‏إظهار الرسائل ذات التسميات old age. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات old age. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 24 يونيو 2021

المنزل

كتب باء

 قصة قصيرة

 بقلم: بثينة الناصري

المنزل عمره نصف قرن: طابقان وبدروم. ينفتح الباب الخارجي على صالات واسعة تحيطها غرف جانبية كانت ايام زمان مكتب السيد وغرفة الموسيقى التي يتصدرها بيانو السيدة وغرفة الطعام الفخمة. ويضم الطابق العلوي غرفة النوم الكبرى وغرفة الزينة وغرف نوم الاولاد وصالة اجتماع العائلة. أما البدروم فله باب جانبي صغير يتوارى في جانب من الحديقة ويتصل بالطابق الارضي بسلم ملتوٍ، وكان يضم سكن الخدم و المطبخ الرئيسي الذي كانت تجهز فيه وجبات العائلة وولائم الضيوف.

بعد موت الزوج وهجرة الاولاد ومَيَلان الحال، أغلق الطابق العلوي على غرف فارغة الا من ثريات قديمة معلقة بالسقف بخيوط العنكبوت. واحتشد البدروم بالأرائك المكسرة وكتب اصفرّ ورقها ، وأشياء أخرى كثيرة غطى معالمها الغبار.

وأُغلقت ابواب الطابق الارضي على مكتب السيد الذي لم يتبق منه سوى الكرسي الهزاز، وفي غرفة الموسيقى ظل البيانو الالماني الكبير صامتا ناشز اللحن، فهناك أشياء لا تباع مهما مال الحال.

الغرفة الوحيدة المسكونة الان كانت فيما مضى استراحة للزوار .. وصارت منذ سنوات عديدة ملاذا للسيدة فيها تنام وتأكل محاطة بصور العائلة التي تزحم الجدران وأرفف الدولاب الاثري . ومن شباكها الوحيد الطويل على طرز شبابيك زمان ، تطل السيدة احيانا على الحديقة.

السيدة عمرها قارب القرن . وجه مجعد مليح وشعر أبيض معقوص بعناية وثوب نوم بدون كمين يلوح منه ذراعان رقيقان . تتطلع الى الحياة المائجة خارج نافذتها وتصيح بصوت مرتعش لحوح: ابراهيم .. ابراهيم .. ابراهيم.

تلكز فتحية زوجها "رد على الهانم " لكنه يستمر في تنظيف البندقية العتيقة التي اشتراها من عشرين سنة خلت ، ولكن لما يستمر اسمه يتردد في أرجاء الحديقة .. لايجد بدّا من الصعود اليها. يدق باب الغرفة الذي تغلقه على نفسها بالمفتاح ليلا ونهارا، فيأتيه صوتها:

- من ؟

- ابراهيم

- من ؟ من أنت ؟

- أنا ابراهيم !

- ابراهيم ؟ ماذا تريد؟

- انت التي طلبتني ياهانم!

تصمت فترة طويلة ثم يسمع صوتها متسائلا بضعف:

- أنا تغديت ياابراهيم؟

ابراهيم عمره من عمر المنزل وآخر من بقي من سكان البدروم الذي ولد فيه ابنا لصفية الوصيفة ومحمد الطباخ، وأول ما شب عن الطوق خرج الى الحديقة وتعلم على يد البستاني العجوز كيف يعنى بها، فلما انتهى أجل هذا، صار ابراهيم بستانيا وهو بعد شاب صغير، وعلى مر الايام تحولت الحديقة الى جنة مشذبة منسقة تفوح برائحة الياسمين والفل والورد البلدي .. بل انه ملأ جوانب الحديقة بأشجار الفاكهة التي جاء بشتلاتها من قرية أبيه .. أشجار مانجو وجوافة وخوخ وبرتقال وليمون .. ومازالت الاشجار سخية تطرح ثمارها كل سنة. وقد استطاع ابراهيم ان ينال تعليما بسيطا شذب من طباعه ورقق جوانبه، فاستنّ تقليدا جديدا .. كان يختار كل صباح باقة ورد ملونة يضعها في زهرية وسط المائدة المنصوبة في الحديقة التي اعتاد السيد والسيدة تناول إفطارهما عليها.

ولكن مع موت السيد وتغير الحال وانقطاع اجرته، انتقل ابراهيم للعمل في حدائق اخرى وتحول الفردوس المنسق الى غابة متوحشة من الدغل والنباتات الطفيلية.

وفي جانب من الحديقة تحول الجراج الواسع الى سكن دائم لابراهيم .. فيه تزوج فتحية وأنجب منها محمد وأحمد وعوض وزينب. وكانت فتحية قد ابدت رغبتها بعد ولادة بكرها محمد في توسيع "المطرح" فأضاف ابراهيم الى الجراج بضعة أمتار من الحديقة وبنى غرفة صغيرة ثم أقام عشة للطيور والارانب .. ومع توالي الاولاد زادت وامتدت حبال الغسيل المربوطة كالاشرعة بين أشجار المانجو والجوافة والبرتقال والليمون، وتنتهي أطرافها بالإلتفاف حول رقبة تمثال فينوس دي ميلو القائم وسط النافورة الصغيرة الى فزاعة طيور، بعد ان سربلته فتحية بثوب قديم كالح لتحمي احواض الكرفس والبقدونس والملوخية.

كان كل شبر من أرض الحديقة يموج بالحياة الجديدة ، فقد تشعبت أذرعها كجذور شجرة كبيرة راسخة ، لكنها توقفت فجأة عند السلالم المرمرية المؤدية الى مدخل المنزل فما زال ابراهيم يحافظ على النظام القديم .. لا احد يجرؤ على دخول حرمة "المنزل" سواه ليلبي طلبا او امرأته لتأخذ هدمة السيدة لتغسلها مع هدوم اولادها او لتحمل لها طبق طعام صغير كانت في كثير من الاحيان لاتمسه ، فمع ازدياد نوبات نسيانها وهذيانها ، لم تعد تعرف الاحساس بالجوع او الشبع. وعلى مدى سنين طويلة ، ظل ابراهيم وامرأته يحلمان باليوم الذي لابد منه . كانت زوجته تهمس أحيانا وهي تنام الى جواره ليلا ..

- لما ربنا يتذكرها ..يا ابراهيم.

فيخرسها قائلا:

- لما !!

ويمد بصره حالما من نافذة الجراج الى المنزل الصامت الذي يشكل كتلة جامدة يحدّها الليل .. ورغم الظلام فقد كان في استطاعة ابراهيم ان يميز السلالم المرمرية الملتمعة بضوء بارد والباب المقوس والنوافذ العالية التي تزينها عقود وأطواق معمارية .. كان يعرف كل شبر وكل منحنى اكثر مما يعرف خبايا نفسه وما تحت جلده .. وطالما ولت ساعات الليل وهو يحتضن المنزل بعينيه.

 ومع إطلالة النهار .. وبعد ليلة مؤرقة حافلة بالخيالات .. تدفع السيدة بيديها الواهنتين ضلفتي الشباك وتجلس هادئة على المقعد المواجه للحديقة في لحظة خاطفة من لحظات وعيها.

يلتمع شعاع الشمس على بياض شعرها .. ترى اشجار الياسمين مزهرة وطرقات الحديقة نظيفة والحشائش مقصوصة واحواض الورد مبتلة بالندى.

- الافطار جاهز ياهانم.

ومن مكانها ترى صفية الوصيفة ترتب منضدة مدورة تحت شجرة الليمون ثم تروح وتجيء بالطباق وابريق الشاي بالنعناع. ويأتي ابراهيم .. شابا، يافعا، مهندما ليضع كعادته باقة ورد منمقة في زهرية صغيرة وسط المائدة .. ويكون ذلك ايذانا لها بالنزول.

تهبط السلم المرمري .. درجة .. درجة ..

ويبدأ يومها الحافل ...

 

الاثنين، 22 فبراير 2021

قصة حياة "كلير سويتي" القصيرة جدا

 تأليف: بثينة الناصري



 أنهض من الفراش صباح كل يوم. أدخل الحمام، أحدق في وجهي في المرآة، وأتذكر كلير سويت.

قالت مصححة أن اسمها يُنطق (سويتي). وأنها إيرلندية من بلدة كيرك، التي لم  أسمع بها من قبل.

دقيقة ومرتبة، كما يليق بسكرتيرة تنفيذية في المشروع الدولي الذي كنا نعمل به في مدينة السويس. أنيقة ببساطة، نشيطة ومرحة، بالقدر الذي يسمح به دمها الإيرلندي، وقَصة شعرها الأشقر القصير، تحذف بضع سنوات من عمرها الذي لم استطع تخمينه تماما، ولكنها بالتأكيد تعدت منتصف العمر، ولهذا سأتذكر دائما يوم طرقتُ باب غرفتها، في ذلك الفندق في أسوان، الذي قضينا معا فيه اجازة شتائية رائعة. كان الوقت مبكرا. فتحتْ الباب، فرأيتها لأول مرة بملابس النوم، وشعرها القصير مشوشا، ثم رأيتُ وجهها، بدون مساحيق، وبدون قناع البشاشة والحيوية.

"يا إلهي" هتفتُ في أعماقي "كم هي عجوز!"

والآن، كلما أنهض صباحا، وأدخل الحمام، وأنظر في المرآة،  أتذكر كلير سويتي.

لقد مرت سنوات طويلة، عبرتُ خلالها بسرعة مذهلة، حدود الزمن الذي كان يفصل بين جيلينا. وقبل أيام، وأنا أبحث في أوراقي القديمة، وجدت بطاقة أنيقة صغيرة، كانت كلير قد أرسلتها من روما، مقر الإدارة الرئيسية للمشروع، حيث نقلت إليه، تصف فيها جولة لها في المدينة، كما رأتها في عيد الفصح من ذلك العام 1984.

"إني أقضي وقتا طويلا أتجول في شوارع روما، لزيارة المواقع السياحية. بالأمس مثلا ذهبت إلى مكان يعج بالفنانين، ومقابل مبلغ صغير، يرسمون لوحات بورتريه وكاريكاتير، وكان من الممتع أن اراقبهم وأقارن بين اللوحة والأصل. إن المكان زاخر بالحياة، واللمحات الإنسانية. للأسف، الصورة التي رسموها لي، لم تكن تشبهني اطلاقا. ماذا أقول؟ كانت لعجوز لا أعرفها" ثم أضافت في نهاية البطاقة، جملة ضحكت لها يومها، ولكني أراها الآن غريبة و(كئيبة)

"من فضلك، إبقِ على اتصال، وإبقِ على قيد الحياة"

ذلك أن كلير ماتت بعدها بوقت قصير.

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما