيرتا السن الى حد لايمكن معه تحديد عمريهما. ولكن يبدو ان البدينة هي الصغرى وكانت طوال الرحلة تحيط اختها الطويلة العجفاء برعاية غريبة. وزوجان من لندن في مقتبل العمر. كانت المرأة بخلاف زوجها الذي يحمل وجها جادا لايناسبه، طائشة الحركات تكثر من الضحك واليها كان الجامايكي يتوجه بأكثر نكاته. 

وثمة فتاة عربية لا يمكن للمرء ان يتكهن كيف وضعت نفسها مع المجموعة في هذه الليلة العجيبة. كانت تلف جسدها بمعطف مطر رخيص وتخفي نصف رأسها تحت قبعة جلدية يسيل من حوافها الماء. وكانت تهنيء نفسها على هذه الفطنة، فلو حصل ما يدعو الى الهرب، لم يكن ثمة مبرر لأن يتعثر الواحد بمظلة.

قال الجامايكي مرة أخرى:" لا أظن المساكين يخرجون في ليلة ماطرة. ."

فضحكت الزوجة الصغيرة ، ولما رن صوتها في ضجة الليل، وضعت يدها على فمها لكن الدليل التفت وجرّ الفتى الاسمر جانبا وهمس بصوت تعمد ان يسمعه الاخرون:

- كنت اخشى ان اذكر شيئا لئلا تفزع السيدات ولكن في مثل هذه الليلة وقعت الحادثة.

لفت الامريكية البدينة ذراعها حول اختها وقالت:

- تخاريف!

ردّت عليها اختها بحزم:

-لابأس! لكن لا تنسي يا أليس أننا دفعنا نقودا من اجل هذي الاثارة . فلا تفسدي الليلة علينا! دعينا نحلم ان كل شيء ممكن. وإذا كانت المسألة عندنا ألاعيب وكلاء العقارات وخدم البيوت فهذه انجلترة واهلها في غاية الجد.

تنهدت أليس ، فيما تقدمت العربية من الدليل ونقرت على كتفه مترددة وسألته:

 - ماالذي يحدث بالضبط . . أصوات؟

- اخشى أني لا استطيع ان أفيدك يا آنسة. فلم يسبق لي أن رأيت او سمعت شيئا . لكن على مايقال ان البعض رأى شبح مرجريت نفسها عدة مرات.

سألته الامريكية الطويلة بصوت حاد:

- من هي مرجريت؟

وقبل ان يجيب ارتفع صوت الجامايكي يغني:"مارجريتا . . حبيبتي مارجريتا "

زجره الزوج اللندني:

- ارجوك!

والتصقت به زوجته ضاحكة بعصبية.

قال الدليل:

- آسف اذ كان علي ان اشرح لكم . هذا هو الشامبلز. إننا نقف الان تحت دكان الصائغ اليهودي الذي كان يعيش في الغرفة العليا من هذا المسكن. وذاك البيت الذي ترون كان لحائكة ملابس. ارجوكم من هنا.

قادهم عبر الزقاق. . واحتوتهم الظلمة.

كانت المصابيح القديمة المدلاة من اطراف البيوت مطفأة يعلوها السخام. ولما توغلوا في الدرب العتيق، هبط الصمت ثقيلا. وماتت ضجة الحياة في الشوارع القريبة . ضاقت السماء من فوق لتقارب حواف البيوت حتى لم يكن يسمع غير دبيب أقدامهم وصوت المطر يلطم الخشب والحجر المسود.

صاروا وسط الزقاق تماما . وجه قمر كالح يرصدهم من بين غيوم سوداء ، يرتمي بصيص من ضيائه الشاحب على الجدران. يتعلق بالخشب المنخور ، يباغت الوجوه، فيختلط السواد بالبياض وتنزلق ظلال الخوف مع حبات عرق يتفصد رغم البرد.

- نحن الان في القرن الرابع عشر.

التصقوا ببعضهم وتسارعت انفاسهم. كان المطر يضرب ظهر المظلات . . ينثال داخل جلودهم وينبض على أرض الزقاق بوقع واجف. . سريع.

- مثل هتشكوك . . تماما

-ارجوك! 

همس الدليل:

- آسف . . لا انصحكم بالتوغل أكثر . هل ترون ذاك البيت في آخر الزقاق؟ انه البيت الذي كانت تسكن فيه مرجريت.

التف الحاضرون حوله واضاف:

- وفيه قتلت!

ارتفعت آهة. وانتظر الدليل قليلا قبل ان يقول ببطء:

- وفي مثل هذه الليلة بالضبط. . قبل ستمائة سنة تقريبا.

آهة اخرى . . وانتظر هذه المرة فترة أطول قبل ان يقول:

- وفي الساعة الثامنة وخمس وعشرين دقيقة

صعدت معاصمهم الى أعينهم وهتف الزوج اللندني:

-  ولكن الساعة الان الثامنة وعشرون دقيقة . . يعني بعد خمس دقائق .

أكمل الدليل:

-يمكن ان يحدث أي شيء !

بقبق المطر في الساقية . آه . .  ندت صيحة وشهقة مكتومة . ازدادوا التصاقا واحسوا بالبرد ينفذ الى عظامهم . واحتارت العربية لمن تلجأ ثم وقفت قرب الفتى الاسمر وكادت تمس ذراعه. 

مرت الدقائق ثقيلة . لم يستطع احد منهم ان يرفع بصره عن بيت مرجريت لينظر في ساعته. لكنهم، بعد دهر طويل، سمعوا الدليل يقول:

-  الآن !

تراجعت الاختان الى الخلف قليلا، وهمست البدينة لاختها مشجعة فيما دفنت الزوجة وجهها في معطف زوجها وجحظت عينا الجامايكي وهو يحدق في آخر الزقاق. حبسوا أنفاسهم . .ومرت (الآن) بطيئة . دون ان يحدث شيء.

رفع الدليل ساعته وثبتها في عينيه وهمس لنفسه:

ثمة خطأ ما“.

وحجب الظلام إمارات الضيق على وجهه. ضحك الجامايكي ضحكة قصيرة.

-  قلت لكم حتى الفئران لن تخرج هذه الليلة.

تنفس الجميع الصعداء واحسوا بالامتنان لصوته. كانت الامريكية الطويلة تشعر بشيء من الاسى لضياع المتعة يخالطه شعور خفي بالارتياح، ورفعت اللندنية رأسها عن صدر زوجها الذي ارتخى جسده المتصلب. جر الجامايكي ذراعه من قبضة العربية وهو ينحني عليها لأول مرة قائلا بمرح:

-لاشيء يخيف. كل شيء هاديء . . ومرجريتا لاتحب المطر .

فجأة . .مات صوته اذ خطف عينيه لمعان في نهاية الزقاق. صرخ اللندني وجرّ زوجته اليه. .

ورأى الجميع من بعيد امرأة ملتفعة بملابس سوداء قديمة الطراز تنبع من بيت مرجريت وتعبر الزقاق بهدوء . . مثل غمامة هلامية وتختفي عند الطاق الذي يؤدي الى السوق القديمة.

التصق الحاضرون بالجدار وصرخت الامريكية العجفاء اذ رأت اختها البدينة تسقط على الارض مغمى عليها .

بعد ان تحركت السيارة الكبيرة نحو مركز المدينة .. 

وقف الدليل ينظر اليها حتى اختفت . . ثم استدار وسار مسرعا الى سيارة صغيرة كانت تنتظره في عطفة السوق القديمة .

قفز الى داخلها وبادر فتاة كانت في تلك اللحظة تنازع للخلاص من لفات وطيات رداء اسود حائل اللون قديم الطراز:

-  ماالذي اخّرك بحق السماء؟

هتفت الفتاة ضاحكة .

- اسكت ياجيمس ! كادت تحدث مصيبة ! في لحظة وأنا اعبر الشارع تعثرت بالرداء وكنت على وشك ان أقع . . ولكن آخر لحظة مرّ كل شيء بسلام. 

-على أية حال . .كنت رائعة ! لقد أغمي على احداهن..

-لاشيء خطير؟

الشيء المعتاد!

عطست الفتاة . . مسحت أنفها وقالت:

 اخشى اني اصبت بالبرد.

قال جيمس: 

-  آسف ياعزيزتي 

ثم أضاف وهو يدير محرك السيارة :

-  يلزمك قهوة ساخنة . أعرف مكانا لطيفا

 ****

صورة من  الانترنيت لشارع الشامبلز في مقاطعة يورك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما