الأحد، 17 أكتوبر 2021

تقرير يومي

قصة قصيرة 

 بثينة الناصري 

لمدة ثلاثة شهور، قبل تقاعدي، كُلِفت بمهمة مراقبة مشاغب سياسي، وكتابة تقارير يومية عن حركاته، وسكناته، وهي من المهام التي طالما قمت بها، طوال حياتي الوظيفية، خير قيام ولم يكن في الأفق ما يوحي، ولا كان يخطرعلى البال بأن هذا التكليف الأخير سيكون مختلفا عما سبقه.

تقرير أول

(إنه في الساعة الثامنة، من صباح يوم السبت 8/11/1995 إستلمت واجبي لمراقبة منزل المدعو حميد عبد الحق، الكائن في 4 شارع النصر. وقد نزل المذكور في الساعة التاسعة والنصف، وتمشى مسافة 200 متر باتجاه الشارع الرئيسي، ثم استقل سيارة اجرة. تبعته بأخرى، حتى توقف امام مبنى صحيفة (الحضارة)، وهبط وهبطت وراءه، وانتظرته خمس ساعات بالتمام، خرج بعدها مع إثنين من الشباب. أحدهما يضع نظارة طبية، والآخر له شارب كث. وقف الثلاثة يتحدثون حديثا لم أستطع الإقتراب، لأسمعه ثم ابتعد الشابان، ومشى المذكور باتجاه السوق، حيث توقف عند بائع فاكهة، واشترى تفاحا ثم أشار إلى سيارة اجرة، واستقلها وكنت وراءه حتى وصلنا البيت.

في تمام الساعة الخامسة مساء، جاء الشاب الذي يضع نظارات طبية، وتم ذكره آنفا، وهو يحمل حقيبة أوراق، ودخل المنزل، وخرج منه بعد 45 دقيقة. ولم يحدث شيء، حتى الساعة العاشرة مساء، حيث خرج المذكور، وهو يرتدي ملابس رياضية، وأخذ يمشي بسرعة، وأنا وراءه، حتى وصل الشارع الخلفي، فأخذ يعدوعدوا خفيفا، وأنا وراءه، من أول الشارع إلى آخره، ثم اجتاز عدة شوارع جانبية، حتى رجع إلى شارع النصر، ودخل المنزل، ولم يخرج منه بعد ذلك.)

كان صوت لهاثه يلفح اذني، وهو يجري أمامي، وأنا امشي بخطوة خفيفة سريعة، أكاد أكتم أنفاسي المتلاحقة، خشية أن يكتشف وجودي، حتى إذا ابتعد مسافة طويلة، وكاد يغيب عن نظري، في عطفة شارع جانبي، حثثت السير، وهرولت قليلا،على اطراف اصابعي، لئلا يحدث حذائي الحكومي، جلبة في هدأة الليل. وسرنا على هذا المنوال، خمسة أيام قبل أن تطرأ على ذهني فكرة. ضبطت الوقت الذي تستغرقه هرولة الساعة العاشرة اليومية فإذا هو 30 دقيقة. في الليلة التالية حينما غادر المنزل مساء، مرتديا ملابسه الرياضية، لبدتُ في مكاني الخفي، وعيني على ساعتي، وكما توقعت، ما أن مرت الدقيقة الثلاثون، حتى رأيته عائدا، متقطع الانفاس، فابتسمت وأنا اشكر الرجل في سري، على إلتزامه التام بروتينه اليومي. وفي تقارير الايام التالية، كنت أذكر خط مشوار الرجل الليلي، وكأني أتبعه أقرب اليه من ظله، حتى جاء يوم مَرّ فيه الوقت المحدد، دون أن يعود.

رفعت رأسي منتبها، وتلفت حولي مذعورا ونقرت ساعتي عدة مرات، لئلا تكون اختلت، ولكن مرت ساعة، ثم اقتربنا من منتصف الليل، وإذا به راجع، بطيء الخطو، هاديء النفس، يحمل رزمة، لم أتبينها، تحت إبطه. وَجمت في مكاني، حتى إني لم أتحسب لاحتمال أن يراني. أين كان خلال هاتين الساعتين؟ و ما الذي أتى به يحمله؟ كيف لي أن أعرف؟ وماذا سأكتب في تقرير ذلك اليوم؟

أخيرا لم أجد بدا من إغفال هذه السقطة، في التقرير، ولكني من يومها ماعدتُ أدعه يغيب عن ناظري لحظة واحدة.

كان المدعو حميد عبد الحق، طويل القامة، نحيف البنية، خفيف شعر مقدم الرأس، وفي عينيه الضيقتين، يلوح مكر ودهاء، ويغطي فمه الباسم دوما، شارب انيق، يختلط السواد فيه بالبياض.

تقرير

(إنه في الساعة التاسعة، من صباح يوم الجمعة 22/12/1995 وبعد استلامي واجبي بساعة، أطل موضوع المراقبة من نافذة علوية، ونادى فتحي البواب الذي انطلق داخل المبنى بسرعة، وبعد قليل، خرج وهو يقبض على بعض العملات النقدية ومشى باتجاه السوق. وعندما عاد قطعت الطريق عليه، وسألته سؤالا عابرا، وأنا أتفحص مايحمله. كيس يضم خمس بيضات، وكيس آخر، ملوث بآثار دهن طعام، وكان يتأبط جريدة لم أتبين إسمها ثم تركني، ودخل مسرعا.  قبل صلاة الجمعة وحين كان بعض شباب الحي يلعبون كرة القدم، في الشارع تحت المنزل رقم 4، كما هي عادتهم كل يوم جمعة، نزل المدعو حميد عبد الحق بملابسه الرياضية، وعندما سلم بصوت جهوري على الشباب، إلتفوا حوله، كان يطبطب على أكتافهم وهو يحدثهم حديثا طويلا دون أن أستطيع الإقتراب والإستماع. ثم فجأة إنقسم الشباب فريقين. إنضم المذكور إلى أحدهما، ولعب بخفة ومهارة، حتى أنه سجل خمسة أهداف قوية، وكان الشباب من كلا الفريقين، يهللون مع كل هدف، ويصفقون)

أخذتني قدماي إلى حيث يتحلق المتفرجون حول الملعب .. وجدتني أصفق بحماسة، لكل هدف يسجله حميد عبد الحق .. بل إني كنت أتلفت، وأنظر في العيون، وكأني أشهد الناس على ما يربطني به من صلة وثيقة .. وقد كان حقا يستحق الإعجاب بمهارته، وحيويته التي فاقت شبابا أصغر منه سنا. وكدتُ مرة أو مرتين، أبوح لجيراني المتفرجين بسرّ لياقته التي طالما أنهكتني الهرولة وراءه، كل مساء. بعد الهدف الأخير، رفع حميد ذراعيه وأعلن إعتزاله اللعب، وغادر راكضا نحو البيت.

لم أكن في عجلة من أمري . كنت أعرف إنه لا يخرج صباح الجمعة للصلاة أو أي مكان آخر وأني قد أنتظر، حتى هبوط الليل، قبل أن يطرأ جديد.

كان قد مر أكثر من شهر على مراقبتي إياه، حتى صرت أعرف كل تفاصيل حياته .. أصحابه ومريدوه ، طعامه وشرابه ..أعرف مثلا أنه يعيش وحيدا بلا أسرة، لكنه يعيش حياة إجتماعية حافلة .. يزور ويزار. أصدقاؤه من كل الاعمار .. غالبا ما يضع كفه على كتف الشاب منهم وهو يحدثه حديثا وديا. كان يقف على باب البيت دقائق طوالا، وهو يتحدث أو يستمع لرفيقه قبل أن يحييه، ويدلف إلى البيت. كان يتصرف، وكأنه يمتلك كل الوقت. فلم أره متعجلا سوى ساعة ذهابه إلى المكتب صباحا.

في أحيان كثيرة، كنت أسائل نفسي، إذا كان قد أحس بوجودي. ولكن إن كان قد فعل، فلم يبد عليه ذلك، ولم يغير شيئا من عاداته. وقد كان هذا يعذبني بشكل ما. كنت أتمنى لو إنه يراني ويعمل على مراوغتي .. هكذا يكون إعترافا منه بوجودي. ولكن أن يتصرف وكأني كائن غير مرئي، لايُحسب له حساب؟ لقد كان ذلك شيء أكثر مما يُحتمل. لقد راودتني نفسي أن أرتكب عمدا غلطة ما، لأعلن عن وجودي، وأحيانا أخرى، كنت أبكّت النفس لتهافتي، وأعجب كيف – بعد كل سنوات العمل الطويلة - تكون مشاعري بهذه الرخاوة! هل هو أثر التقدم في العمر؟ أم بسبب حقيقة أن هذه المهمة، هي الأخيرة قبل إحالتي على التقاعد؟ لا أدري ماذا حدث وكيف حدث.

لكن يُرضي ضميري أن تقاريري، كانت شاملة، وافية، لا تشوبها شائبة، أو نقصان، وإنْ وجدتُ أنه كلما ازدادت تقاريري اليومية تفصيلا، زاد تعلقي بالرجل – وكنت أرى في هذا غرابة لا تفسير لها، لاسيما وإنني حين استلمت المهمة، كنت قد حُذرت بحزم أن موضوع المراقبة شديد المكر والحيطة.

تقرير

(إنه في يوم 31/12/1995 الذي مر عاديا طوال الصباح، ولكن بعد صلاة العصر، كانت هناك حركة غير طبيعية في البيت رقم 4 شارع النصر. راح البواب وجاء اكثر من مرة محملا بالاطعمة والفاكهة – وقبل المغرب بقليل، هبط حميد عبد الحق، حاملا حقيبة جلدية، ومشى ناحية شارع جانبي، وتوقف عند احد البيوت المعروفة ببيع الخمور، بعيدا عن انظار الحكومة. دخل البيت، وخرج بعد قليل، مثقلا بقناني الخمر، كما يبدو واضحا من إنبعاج وإنتفاخ جلد الحقيبة، في اكثر من موضع.

في حوالي الساعة العاشرة مساء، تقاطرعلى البيت الكثير من الاشخاص .. وجوه كنت أعرف بعضها، وجاء بعضهم، برفقة نساء يرتدين ملابس سهرة)

تذكرت فجأة، أنه في هذه الليلة، يحتفل الناس بنهاية عام، وطلّة عام جديد. كان البرد شديدا. إلتففت بمعطفي الخفيف، ونفخت أنفاسا حارة في باطن كفي .. وأخذت أروح وأجيء لأبعث الدفء في أوصالي. إقتربت من النار التي أوقدها الحارس الليلي. حييته ووقفت أتدفأ. رد تحيتي باقتضاب ولم يسألني شيئا. كان قد تقبل وجودي، طوال الليالي الماضية، ويخيل إلي أنه كان يحدس مهمتي، واذ لم يجرؤ على سؤالي، فلابد أنه أدرك جهة عملي فآثر السلامة. تبادلنا حديثا قصيرا حول برودة الطقس، والمشاكل المتوقعة التي يمكن ان يثيرها السهارى، والسكارى هذه الليلة. حانت مني إلتفاتة إلى النافذة العلوية للبيت، فرأيت ظلال أشخاص تتحرك، عبر الضياء المنبعث من الثريا الكبيرة التي كنت أستطيع رؤيتها من مكاني. ولا أدري كيف راحت افكاري، لبيتي القابع في ذلك الحي الفقير. بيتنا الذي لا ينيره غير فانوس نفطي .. تراءت لي إمرأتي تغط في نومها بين أجساد أولادنا الخمسة، غائبة عما يحدث من سنة تمضي، وسنة تجيء. فالسنوات في بيتنا واحدة، بل حتى نهارنا يشبه ليلنا، لأن نور الله الذي يشع كل صباح على الخلق، لا يدخل البيت الغارق أبدا بالظلمة.

قطعت أفكاري انفجار ضحكات نسائية. رفعت رأسي إلى النافذة المضاءة، وابتسمت. كنت أحس بشكل غامض، أني جزء من هذا العالم الذي أضعه صوب أنظاري، ليلا ونهارا .. هذا العالم الذي صرت أعرف كل تفاصيله، كما أعرف مسام جلدي. فركتُ كفي في لهب نار الحارس الليلي، ثم حييته، وأنا أغادره إلى مكاني المعهود. كنت أريد أن أختلي بنفسي، وأنا أحدق، بكل جوارحي، في النافذة العليا. هل أرى حقيقة أم أنه خداع نظر؟ خيل إلي أني أرى ظلالا تتمايل على صوت الموسيقى الصادحة عبر الزجاج والجدران.

وفيما كانت عيناي تتسلقان النافذة في محاولة لاستجلاء مايحدث، إنطفأ النور، وساد ظلام عدة ثوان، ثم زعق الضوء مع هتافات، وتهليل، حتى غطى على صوت الموسيقى. تفحصت ساعتي. كانت الثانية عشرة. شعرت بالبهجة تغمرني. إذن هكذا ماتت السنة القديمة راحت بشرها وخيرها في طيّ الظلام، ومع انبلاج النور، ولدت سنة جديدة .. سنة خير إن شاء الله . كانت هذه هي المرة الاولى التي أكون فيها جزءا من هذا الحدث. وجدت نفسي أضحك ساخرا، وأنا أتذكر أم الأولاد التي تغفو الآن، غافلة عن الدنيا، ومايجري فيها.

ثم طرأ على ذهني أنه لا شيء تغير حقا فيها. أنا مازلت في موقعي تحت البيت رقم 4 .. كتبت عنه صحائف من التقارير في السنة التي ماتت، وسأكتب من الغد، مع بداية السنة الوليدة، تقارير اخرى. فما الذي تغير بالنسبة لي، أو بالنسبة لحميد عبد الحق؟ فإني موجود في لوح قدره، عبر سنة فاتت، وسنة قادمة .. ما أشد السخرية: أن يضحك الرجل، ويمرح هذه الليلة دون أن يعرف أن هناك رقيبا يحصي عليه أنفاسه! تراءى لي وجهه الباسم دوما، رغم عينيه الماكرتين .. شعرت بفيض من الألفة نحوه، وشيء من الأسى، وسمعت نفسي اتمتم:

"كل سنة وانت طيب. ياحميد يابن عبد الحق "

ولكن الأيام التي تلت كانت تحمل أكثر من جديد، فما أن مر اسبوعان، حتى بُلغت بانتهاء مهمتي. لم  أدر لحظتها، هل كان ذلك يعني رفع المراقبة؟ أم أن شخصا آخر قد حل محلي؟ لم يكن لي أن أسأل أكثر مما ينبغي. ولم توكل إلي مهمة اخرى، بل كان علي أن اقضي الأيام الباقية حتى تسوية راتبي التقاعدي بين جدران المديرية. في أول يوم بعيدا عن حميد عبد الحق، شعرتُ بافتقاد روتينه الذي صار نهج حياتي، لمدة ثلاثة شهور.

وقد قضيت ذلك اليوم، وأنا أكتب في خيالي تقارير وهمية .. الآن خرج إلى المكتب .. الآن عاد. هل إشترى اليوم تفاحا؟ لابد إنه يتهيأ الآن لرياضته اليومية. وأرى ابتسامته الهادئة، وهو يضع يده على كتف محدثه. وكان إحساسي بالضياع في الأيام التالية أشد حدة على غير المتوقع، فبدلا من الإنغماس مع جلبة العمل، داخل المديرية .. كان توقي إلى ذلك الروتين الذي غادرته مرغما يزداد شراسة.

وفي البيت سألتني إمرأتي:

- مالي أراك قلقا؟

- لاشيء. لكني غير معتاد على قضاء كل هذا الوقت في البيت.

- وماذا ستفعل إذن، لما تحال على التقاعد؟

تساءلتْ بنبرة ساخرة.

ولم يطل الوقت، حتى ألفيتني استيقظ ذات يوم، مع إدراك أن وقتا طويلا صار ملكي. بدأت أخرج إلى المقهى المجاور. كنت أجلس وأطلب شايا، وبعد قليل أشرع بالقلق وآخذ في استطلاع ساعتي، بين حين وآخر. لقد أزف موعد وصوله. وأظل أتململ على الكرسي، وأستعيذ بالله حتى أرغم نفسي على مغادرة المقهى إلى البيت.

ولكني في أحد الايام لم أطق صبرا. فعزمت أمرا. خرجت قبل الظهر بقليل، وعيني على الساعة. كان قد مضى أكثر من شهر على إنقطاعي عن ذلك البيت في شارع النصر، وكان علي أن ألحق ساعة رجوعه.

هبطت الشارع أخيرا، وكأني أعود إلى أهلي وناسي. تفرست في الوجوه التي أعرفها والتي مازالت كما عهدتها، وكأن شيئا لم يتغير. نظرت إلى الساعة. لم يبق إلا دقائق على وصوله، إذا كان مايزل ملتزما بنهجه. لم اشأ أن أتخفى في مكاني القديم. تمشيت على مهلي، ثم أعدت النظر إلى الساعة، ورفعت رأسي، فإذا بعيني تصطدمان بعينيه. كانت أول مرة تلتقي عيوننا. توقف كلانا ودون أن أدرك وجدتني أمد له يدي كما لو كان صديقا قديما :

- السلام عليكم. كيف الحال؟

صافحني باقتضاب، وهو يرد:

- وعليكم السلام.. وكيف حالك ياعم صالح؟

كانت المفاجأة حقيقية:

- الله؟ تعرفني وتعرف اسمي؟     

شملني بعينيه الماكرتين، وهو يقول:

- صالح عبد الصمد.. متزوج وعندك خمسة أولاد وأُحلت على التقاعد من إسبوع.

هتفت بدهشة:

- ولكن تعرف كل شيء عني؟

ضحك، وقال، وهو يضع يده على كتفي:

- لقد افتقدناك يارجل.. كيف الحال؟

**

نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) الصادرة في القاهرة وبغداد 1998


الثلاثاء، 21 سبتمبر 2021

بطة عند البحر

 

 

تقافز الأطفال الثلاثة على الرمال، حتى وصلوا البحر، حيث غمست ليلى أصابع قدمها فى الماء، ودخلت متوجسة .. تبعها محمود بعد أن غرف قليلا من الماء، وطرح به على ظهرها، فصرخت كالملسوعة .. أما أحمد، أصغرهم، فقد ظل يتهادى على الرمل، مترددا، تسير خلفه أمه، وهى تخلع ملابسه، قطعة، قطعة، وترميها فى يد فاطمة، وبعد أن دفعت أحمد برفق إلى البحر، إلتفتت إلى فاطمة قائلة:

- إسحبى مقعدا وإجلسى هنا. وإياكِ إياكِ أن تغفل عيناكِ عنهم.

 غرقت فاطمة بأعوامها العشرة داخل الكرسى، فى مواجهة البحر، وسوّت فستانها الاصفر، الواسع، حولها، وحدقت دون أن تطرف عيناها فى الأطفال الثلاثة، وهم يلعبون فى الماء.

سوّت مرة أخرى الفستان، وفرشته على الكرسى .. كان فى الأصل ثوبا قديما لسيدتها التى جلست إلى ماكنة الخياطة ذات مساء .. قصّرت الكُمّين، وضيقت الصدر، وأخذت من الذيل قطعة طويلة، جعلت منها حزاما يلف الخصر .. ولما إنتهت، طلبت من فاطمة أن تجربه، فطارت هذه  به من الفرح، وتمايلت داخله أمام المرآة الكبيرة فى غرفة الهانم، ثم خلعته بسرعة، خشية أن يتسخ وقد عقدت العزم على ألا تلبسه إلا فى المصيف، بعد أن وجدت الهانم تشترى ملابس جديدة للأولاد من أجل هذه الرحلة وكأنهم ذاهبون إلى العيد.

وفى يوم السفر، تقدمت من سيدتها، مترددة وقالت باستحياء، وهى تمسك بطوق شعر، كانت ليلى قد أهملت ارتداءه منذ مدة طويلة:

- هل ألبس هذا بدل المنديل فى المصيف؟

نظرت إليها السيدة، بدهشة وكأنها تراها لأول مرة، ثم بدا على ملامحها التفكير وقالت: 

- طيب .. ولكن عند البحر فقط .

 فأسرعت فاطمة، وقد استخفها الفرح، وفتحت صرة ملابسها، واضعة الطوق وسط الفستان الأصفر إلى جانب العقد الزجاجى الذى كانت أمها قد اشترته لها من الحسين . ولم تكن فاطمة بحاجة الى تجربة الطوق على شعرها، فطالما ارتدته خفية عندما ينام الجميع وتطفأ الأنوار .. كانت تستله من تحت المخدة، وتحكم وضعه حول رأسها، وتستغرق فى أحلام يقظتها حتى يغلبها النعاس.

والآن هاهو حلمها يتحقق .. فهى تجلس قبالة البحر، متزينة بأجمل مالديها: الفستان والطوق والعقد، وليس عليها سوى أن تحرس الأولاد وهم يلعبون فى البحر.

فى أول جمعة بعد المصيف، ستذهب إلى قريتها، كما وعدتها الهانم .. وسوف تتحلق صويحباتها حولها، يسألنها بإلحاف:

- هل رأيت البحر الحقيقى يابطة**؟

- ماذا رأيت عند البحر؟ إحكي لنا يابطة؟

- رأيت النسوان عرايا .. والصغار يبنون بالرمال، والرجال يلعبون فى البحر. رأيت مراكب كبيرة، بيضاً وسوداً، وعليها أعلام أشكالا وألواناً .. تعبر من بعيد.

- وهل نزلت فى البحر يابطة؟

- كل يوم ..

كيف يمكن أن تقول لهن، إنها ما كانت تفعل، سوى الجلوس على الكرسى، قرب الماء تضع فى حِجرها، المنشفة وكيس الشطائر، وترقب بعينين لا تطرفان، تحركات الأولاد فى البحر .. وكان بين الحين والآخر، يقترب أحدهم يرتعش، وهو يقطر ماء، فتضع المنشفة على كتفه، وتقدم له شطيرة يقضمها بنهم .. وكان يحلو لليلى، كلما خرجت من البحر، أن تهرول إليها، وهى تقول "البحر لذيذ .. يافاطمة .. تعالي .. إنزلي معنا" وكانت فاطمة تجيب فورا "لا .. الفستان يتبلل" فقد كانت تأنف أن تقول للبنت التى تصغرها بعام واحد فقط، أن عليها أن تظل مربوطة بالكرسى، مثل كلب الحراسة.

إلتفتت إلى الخلف، فرأت الهانم مشغولة بالحديث مع جارتها، وهى تريها شغل الإبرة الذى تنهمك فيه ليلا ونهارا. ثم تطلعت إلى البحر .. كان الموج الناعم، يتهادى من بعيد، ليتكسر بتراخ على الشاطئ .. وكلما أطالت النظر، أحست أن البحر يناديها، فهذا هو اليوم الأخير للمصيف، وحرام ألا تفعل، كما يفعل الأولاد، ولو مرة واحدة.

حانت منها إلتفاتة أخرى إلى سيدتها، فوجدتها قد انشغلت، مرة ثانية، بالتطريز ونظارتها تكاد تسقط على أنفها.

نهضت فاطمة وتقدمت مترددة من البحر .. رفعت ثوبها قليلا وخاضت بساقيها فى الماء القريب من أحمد الذي كان يجلس وسط الماء يملأ علبة عصير فارغة ثم يفرغها. 

- ماذا تفعل يا أحمد؟

- أبيع العصير ... إلعبى معى.

وقفت حائرة .. تلفتت حواليها، ثم تمايلت، وهى تنهدّ على الماء بكل ثقلها .. آه  .. صرخت، وبرودة الماء تلسع فخذيها وتنقع سروالها الداخلى وبطنها .. إنتفخ فستانها مثل خيمة فوق الموج، ثم أثقله البلل، فهبط عائما.

نظرت إلى سيدتها وقالت بصوت عال علّها تسمعه:

- دفعنى أحمد .. أحمد دفعنى فى الماء ...

ولما لم ترد السيدة .. مدت فاطمة ساقيها، وتمرغت فى البحر، محركة ذراعيها وكأنها تسبح. ثم زحفت على بطنها، حتى وصلت الى حيث ليلى ومحمود، فقالت وهى تمط كلماتها: البحر .. جميييل  .

 صاحت ليلى:

- فاطمة .. ولكن فستانك! اقول لك .. إخلعيه لينشف.

- كانت امى تذبحنى

- فاطمة .. يافاطمة .. انطلق صوت السيدة غاضبا "أين أنت يافاطمة؟".

 إنتفضت فاطمة، وزحفت حتى الشاطيء، وركضت نحو الهانم، وثوبها ملتصق بجسدها يقطر منه الماء ..

- ماذا فعلت يامجنونة؟ ألم أحذرك من ترك مكانك؟ والآن أنظرى ماذا فعلت بنفسك؟ ياربى ... ستصابين بالحمى ولاشك ..إعصرى الفستان. ماذا جرى لك؟ كنت عاقلة طوال المصيف.

كانت فاطمة تستمع للتقريع، وهى منكسة الرأس، تدارى اضطرابها، بعصر ذيل ثوبها، كما أمرتها سيدتها، فينزل الماء، جداول على الأرض، حتى تكونت بركة صغيرة حول قدميها.

- إذهبى الآن .. لمّي الأولاد من البحر، لنلتقط آخر صورة في الكاميرا، قبل غروب الشمس.

تنفست فاطمة الصعداء، وهي تجري نحو البحر، يعوقها ثوبها الذى ينحشر بين فخديها.

-  ياليلى .. يامحمود .. ياأحمد!

واندفعت إلى داخل البحر للمرة الاخيرة، متعللة بأنهم لا يسمعون صوتها .. ياليلى .. يامحمود .. ياأحمد.

وأحست برطوبة عذبة والماء يداعب بطنها .. حركت ذراعيها حولها ولما اقتربت من ليلى رشتها برذاذ من الماء، كما رأتها تفعل من قبل مع اخويها "تعالى ياليلى ... لنأخذ صورة. أخرج يامحمود .. هيا ياأحمد".

وقف الأولاد فى كادر الصورة، وخلفهم البحر. ليلى تضع يدها على كتف محمود الذى يجمد عند حركة كاراتية .. أحمد يجلس على الأرض لاويا عنقه ينظر للكاميرا بنصف عين، فى حين تقف خلفه فاطمة، وقد ذهب رونق فستانها المتهدل بالماء يخرّ منه إلى الأرض، ويتجمع بركة تغوص فيها قدماها. كان شعرها المبلول يلتصق بصدغيها، وعنقها، وقد انزلق الطوق على جبينها، وعلقت حبات من الطين فى العقد الزجاجى .. كانت أشبه بكلب منقوع لما ينفض نفسه بعد، ولكنها كانت الوحيدة فى الصورة التى يضئ وجهها بابتسامة عريضة تشرخ فمها حتى أذنيها.

**

 ----------------

* القصة نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) عام 1998 وايضا في الجزء الثاني من أعمالي القصصية الكاملة (كتاب المغامرات)  

** "بطة" إسم دلع يطلق في بعض مناطق مصر على من تسمى "فاطمة" 

الصورة بكاميرتي لأطفال على البحر ولا تمت للقصة بصلة.

 ترجمتها الى الإنجليزية داليا كوهين مور ونشرتها مع قصص لكاتبات عربيات في كتاب صدر عن دار نشر جامعة نيويورك في 2005. رابط القصة المترجمة  كتب باء بثينة الناصري: At the Beach (books-ba.blogspot.co

At the Beach

 

By: Buthaina Al Nasiri 


  The three children jumped down the beach until they arrived at the water’s edge, where Layla submerged her toes and entered anxiously. After he had scooped a little water and splashed it on her back and she had screamed as though she had been stung, Mahmud followed her. As for Ahmad, the youngest, he kept running along the beach hesitantly. His mother, who was walking behind him, removed his clothes piece by piece and threw them into Fatima’s hands.

 After she had pushed Ahmad gently into the water, she turned to Fatima. “Pull up a chair and sit here, and don’t you dare take your eyes off them!” she said. Fatima let her ten-year-old body sink into the chair opposite the sea. She smoothed down her flowing yellow dress and gazed unblinkingly at the three children playing in the water.

 Again, she smoothed down her dress, spreading it out on the chair. Originally the dress had belonged to her mistress. One evening, she had sat at her sewing machine and altered the dress: she had shortened the sleeves, tightened the bodice, and cut a long piece from the hem, fashioning it into a belt that wound around the waist. After she had finished sewing, she asked Fatima to try the dress on.

Fatima was beside herself with joy. She stood in front of the big mirror in her mistress’s bedroom, swaying from side to side, then she quickly removed the dress, for fear of spoiling it. She decided to wear it only at the summer resort, after she had discovered that her mistress was buying new clothes for her children for this journey, as if they were going to a religious festival.

On the day of the journey, she had approached her mistress hesitantly, holding a headband that Layla had not worn in a long time, and asked shyly, “Can I wear this instead of the headscarf at the summer resort?” The mistress looked at her in amazement, as though seeing her for the first time. She pondered awhile and then said, “Okay, but only at the beach.”

 Overjoyed, Fatima rushed to open her bundle of clothes and placed the headband in the middle of the yellow dress. She did not feel the need to try it on, for she had often worn it secretly when everyone was asleep, and the lights were turned off. She would remove it gently from under the pillow, put it carefully around her head, and drift into dreams until she was overcome by sleep. And now her dream was fulfilled. She was sitting opposite the sea, adorned with her most beautiful things: the dress, the headband, and the glass necklace. All she had to do was watch the children playing in the water.

 She imagined that on the first Friday after returning from the summer resort, she would visit her village—as her mistress had promised—and her little friends would gather around her and ask her insistently: “Did you see the real sea, Fatima?” “What did you see at the seashore? Tell us.” “I saw naked women . . . and little children building castles in the sand, and men playing in the sea. I saw big ships, white and black, carrying flags of different shapes and colors ...They passed from a distance.” “Did you go into the water?” “Every day . . .” How could she possibly admit that she had merely sat on a chair near the water, with a towel and a lunch bag in her lap, watching the movements of the children in the sea without blinking her eyes? From time to time, one of them would approach her, dripping wet and trembling, and she would put the towel around his shoulders and give him a sandwich, which he would devour ravenously. It pleased Layla, whenever she came out of the water, to run to Fatima and say, “The sea is delightful, Fatima. Come into the sea with us.” And Fatima would immediately reply, “No, my dress would get wet.” She disdained telling the girl, who was only one year younger than her, that she had to remain chained to the chair like a watchdog.

She turned around and saw that her mistress was busy talking with her neighbor while showing her the needlework in which she was engrossed day and night. Then she looked back toward the sea.   The soft waves advanced from afar to break up leisurely at the shore. The longer she gazed, the more she felt that the sea was calling her, for today was their last day at the summer resort. What a pity not to go into the water like the other children, if only once! Her glance fell again on her mistress, who was still absorbed in her embroidery, her glasses slipping down her nose.

 Fatima rose and advanced hesitantly toward the sea. She lifted the hem of her dress a little and waded into the water near Ahmad, who was sitting in the sea filling a tin can and then emptying it. “What are you doing, Ahmad?” “I’m selling juice. Play with me.” She stood bewildered. She glanced around her, then swayed as she plunged into the sea with all her weight. “Oh . . .” she screamed as the cold water stung her thighs and soaked her underclothes and belly. Her dress billowed like a tent above the waves, then, saturated with water, it collapsed and floated. Gazing at her mistress, she said in a voice loud enough to be heard, “Ahmad pushed me. Ahmad pushed me into the water . . .” When her mistress did not react, Fatima stretched out her legs and rolled in the water while moving her arms about, as though she were swimming. Then she crawled on her belly until she drew near Layla and Mahmud. “The sea is . . . beautiful,” she said in a drawn-out voice. “Fatima! But your dress! Take it off so it will dry,” Layla shouted. “Your mother would kill me!”

“Fatima! Fatima!” The mistress’s voice rang out angrily. “Where are you, Fatima?” Fatima jumped out of the water and ran toward her mistress, her dress clinging to her body, dripping wet. “What have you done, crazy girl? Have I not warned you not to leave your place? Look what you have done to yourself! Good heavens! You will surely catch cold. Wring out the dress. What on earth has happened to you? You’ve been so sensible until now!” Fatima listened to the rebuke with bowed head, hiding her confusion by wringing the hem of her dress. The water flowed in little streams to the ground, forming small puddles around her feet.

“Go now. Fetch the kids from the sea so I can take the last picture.” Fatima breathed a sigh of relief as she ran toward the sea, her steps hindered by her dress, which gathered between her thighs.  “Layla, Mahmud, Ahmad!” And she plunged headlong into the sea for the last time, pretending that they had not heard her. “Layla, Mahmud, Ahmad!” She felt a pleasant sensation as the water caressed her belly. She swung her arms about vigorously, and when she came close to Layla, she splashed her with water, just as she had seen Layla do with her brothers earlier. “Layla, come to have a picture taken. Mahmud, get out of the water. Ahmad, hurry up!”

The children stood in the frame of the camera lens with the sea behind them. Layla put her hand on Mahmud’s shoulder, as he stood frozen in a karate posture. Ahmad sat on the ground with his neck twisted around, half looking at the camera, while Fatima stood behind him. Her beautiful dress had been ruined by the water, which was dripping from the hem to the ground and collecting in puddles around her feet. Her wet hair clung to her temples and neck, the headband had slipped to her forehead, and grains of sand were stuck in her glass necklace. She looked like a soaking wet dog that had not yet shaken itself off. But she was the only one in the photograph whose face was lit with a smile stretching from ear to ear.

 **

Translated by Dalya Cohen-Mor.(Arab Women Writers: An Anthology of short stories) , State University Of New York Press, Albany, 2005                                                                                                                                                                                                              

الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

(هو)

 قصة قصيرة
بثينة الناصري

جلست تراودني بنظراتها وأنا ممدد على سطح أبيض ناعم. لمستني بإصبعها وكأنها تتأكد من صلابتي ثم وضعت كفها تحت ذقنها ارتكزت على سطح المكتب وهي تتأملني.

أخيرا نهضت وغابت قليلا ورجعت. أمسكت جذعي وبيدها الأخرى دفعت رأسي داخل نفق صلب حاد الحواف فإذا بي ألف حول نفسي . لم يتسن الوقت لأتملص أو   أصرخ . وجدت جلدي يتساقط قشورا كاشفا عري رأسي الأسود اللامع المسنن، ثم وجدتني آلامس السطح الأبيض الناعم بقوة لا إرادية . كان احساسا لا يوصف . لحظة التلامس الأولى . تحركت صاعدا هابطا ومرتعشا اتعثر احيانا في تعرجات حتى ارتخت  اصابعها فوجدتني اخمد متهالكا وانا انظر الى ما سكبت عليه ذاتي. كانت على البياض اشكال سوداء متناثرة بانتظام.

تساءلت بصوت عال، قلق : بداية جيدة؟

نهضتْ وغابتْ لحظات ورجعتْ بإبريق شاي سكبت منه في قدحها ورشفت منه متمهلة ثم ازاحتني جانبا وامسكت الأبيض الناعم ، دعكته بيدها حتى سمعت صوت تمزقه ورمته في سلة على الارض.

على مدى اليومين التاليين مشيت كثيرا على السطح الناعم الابيض ايضا توقفت بين حين وآخر وارتميت خائر القوى . تقلبت بين اصابع حانية مرة ومرة قوية وغاضبة اجدني بين شفتيها او  تنقر بمؤخرتي سطح المكتب، او ترمي بي ايضا من عليائها. وبين مسيرة عمل واخرى ، تدخل رأسي في ذلك النفق ذي الحواف الحادية الذي يبعثر جلدي. لم تكن العملية مؤلمة كثيرا وكنت احس انها من ضمن مسار تأهلي لما خلقت من أجله. لكن بمرور الأيام وقعت على اكتشاف مروع.

حدث ذلك حين وجدت نفسي ذات يوم ارمى داخل علبة فيها آخرون مثلي ويسدل الغطاء علينا.

كانوا جميعا يشبهونني قبل أن ابدأ مسيرتي بين اصابع هذه المرأة، مكتملي القامة، وهكذا اكتشفت ان جسمي يتضاءل ويصغر، لا يكاد يصل الى منتصف هيكل الواحد منهم.

حينها بدأ الهلع يغمرني كلما احاطتني اصابعها صعودا ونزولا تدور معي من اليمين الى اليسار.

صرت افزع كلما توقفت بعد كل حين لتقشرني بالثقب الذي تحشر فيه رأسي.

أدركت اني اتضاءل كلما قطت قشوري. كان جل خوفي ان انتهي قبل ان تكتمل مهمتي في تسويد كل هذا البياض.

تفلتني من اصابعها. اتدحرج قليلا ثم استقر. انظر الى وجهها ، تبادلني النظرات ثم تحركني بسبابتها . تمسكني تنقر بي على ذراع المقعد.

هي:

اتركه يقودني بعذوبة انسيابه على الجسد المتمدد مستسلما. منذ دفقات البداية الأولى ، صار رفيقي الذي اشتاق الى عنفوانه كلما غاب عني برهة اتمنى ان يصمد حتى انتهي من هذه الحكاية القصيرة ؟ الطويلة ؟ كيف لي ان اعرف وقد ارخيت له الزمام؟

كان يسابق الكلمات الضاجة المزدحمة في رأسي. سود صفحات كثيرة ثم توقف لاهثا يحاول ان يلتقط انفاسه كما خيل الي، فانتهزت هذه اللحظات لتقليب الاوراق وقراءتها بتأن.

ماذا؟ قلبت الورق مرارا. ليس هذا ما أردت كتابته. هذه ليست قصتي.

رميت القلم من يدي ونهضت سريعا. توقفت امام النافذة وأخذت نفسا عميقا.

رجعت الى مكتبي. أعدت قراءة الورق. أي شيطان جعلني أكتب كل هذا الهراء؟

 لا أدري ماذا جرى ولكني اكتب مالا يخطر على بالي، وكأن الكلمات تسابقني الى نهاية لم أخطط لها.

أمسكه بصعوبة هذه المرة لأنه بدا اصغر حجما من قدرتي على التحكم فيه بين  اصابعي، لكني استطعت أن اشطب جملة هنا اعدل كلمة هناك أو ارسم سهما الى هامش للمراجعة.

كورت الورق وألقيت به على  الأرض ثم جلست بهدوء على الكرسي.  تناولت قلما جديدا من العلبة ولكن كأن الأفكار هربت كلها من رأسي.

هو:

كان القلم الجديد يستكين بين أصابعها وهي تنقر به على مسند الكرسي او ترفعه الى شفتيها المنفرجتين. ثم فجأة لمحت قمة رأسي منزويا تحت الورق.

التقطتني وقربتني من الصفحة البيضاء. كانت هذه هي اللحظة التي انتظرها كل يوم.

بدأت اتلوى وأضغط على  الورق. وتنهمر الكلمات مثل شلال ماء . بعد عدة سطور وضعتني جانبا وتأملت الكلمات بأناة.

قبضت على رأسي وادخلته في المبراة، ادارتها بي وتساقطت قشوري. وحين امتطتني اصابعها ، عدوت وكأن شيئا لن يوقفني بعد وانطلقت أرسم انحناءات  الكلمات حتى اسودت الصفحة وقفزتُ الى صفحة اخرى. لم يسمع أحد لهاثي . كنت خائفا ان تطوحني بعيدا وانا اقترب من النهاية

توقفت أصابعها عن  الحركة ورفعتني الى فمها وهي تقرأ السطور. احسست بشفتيها تنفرجان عن  ابتسامة هادئة. انزلتني الى منتصف الورقة وخطت بي كلمة أخيرة.

 

السبت، 31 يوليو 2021

الموسيقى الحلال

كتب باء

بثينة الناصري

هل الموسيقى رجس من عمل الشيطان؟

ماذا يفعل المؤمنون بتحريم الموسيقى حين تقتحم آذانهم موسيقى بدون رغبتهم؟ وهم سائرون في الشارع؟ من نوافذ الجيران، من اعلانات التلفزيون الخ. هل يصمون آذانهم؟ هل يستغفرون بشكل مستمر حتى تنتهي محنة الموسيقى؟ هذا السؤال يراودني منذ أن التقيت بشاب يعمل ساعيا في إدارة حكومية . كان شعلة من النشاط يتحرك لتنفيذ طلبات الموظفين: انسخ الوثيقة هذه - هات الملف من الأرشيف - اطلب لنا الشاي من البوفيه - خذ هذه الورقة للتوقيع من المدير - ابحث لي عن جريدة اليوم الخ وهكذا يعمل في دأب على الاستجابة لكل الطلبات، إضافة الى اضطراره للرد على اي مواطن صادفه في الطرقة لسؤاله عن مكتب فلان او قسم تقديم الطلبات الخ . لاحظت أنه يضع سماعتين في أذنيه، من النوع التي يضعها الشباب للاستماع للموسيقى. سألته: هل تستمع للموسيقى؟ أجاب: كلا .. أنا لا أسمع سوى القرآن الكريم. فأشرت الى السماعتين فقال : نعم إني اشغل القرآن طول النهار. قلت له: وكيف تستطيع التركيز والانصات لكلام الله وانت مضطر بحكم عملك للاستماع لكلام الناس؟ أليس هناك آية تقول "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"

ومثله الموظفة التي رأيتها تضع المصحف أمامها على مكتبها، لتقرأ فيه وهي ترد بين حين وآخر على طلبات المواطنين !! طيب أنت موجودة الآن لخدمة المواطنين، أليس من الواجب و(العبادة) أن تتفرغي بكل حواسك وعقلك لانجاز أعمال المواطنين ؟ او ذلك الذي يجلس في ميكروباص مزدحم فيخرج مصحفه الصغير ويبدأ يقرأ فيه ، باعتبار ان ذلك يمنعه من ان يسمع (لغوا) او ربما موسيقى من راديو السيارة الخ .. أو ربما يمنعه من ان يقع بصره مضطرا على كعب قدم امرأة جالسة الى جواره.

لايمكن ان تكون الموسيقى حرام، لأسباب عديدة سوف نتطرق اليها ومن يقول بذلك يقع في تناقض كبير وحين لا يعرف الرد يحاول إفحامك واسكاتك بالقول :" يكفي ان الله والرسول حرماها". أين كان ذلك ؟ يأتون لك بتفاسير لتعبير (لهو الكلام) و(المعازف) وبعدها يخففون عنك بالقول أنه ليس كل الموسيقى محرمة وإنما فقط الألات الوترية وآلات النفخ والبيانو الخ ولكن الطبول والطبلة والدفوف حلال. وهناك من يقول لك أن موسيقى الكون (تغريد الطيور ونبض القلب وخرير المياه وصفير الرياح ووقع سنابك الخيل واصطفاق الشجر الخ ) كل هذه حلال سماعها ولكن الموسيقى التي يصنعها الإنسان حرام!!

مع أن الإنسان لم يصنع موسيقاه إلا تقليدا لموسيقى الله في كونه، فقد قلد الإنسان كل هذه الاصوات كما يدلنا تاريخ الموسيقى وكيف بدأت. وبالتأكيد ليس كل انسان يستطيع صناعة موسيقى، وإنما المبدعون فقط وهؤلاء يتلقون الوحي بأعظم الألحان من موسيقى الكون، أي موسيقى الله.

كل المبدعين في مختلف المجالات (الرسم - الكتابة - التصوير - التلحين - الغناء - صناعة التماثيل الخ) يقلدون الله في خلقه بوحي منه، لأن هذه الملكات لم توزع على كل البشر وإنما على البعض منهم، ولأن البشر يشمل في خلقه الجزء الحيواني الذي يشده الى الأرض والجزء الروحاني الذي يشده الى السماء، فيحاول تقليد ماخلقه الله ، ليس تشبها به أو شركا به، وإنما للسمو الروحاني. ولهذا حين يشدو الانسان بصوت جميل يوصف عادة بأنه (العندليب) (الكروان) (البلبل) وبكل اسماء الطيور المغردة ويعتبر هذا اجمل لقب ممكن ان يوصف به المغني من البشر، فما معنى هذا؟

حتى رقص الباليه مثلا يقلد في حركاته الطيور الرشيقة ذات الارجل الطويلة برفرفة اجنحتها وحركات جسمها المتناغمة. كل ما أبدعه الإنسان مستوحى من الكون . التصوير مثلا.. يلتقط تعاقب الوان السماء عند الشروق والغروب، اشكال الاشجار مع تعاقب الفصول، ثورة البحر وهدوءه، القمر والشمس والرياح والفيضانات والوجه الانساني ولغة اجساد البشر في اوضاعها المختلفة، ونادرا ماتجد لوحة مرسومة او فوتغرافية تصور جمادات صنعها الانسان إلا نادرا، ومبدع الروايات والقصص يخلق عوالم مشابهة او مختلفة عن عالمنا، ويخلق كائنات شبيهة بالبشر او مختلفة ، كل هذا تقليد لإبداع الخالق. العقل الانساني المحدود لا يأتي بشيء جديد إلا (يتشابه بالموجود أو يتناقض معه) وكما علمنا من علماء الرياضيات والهندسة أن الكون مخلوق على نفس أسس السلالم الموسيقية. ويعلمنا علماء الأحياء أن حنجرة الانسان بأوتارها تشابه في عملها آلالات الموسيقية الوترية.

كل هذه المعلومات موجودة وموثقة لمن يريد ان يستزيد.. فإذا كانت الموسيقى فطرة انسانية (وحيوانية ايضا) إذ تبين أن الموسيقى تؤثر على المخ فتضبط الكيمياء داخل الجسم فتريحه او تسعده او تحزنه او تهيجه الخ حتى الأبقار شاع قبل سنوات اكتشاف تأثرها بالموسيقى مما يجعلها تدر لبنا اكثر.

فإذا كانت الموسيقى فطرة فطرها الله تعالى، فمن اين التحريم ولماذا؟

(لماذا) هذه يكرهها المتشددون كره العمى، لأنهم سيضطرون الى فضح تهافتهم وتناقضهم وجهلهم. لايريدونك ان تسأل عن السبب، يخرسونك بقولة (هذا موجود في القرآن والسنة) .. والواقع أنه ليس هناك دين جاء بوحي من الله (إذا كنت تؤمن بذلك حقا) يمكن ان يعارض فطرة الله في الانسان والحيوان. والفطرة نعرفها من كل ما ذكرته آنفا، وأيضا بملاحظة بسيطة لأي طفل عمره لايتجاوز الاربع شهور: طفل لم يتعلم الكلام بعد، ولم يتعلم الحرام والحلال، ولم يسمع عن الشيطان بعد، ولم يتناول تفاحة ابليس لتتبدى له (عورته)، أو ليعلم معنى الخطيئة. هذا الطفل لم يتعلم السلم الموسيقي ولكن ما أن تبدأ امه تترنم له أو يسمع ايقاعا قريبا، او تصفيقا منغما حتى يبدأ في التقافز على حجر أمه على وقع مايسمعه من موسيقى. كلنا خبرنا ذلك مع اطفالنا واحفادنا.. هذه هي الفطرة الموسيقية لدى الانسان. الموسيقى تؤثر على المشاعر فتحرك الجسم .. ومن هنا نشأ الرقص عند الفرح، واللطم بالجسد عند الحزن (العراقيون يعرفون بالضبط كيف تحرك النساء اللاطمات اجسادهن وهن جلوس) والرقص الديني في الأذكار (تحريك الجسم تناغما مع الدفوف) وتحريك الجسم ايضا على قرع الطبل استعدادا للحرب. فالموسيقى والرقص والغناء فطرة نشأ عليها الانسان منذ قديم الأزل وفي كل أغراضه: الفرح والحزن والحرب والسلم الخ. وربما هذه سبقت اللغة لأن الموسيقى والقرع على الطبول والعزف على الات بدائية اخرى والنفخ في القصب والابواق المصنوعة من قرون الحيوانات ، كانت تؤدي أغراض اللغة في التواصل والتعبير عن المشاعر أو لايصال رسالة.

لماذا إذن الموسيقى حرام؟ هل تلهي عن ذكر الله؟ وهكذا فهي من الشيطان؟

هل تلهي الموسيقى عن ذكر الله ؟ يقول لك المتشددون أن قوله تعالى (وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ) معناها ان يصلوا ليل نهار وأن يقرأوا القرآن في كل مكان .. وهم في العمل، وهم في السيارة ، قبل النوم بعد الاستيقاظ ، حيث ان السمع والبصر واللسان لم يخلقوا إلا لسماع القرآن ورؤية حروفه وقراءته مع التسبيح والاستغفار في كل دقيقة من حياتك، وماعدا ذلك فهو لهو يلهيك به الشيطان عن هذه (العبادة) التي خلقت من أجلها.

لا أدري من فسر وشرح لهم ذلك . لأن (العبادة) هنا ليست التحول الى ببغاوات تردد الكلام وتؤدي (الطقوس) بدون فهم المعنى الحقيقي للعبادة. في أحد المواقع وجدت هذا في تفسير الآية ((العبادة) الطاعة، والتَّعبُّد التَّنسك. فمعنى «لِيَعْبُدُونِ» ليذِلّوا ويخضعوا ويعبدوا. { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } «مِنْ» صلة أي رزقاً بل أنا الرزّاق والمعطي. وقال ٱبن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها.) تمام .. يعني يحبسوا أنفسهم في بيوتهم دون أن يسعوا أو يعملوا أو يجتهدوا فإن الله سوف يبعث لهم الغذاء والدواء واللابتوب والثلاجة والتلفزيون وكل ما يحتاجه البيت.

لا أحتاج الى قراءة كتب او فتاوي أو سؤال شيوخ حتى أفهم معنى العبادة بفطرتي وبالعقل والمنطق والبديهة. العبادة هنا هي (الاقتداء بقيم وأخلاق وروح الدين) هي الاقتداء بالخالق (الذي تحبه وتعبده) بتعمير الأرض وخلق جنتك ونارك عليها. والآن قل لي كيف يستقيم ان تعتبر أن كل (عمل او علم ) يلهيك عن ذكر الله في كل لحظة وكل دقيقة ، هو من اباطيل الشيطان؟ كيف يستقيم ان أصطحب القرآن معي الى مقاعد الدراسة وبدلا من الانتباه الى المدرس اخرج القرآن لأقرأ به لئلا يلهيني المدرس عن ذكر الله. كيف يستقيم أن اكون مهندسا واحتاج تكريس ساعات طويلة حتى ارسم خارطة بناء وربما حتى تفوتني الصلاة ، مع متطلبات المتشددين أن لا ينطق فمي إلا بالتسبيح والاستغفار؟ كيف اكتب رواية تشغل كل تفكيري لأشهر عديدة ، ربما حتى انسى ان استغفر الله إذا كتبت كلمة خارجة تقتضيها الرواية؟ وبالمقابل كيف اندمج بقراءة الرواية كقارىء وانسى نفسي واهلي وكل شيء وانا اتابع بعيني احداثها المثيرة؟ (من حسن الحظ انهم لم يحرموا كتابة وقراءة الروايات وهي اكبر لهو حسب تعريفهم للهو) .

لو اتبعنا اسلوبهم في الحياة فوداعا لأي عمل ولأي علم (ماعدا علوم القرآن) ولأي متنفس يرتاح اليه المخ الذي خلقه الله بهذه الكيفية : مخ يتجاوب مع الموسيقى.

يقال لك أيضا أن الإسلام حرم الالات الوترية والنفخية والبيانو واشباهه وحلل الدف والطبل والطبلة. لماذا ياترى؟ هل ذكر القرآن ذلك بالنص؟ أليس (نفخ الصور) في يوم القيامة يعني استخدام آلة نفخ مثل البوق وعلى قول الرسول محمد (ص) في تفسيره لأتباعه أن (الصور) مثل (القرن) وقد ذكر القرن لأن منه كانت تصنع آلة البوق بشكلها البدائي. ولماذا خلقت الحنجرة التي تصدر اصواتا خشنة او ناعمة حسب شكل الاوتار، بالضبط مثل الآلات الوترية.

تاريخيا، كان الطبل هو أول اشكال الآلات الإيقاعية. كل قبائل ماقبل التاريخ كانت تستخدم الطبول بشكل أو بآخر، او بالأحرى (القرع على شيء ما) ربما قرع خشبتين او القرع بصخرتين او أي شيء تطوربعدها الى اختراع الطبلة . القرع والنقر مأخوذان من أصوات الطبيعة (حوافر الحيوانات الراكضة ، او المتهادية ، نقر بعض الطيورعلى جذوع الاشجار الخ) والواحد منا حتى لو لم يكن موسيقيا حين تعجبنا نغمة ما نجد انفسنا ننقر او نقرع بإيقاع على المنضدة التي نجلس اليها او على الركبة أو على ظهر اليد الخ .. اي شيء يصلح للنقر عليه. وبالتأكيد كانت هذه عادة اي انسان بدائي لا يعرف ماذا تعني موسيقى، ولكنها فطرة . الجسم (متمثلا باليد والاصابع) ينقر او يدق على اي شيء للتعبير عن غضبه ، فرحه، حزنه، تواصله الخ .

إذن النقر على الطبول هو فطرة انسانية تحرك المشاعر (البدائية والهمجية) وليست المشاعر الرومانسية الحالمة الرقيقة السامية التي تحركها الأوتار و(المعازف الأخرى) .

أريد أن يجيبني أي شخص يقرأ هذا: ما الذي يدفعك الى القيام من مقعدك وربما الالتحام بدبكة او القفز والرقص وانت جالس في حفلة زواج مثلا أو غيرها: ايقاع الطبلة أو صوت الكمان؟

ايها يحرك مشاعرك ويدفعك لتحريك جسدك بنشاط مفاجيء؟

ايقاع الطبول طبعا ولهذا كانت تستخدم في الحث على الحروب.

أيها يستدعي في وجدانك (الشهوة والغريزة) ضرب البيانو أم ايقاع طبلة ودفوف؟ والشهوة هنا يحركها حافز آخر مرتبط بالطبل مثل ارتباط صوت الجرس بالشعور بالجوع لدى كلب بافلوف في التجربة الشهيرة. قيل أنه من الأحاديث النبوية (ولعله ضعيف) أن الآلة الحلال هي الدف والطبلة ولاينبغي استخدامهما سوى في الأعراس .

إذن في ذهن المسلم المؤمن الذي يحلل ويحرم ، ترتبط الطبلة بـ(ليلة الزفاف) فكلما سمع صوت طبلة تذكر تلك الليلة وما تحركه من غرائز. إذن من باب أولى أن تكون الطبلة هي (مزمار الشيطان) في تحريك شهواتك ورغباتك المكبوتة وليس اصوات الناي الحزين او البيانو الرصين أو الكمان الرقيق الحالم .

يقول لك البعض أن تلك الالات (ماعدا الطبلة ) حرمت لأنها تبعث على الحزن. هذا تفسير جديد، لأن في الأحاديث النبوية يُذكر أن قراءات القرآن ينبغي ان تكون حزينة وتبعث على الحزن!!!

وبمناسبة ذكر قراءة القرآن، فإن التجويد يقوم على 7 مقامات موسيقية هي نفسها اساس المقام العراقي واغاني الطرب.

في رأيي أن مسألة تحريم (المعازف) ومزامير الشيطان الخ ترتبط ارتباطا تاريخيا بمسألة القيان والجواري خاصة الأجنبيات من خارج الجزيرة العربية ، لأن الالات الوترية والنفخية ربما كانت تأتي من حضارات اخرى، وبما ان مجالس القيان كان يشوبها فسق وفجور وتحلل، فقد كان ذلك التحريم (إذا كان المقصود به هذا) يتعلق بالبيئة المصاحبة للموسيقى والغناء، وهما فنان مثل بقية الإبداعات يمكن ان تخرج منها بما يضر البشر أو بما يفيده. وعلى ذكر الغناء، أذكّر فقط بأن النبي محمد (ص) كان يتخير لتأدية الأذان أحسن الناس صوتا، وكذلك لقراءة القرآن لأنه يعرف تأثير الصوت الحسن على الأسماع، أما الاجيال الحاضرة التي ترى أن الموسيقى حرام والغناء حرام والصوت عورة، فنحن نرى خطل رأيها في اختيار اسوأ الأصوات للأذان ، وسوء التنسيق حين يتداخل عشر اصوات من مآذن متقاربة بأصوات ذكرت في القرآن لقبحها، تتداخل فيما بينهما بنشاز غريب لاتنفع معه طبلة ولا بيانو.

والله جميل يحب الجمال.

 

 


الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما