الثلاثاء، 21 سبتمبر 2021

بطة عند البحر

 

 

تقافز الأطفال الثلاثة على الرمال، حتى وصلوا البحر، حيث غمست ليلى أصابع قدمها فى الماء، ودخلت متوجسة .. تبعها محمود بعد أن غرف قليلا من الماء، وطرح به على ظهرها، فصرخت كالملسوعة .. أما أحمد، أصغرهم، فقد ظل يتهادى على الرمل، مترددا، تسير خلفه أمه، وهى تخلع ملابسه، قطعة، قطعة، وترميها فى يد فاطمة، وبعد أن دفعت أحمد برفق إلى البحر، إلتفتت إلى فاطمة قائلة:

- إسحبى مقعدا وإجلسى هنا. وإياكِ إياكِ أن تغفل عيناكِ عنهم.

 غرقت فاطمة بأعوامها العشرة داخل الكرسى، فى مواجهة البحر، وسوّت فستانها الاصفر، الواسع، حولها، وحدقت دون أن تطرف عيناها فى الأطفال الثلاثة، وهم يلعبون فى الماء.

سوّت مرة أخرى الفستان، وفرشته على الكرسى .. كان فى الأصل ثوبا قديما لسيدتها التى جلست إلى ماكنة الخياطة ذات مساء .. قصّرت الكُمّين، وضيقت الصدر، وأخذت من الذيل قطعة طويلة، جعلت منها حزاما يلف الخصر .. ولما إنتهت، طلبت من فاطمة أن تجربه، فطارت هذه  به من الفرح، وتمايلت داخله أمام المرآة الكبيرة فى غرفة الهانم، ثم خلعته بسرعة، خشية أن يتسخ وقد عقدت العزم على ألا تلبسه إلا فى المصيف، بعد أن وجدت الهانم تشترى ملابس جديدة للأولاد من أجل هذه الرحلة وكأنهم ذاهبون إلى العيد.

وفى يوم السفر، تقدمت من سيدتها، مترددة وقالت باستحياء، وهى تمسك بطوق شعر، كانت ليلى قد أهملت ارتداءه منذ مدة طويلة:

- هل ألبس هذا بدل المنديل فى المصيف؟

نظرت إليها السيدة، بدهشة وكأنها تراها لأول مرة، ثم بدا على ملامحها التفكير وقالت: 

- طيب .. ولكن عند البحر فقط .

 فأسرعت فاطمة، وقد استخفها الفرح، وفتحت صرة ملابسها، واضعة الطوق وسط الفستان الأصفر إلى جانب العقد الزجاجى الذى كانت أمها قد اشترته لها من الحسين . ولم تكن فاطمة بحاجة الى تجربة الطوق على شعرها، فطالما ارتدته خفية عندما ينام الجميع وتطفأ الأنوار .. كانت تستله من تحت المخدة، وتحكم وضعه حول رأسها، وتستغرق فى أحلام يقظتها حتى يغلبها النعاس.

والآن هاهو حلمها يتحقق .. فهى تجلس قبالة البحر، متزينة بأجمل مالديها: الفستان والطوق والعقد، وليس عليها سوى أن تحرس الأولاد وهم يلعبون فى البحر.

فى أول جمعة بعد المصيف، ستذهب إلى قريتها، كما وعدتها الهانم .. وسوف تتحلق صويحباتها حولها، يسألنها بإلحاف:

- هل رأيت البحر الحقيقى يابطة**؟

- ماذا رأيت عند البحر؟ إحكي لنا يابطة؟

- رأيت النسوان عرايا .. والصغار يبنون بالرمال، والرجال يلعبون فى البحر. رأيت مراكب كبيرة، بيضاً وسوداً، وعليها أعلام أشكالا وألواناً .. تعبر من بعيد.

- وهل نزلت فى البحر يابطة؟

- كل يوم ..

كيف يمكن أن تقول لهن، إنها ما كانت تفعل، سوى الجلوس على الكرسى، قرب الماء تضع فى حِجرها، المنشفة وكيس الشطائر، وترقب بعينين لا تطرفان، تحركات الأولاد فى البحر .. وكان بين الحين والآخر، يقترب أحدهم يرتعش، وهو يقطر ماء، فتضع المنشفة على كتفه، وتقدم له شطيرة يقضمها بنهم .. وكان يحلو لليلى، كلما خرجت من البحر، أن تهرول إليها، وهى تقول "البحر لذيذ .. يافاطمة .. تعالي .. إنزلي معنا" وكانت فاطمة تجيب فورا "لا .. الفستان يتبلل" فقد كانت تأنف أن تقول للبنت التى تصغرها بعام واحد فقط، أن عليها أن تظل مربوطة بالكرسى، مثل كلب الحراسة.

إلتفتت إلى الخلف، فرأت الهانم مشغولة بالحديث مع جارتها، وهى تريها شغل الإبرة الذى تنهمك فيه ليلا ونهارا. ثم تطلعت إلى البحر .. كان الموج الناعم، يتهادى من بعيد، ليتكسر بتراخ على الشاطئ .. وكلما أطالت النظر، أحست أن البحر يناديها، فهذا هو اليوم الأخير للمصيف، وحرام ألا تفعل، كما يفعل الأولاد، ولو مرة واحدة.

حانت منها إلتفاتة أخرى إلى سيدتها، فوجدتها قد انشغلت، مرة ثانية، بالتطريز ونظارتها تكاد تسقط على أنفها.

نهضت فاطمة وتقدمت مترددة من البحر .. رفعت ثوبها قليلا وخاضت بساقيها فى الماء القريب من أحمد الذي كان يجلس وسط الماء يملأ علبة عصير فارغة ثم يفرغها. 

- ماذا تفعل يا أحمد؟

- أبيع العصير ... إلعبى معى.

وقفت حائرة .. تلفتت حواليها، ثم تمايلت، وهى تنهدّ على الماء بكل ثقلها .. آه  .. صرخت، وبرودة الماء تلسع فخذيها وتنقع سروالها الداخلى وبطنها .. إنتفخ فستانها مثل خيمة فوق الموج، ثم أثقله البلل، فهبط عائما.

نظرت إلى سيدتها وقالت بصوت عال علّها تسمعه:

- دفعنى أحمد .. أحمد دفعنى فى الماء ...

ولما لم ترد السيدة .. مدت فاطمة ساقيها، وتمرغت فى البحر، محركة ذراعيها وكأنها تسبح. ثم زحفت على بطنها، حتى وصلت الى حيث ليلى ومحمود، فقالت وهى تمط كلماتها: البحر .. جميييل  .

 صاحت ليلى:

- فاطمة .. ولكن فستانك! اقول لك .. إخلعيه لينشف.

- كانت امى تذبحنى

- فاطمة .. يافاطمة .. انطلق صوت السيدة غاضبا "أين أنت يافاطمة؟".

 إنتفضت فاطمة، وزحفت حتى الشاطيء، وركضت نحو الهانم، وثوبها ملتصق بجسدها يقطر منه الماء ..

- ماذا فعلت يامجنونة؟ ألم أحذرك من ترك مكانك؟ والآن أنظرى ماذا فعلت بنفسك؟ ياربى ... ستصابين بالحمى ولاشك ..إعصرى الفستان. ماذا جرى لك؟ كنت عاقلة طوال المصيف.

كانت فاطمة تستمع للتقريع، وهى منكسة الرأس، تدارى اضطرابها، بعصر ذيل ثوبها، كما أمرتها سيدتها، فينزل الماء، جداول على الأرض، حتى تكونت بركة صغيرة حول قدميها.

- إذهبى الآن .. لمّي الأولاد من البحر، لنلتقط آخر صورة في الكاميرا، قبل غروب الشمس.

تنفست فاطمة الصعداء، وهي تجري نحو البحر، يعوقها ثوبها الذى ينحشر بين فخديها.

-  ياليلى .. يامحمود .. ياأحمد!

واندفعت إلى داخل البحر للمرة الاخيرة، متعللة بأنهم لا يسمعون صوتها .. ياليلى .. يامحمود .. ياأحمد.

وأحست برطوبة عذبة والماء يداعب بطنها .. حركت ذراعيها حولها ولما اقتربت من ليلى رشتها برذاذ من الماء، كما رأتها تفعل من قبل مع اخويها "تعالى ياليلى ... لنأخذ صورة. أخرج يامحمود .. هيا ياأحمد".

وقف الأولاد فى كادر الصورة، وخلفهم البحر. ليلى تضع يدها على كتف محمود الذى يجمد عند حركة كاراتية .. أحمد يجلس على الأرض لاويا عنقه ينظر للكاميرا بنصف عين، فى حين تقف خلفه فاطمة، وقد ذهب رونق فستانها المتهدل بالماء يخرّ منه إلى الأرض، ويتجمع بركة تغوص فيها قدماها. كان شعرها المبلول يلتصق بصدغيها، وعنقها، وقد انزلق الطوق على جبينها، وعلقت حبات من الطين فى العقد الزجاجى .. كانت أشبه بكلب منقوع لما ينفض نفسه بعد، ولكنها كانت الوحيدة فى الصورة التى يضئ وجهها بابتسامة عريضة تشرخ فمها حتى أذنيها.

**

 ----------------

* القصة نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) عام 1998 وايضا في الجزء الثاني من أعمالي القصصية الكاملة (كتاب المغامرات)  

** "بطة" إسم دلع يطلق في بعض مناطق مصر على من تسمى "فاطمة" 

الصورة بكاميرتي لأطفال على البحر ولا تمت للقصة بصلة.

 ترجمتها الى الإنجليزية داليا كوهين مور ونشرتها مع قصص لكاتبات عربيات في كتاب صدر عن دار نشر جامعة نيويورك في 2005. رابط القصة المترجمة  كتب باء بثينة الناصري: At the Beach (books-ba.blogspot.co

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما