‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قصيرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قصيرة. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 3 أبريل 2024

كتب باء

تحويل الكلمة الى صورة . هذا هو  مشروعي الحاضر والمستقبلي. احول قصصي القصيرة الى افلام روائية قصيرة.

الأحد، 17 أكتوبر 2021

تقرير يومي

قصة قصيرة 

 بثينة الناصري 

لمدة ثلاثة شهور، قبل تقاعدي، كُلِفت بمهمة مراقبة مشاغب سياسي، وكتابة تقارير يومية عن حركاته، وسكناته، وهي من المهام التي طالما قمت بها، طوال حياتي الوظيفية، خير قيام ولم يكن في الأفق ما يوحي، ولا كان يخطرعلى البال بأن هذا التكليف الأخير سيكون مختلفا عما سبقه.

تقرير أول

(إنه في الساعة الثامنة، من صباح يوم السبت 8/11/1995 إستلمت واجبي لمراقبة منزل المدعو حميد عبد الحق، الكائن في 4 شارع النصر. وقد نزل المذكور في الساعة التاسعة والنصف، وتمشى مسافة 200 متر باتجاه الشارع الرئيسي، ثم استقل سيارة اجرة. تبعته بأخرى، حتى توقف امام مبنى صحيفة (الحضارة)، وهبط وهبطت وراءه، وانتظرته خمس ساعات بالتمام، خرج بعدها مع إثنين من الشباب. أحدهما يضع نظارة طبية، والآخر له شارب كث. وقف الثلاثة يتحدثون حديثا لم أستطع الإقتراب، لأسمعه ثم ابتعد الشابان، ومشى المذكور باتجاه السوق، حيث توقف عند بائع فاكهة، واشترى تفاحا ثم أشار إلى سيارة اجرة، واستقلها وكنت وراءه حتى وصلنا البيت.

في تمام الساعة الخامسة مساء، جاء الشاب الذي يضع نظارات طبية، وتم ذكره آنفا، وهو يحمل حقيبة أوراق، ودخل المنزل، وخرج منه بعد 45 دقيقة. ولم يحدث شيء، حتى الساعة العاشرة مساء، حيث خرج المذكور، وهو يرتدي ملابس رياضية، وأخذ يمشي بسرعة، وأنا وراءه، حتى وصل الشارع الخلفي، فأخذ يعدوعدوا خفيفا، وأنا وراءه، من أول الشارع إلى آخره، ثم اجتاز عدة شوارع جانبية، حتى رجع إلى شارع النصر، ودخل المنزل، ولم يخرج منه بعد ذلك.)

كان صوت لهاثه يلفح اذني، وهو يجري أمامي، وأنا امشي بخطوة خفيفة سريعة، أكاد أكتم أنفاسي المتلاحقة، خشية أن يكتشف وجودي، حتى إذا ابتعد مسافة طويلة، وكاد يغيب عن نظري، في عطفة شارع جانبي، حثثت السير، وهرولت قليلا،على اطراف اصابعي، لئلا يحدث حذائي الحكومي، جلبة في هدأة الليل. وسرنا على هذا المنوال، خمسة أيام قبل أن تطرأ على ذهني فكرة. ضبطت الوقت الذي تستغرقه هرولة الساعة العاشرة اليومية فإذا هو 30 دقيقة. في الليلة التالية حينما غادر المنزل مساء، مرتديا ملابسه الرياضية، لبدتُ في مكاني الخفي، وعيني على ساعتي، وكما توقعت، ما أن مرت الدقيقة الثلاثون، حتى رأيته عائدا، متقطع الانفاس، فابتسمت وأنا اشكر الرجل في سري، على إلتزامه التام بروتينه اليومي. وفي تقارير الايام التالية، كنت أذكر خط مشوار الرجل الليلي، وكأني أتبعه أقرب اليه من ظله، حتى جاء يوم مَرّ فيه الوقت المحدد، دون أن يعود.

رفعت رأسي منتبها، وتلفت حولي مذعورا ونقرت ساعتي عدة مرات، لئلا تكون اختلت، ولكن مرت ساعة، ثم اقتربنا من منتصف الليل، وإذا به راجع، بطيء الخطو، هاديء النفس، يحمل رزمة، لم أتبينها، تحت إبطه. وَجمت في مكاني، حتى إني لم أتحسب لاحتمال أن يراني. أين كان خلال هاتين الساعتين؟ و ما الذي أتى به يحمله؟ كيف لي أن أعرف؟ وماذا سأكتب في تقرير ذلك اليوم؟

أخيرا لم أجد بدا من إغفال هذه السقطة، في التقرير، ولكني من يومها ماعدتُ أدعه يغيب عن ناظري لحظة واحدة.

كان المدعو حميد عبد الحق، طويل القامة، نحيف البنية، خفيف شعر مقدم الرأس، وفي عينيه الضيقتين، يلوح مكر ودهاء، ويغطي فمه الباسم دوما، شارب انيق، يختلط السواد فيه بالبياض.

تقرير

(إنه في الساعة التاسعة، من صباح يوم الجمعة 22/12/1995 وبعد استلامي واجبي بساعة، أطل موضوع المراقبة من نافذة علوية، ونادى فتحي البواب الذي انطلق داخل المبنى بسرعة، وبعد قليل، خرج وهو يقبض على بعض العملات النقدية ومشى باتجاه السوق. وعندما عاد قطعت الطريق عليه، وسألته سؤالا عابرا، وأنا أتفحص مايحمله. كيس يضم خمس بيضات، وكيس آخر، ملوث بآثار دهن طعام، وكان يتأبط جريدة لم أتبين إسمها ثم تركني، ودخل مسرعا.  قبل صلاة الجمعة وحين كان بعض شباب الحي يلعبون كرة القدم، في الشارع تحت المنزل رقم 4، كما هي عادتهم كل يوم جمعة، نزل المدعو حميد عبد الحق بملابسه الرياضية، وعندما سلم بصوت جهوري على الشباب، إلتفوا حوله، كان يطبطب على أكتافهم وهو يحدثهم حديثا طويلا دون أن أستطيع الإقتراب والإستماع. ثم فجأة إنقسم الشباب فريقين. إنضم المذكور إلى أحدهما، ولعب بخفة ومهارة، حتى أنه سجل خمسة أهداف قوية، وكان الشباب من كلا الفريقين، يهللون مع كل هدف، ويصفقون)

أخذتني قدماي إلى حيث يتحلق المتفرجون حول الملعب .. وجدتني أصفق بحماسة، لكل هدف يسجله حميد عبد الحق .. بل إني كنت أتلفت، وأنظر في العيون، وكأني أشهد الناس على ما يربطني به من صلة وثيقة .. وقد كان حقا يستحق الإعجاب بمهارته، وحيويته التي فاقت شبابا أصغر منه سنا. وكدتُ مرة أو مرتين، أبوح لجيراني المتفرجين بسرّ لياقته التي طالما أنهكتني الهرولة وراءه، كل مساء. بعد الهدف الأخير، رفع حميد ذراعيه وأعلن إعتزاله اللعب، وغادر راكضا نحو البيت.

لم أكن في عجلة من أمري . كنت أعرف إنه لا يخرج صباح الجمعة للصلاة أو أي مكان آخر وأني قد أنتظر، حتى هبوط الليل، قبل أن يطرأ جديد.

كان قد مر أكثر من شهر على مراقبتي إياه، حتى صرت أعرف كل تفاصيل حياته .. أصحابه ومريدوه ، طعامه وشرابه ..أعرف مثلا أنه يعيش وحيدا بلا أسرة، لكنه يعيش حياة إجتماعية حافلة .. يزور ويزار. أصدقاؤه من كل الاعمار .. غالبا ما يضع كفه على كتف الشاب منهم وهو يحدثه حديثا وديا. كان يقف على باب البيت دقائق طوالا، وهو يتحدث أو يستمع لرفيقه قبل أن يحييه، ويدلف إلى البيت. كان يتصرف، وكأنه يمتلك كل الوقت. فلم أره متعجلا سوى ساعة ذهابه إلى المكتب صباحا.

في أحيان كثيرة، كنت أسائل نفسي، إذا كان قد أحس بوجودي. ولكن إن كان قد فعل، فلم يبد عليه ذلك، ولم يغير شيئا من عاداته. وقد كان هذا يعذبني بشكل ما. كنت أتمنى لو إنه يراني ويعمل على مراوغتي .. هكذا يكون إعترافا منه بوجودي. ولكن أن يتصرف وكأني كائن غير مرئي، لايُحسب له حساب؟ لقد كان ذلك شيء أكثر مما يُحتمل. لقد راودتني نفسي أن أرتكب عمدا غلطة ما، لأعلن عن وجودي، وأحيانا أخرى، كنت أبكّت النفس لتهافتي، وأعجب كيف – بعد كل سنوات العمل الطويلة - تكون مشاعري بهذه الرخاوة! هل هو أثر التقدم في العمر؟ أم بسبب حقيقة أن هذه المهمة، هي الأخيرة قبل إحالتي على التقاعد؟ لا أدري ماذا حدث وكيف حدث.

لكن يُرضي ضميري أن تقاريري، كانت شاملة، وافية، لا تشوبها شائبة، أو نقصان، وإنْ وجدتُ أنه كلما ازدادت تقاريري اليومية تفصيلا، زاد تعلقي بالرجل – وكنت أرى في هذا غرابة لا تفسير لها، لاسيما وإنني حين استلمت المهمة، كنت قد حُذرت بحزم أن موضوع المراقبة شديد المكر والحيطة.

تقرير

(إنه في يوم 31/12/1995 الذي مر عاديا طوال الصباح، ولكن بعد صلاة العصر، كانت هناك حركة غير طبيعية في البيت رقم 4 شارع النصر. راح البواب وجاء اكثر من مرة محملا بالاطعمة والفاكهة – وقبل المغرب بقليل، هبط حميد عبد الحق، حاملا حقيبة جلدية، ومشى ناحية شارع جانبي، وتوقف عند احد البيوت المعروفة ببيع الخمور، بعيدا عن انظار الحكومة. دخل البيت، وخرج بعد قليل، مثقلا بقناني الخمر، كما يبدو واضحا من إنبعاج وإنتفاخ جلد الحقيبة، في اكثر من موضع.

في حوالي الساعة العاشرة مساء، تقاطرعلى البيت الكثير من الاشخاص .. وجوه كنت أعرف بعضها، وجاء بعضهم، برفقة نساء يرتدين ملابس سهرة)

تذكرت فجأة، أنه في هذه الليلة، يحتفل الناس بنهاية عام، وطلّة عام جديد. كان البرد شديدا. إلتففت بمعطفي الخفيف، ونفخت أنفاسا حارة في باطن كفي .. وأخذت أروح وأجيء لأبعث الدفء في أوصالي. إقتربت من النار التي أوقدها الحارس الليلي. حييته ووقفت أتدفأ. رد تحيتي باقتضاب ولم يسألني شيئا. كان قد تقبل وجودي، طوال الليالي الماضية، ويخيل إلي أنه كان يحدس مهمتي، واذ لم يجرؤ على سؤالي، فلابد أنه أدرك جهة عملي فآثر السلامة. تبادلنا حديثا قصيرا حول برودة الطقس، والمشاكل المتوقعة التي يمكن ان يثيرها السهارى، والسكارى هذه الليلة. حانت مني إلتفاتة إلى النافذة العلوية للبيت، فرأيت ظلال أشخاص تتحرك، عبر الضياء المنبعث من الثريا الكبيرة التي كنت أستطيع رؤيتها من مكاني. ولا أدري كيف راحت افكاري، لبيتي القابع في ذلك الحي الفقير. بيتنا الذي لا ينيره غير فانوس نفطي .. تراءت لي إمرأتي تغط في نومها بين أجساد أولادنا الخمسة، غائبة عما يحدث من سنة تمضي، وسنة تجيء. فالسنوات في بيتنا واحدة، بل حتى نهارنا يشبه ليلنا، لأن نور الله الذي يشع كل صباح على الخلق، لا يدخل البيت الغارق أبدا بالظلمة.

قطعت أفكاري انفجار ضحكات نسائية. رفعت رأسي إلى النافذة المضاءة، وابتسمت. كنت أحس بشكل غامض، أني جزء من هذا العالم الذي أضعه صوب أنظاري، ليلا ونهارا .. هذا العالم الذي صرت أعرف كل تفاصيله، كما أعرف مسام جلدي. فركتُ كفي في لهب نار الحارس الليلي، ثم حييته، وأنا أغادره إلى مكاني المعهود. كنت أريد أن أختلي بنفسي، وأنا أحدق، بكل جوارحي، في النافذة العليا. هل أرى حقيقة أم أنه خداع نظر؟ خيل إلي أني أرى ظلالا تتمايل على صوت الموسيقى الصادحة عبر الزجاج والجدران.

وفيما كانت عيناي تتسلقان النافذة في محاولة لاستجلاء مايحدث، إنطفأ النور، وساد ظلام عدة ثوان، ثم زعق الضوء مع هتافات، وتهليل، حتى غطى على صوت الموسيقى. تفحصت ساعتي. كانت الثانية عشرة. شعرت بالبهجة تغمرني. إذن هكذا ماتت السنة القديمة راحت بشرها وخيرها في طيّ الظلام، ومع انبلاج النور، ولدت سنة جديدة .. سنة خير إن شاء الله . كانت هذه هي المرة الاولى التي أكون فيها جزءا من هذا الحدث. وجدت نفسي أضحك ساخرا، وأنا أتذكر أم الأولاد التي تغفو الآن، غافلة عن الدنيا، ومايجري فيها.

ثم طرأ على ذهني أنه لا شيء تغير حقا فيها. أنا مازلت في موقعي تحت البيت رقم 4 .. كتبت عنه صحائف من التقارير في السنة التي ماتت، وسأكتب من الغد، مع بداية السنة الوليدة، تقارير اخرى. فما الذي تغير بالنسبة لي، أو بالنسبة لحميد عبد الحق؟ فإني موجود في لوح قدره، عبر سنة فاتت، وسنة قادمة .. ما أشد السخرية: أن يضحك الرجل، ويمرح هذه الليلة دون أن يعرف أن هناك رقيبا يحصي عليه أنفاسه! تراءى لي وجهه الباسم دوما، رغم عينيه الماكرتين .. شعرت بفيض من الألفة نحوه، وشيء من الأسى، وسمعت نفسي اتمتم:

"كل سنة وانت طيب. ياحميد يابن عبد الحق "

ولكن الأيام التي تلت كانت تحمل أكثر من جديد، فما أن مر اسبوعان، حتى بُلغت بانتهاء مهمتي. لم  أدر لحظتها، هل كان ذلك يعني رفع المراقبة؟ أم أن شخصا آخر قد حل محلي؟ لم يكن لي أن أسأل أكثر مما ينبغي. ولم توكل إلي مهمة اخرى، بل كان علي أن اقضي الأيام الباقية حتى تسوية راتبي التقاعدي بين جدران المديرية. في أول يوم بعيدا عن حميد عبد الحق، شعرتُ بافتقاد روتينه الذي صار نهج حياتي، لمدة ثلاثة شهور.

وقد قضيت ذلك اليوم، وأنا أكتب في خيالي تقارير وهمية .. الآن خرج إلى المكتب .. الآن عاد. هل إشترى اليوم تفاحا؟ لابد إنه يتهيأ الآن لرياضته اليومية. وأرى ابتسامته الهادئة، وهو يضع يده على كتف محدثه. وكان إحساسي بالضياع في الأيام التالية أشد حدة على غير المتوقع، فبدلا من الإنغماس مع جلبة العمل، داخل المديرية .. كان توقي إلى ذلك الروتين الذي غادرته مرغما يزداد شراسة.

وفي البيت سألتني إمرأتي:

- مالي أراك قلقا؟

- لاشيء. لكني غير معتاد على قضاء كل هذا الوقت في البيت.

- وماذا ستفعل إذن، لما تحال على التقاعد؟

تساءلتْ بنبرة ساخرة.

ولم يطل الوقت، حتى ألفيتني استيقظ ذات يوم، مع إدراك أن وقتا طويلا صار ملكي. بدأت أخرج إلى المقهى المجاور. كنت أجلس وأطلب شايا، وبعد قليل أشرع بالقلق وآخذ في استطلاع ساعتي، بين حين وآخر. لقد أزف موعد وصوله. وأظل أتململ على الكرسي، وأستعيذ بالله حتى أرغم نفسي على مغادرة المقهى إلى البيت.

ولكني في أحد الايام لم أطق صبرا. فعزمت أمرا. خرجت قبل الظهر بقليل، وعيني على الساعة. كان قد مضى أكثر من شهر على إنقطاعي عن ذلك البيت في شارع النصر، وكان علي أن ألحق ساعة رجوعه.

هبطت الشارع أخيرا، وكأني أعود إلى أهلي وناسي. تفرست في الوجوه التي أعرفها والتي مازالت كما عهدتها، وكأن شيئا لم يتغير. نظرت إلى الساعة. لم يبق إلا دقائق على وصوله، إذا كان مايزل ملتزما بنهجه. لم اشأ أن أتخفى في مكاني القديم. تمشيت على مهلي، ثم أعدت النظر إلى الساعة، ورفعت رأسي، فإذا بعيني تصطدمان بعينيه. كانت أول مرة تلتقي عيوننا. توقف كلانا ودون أن أدرك وجدتني أمد له يدي كما لو كان صديقا قديما :

- السلام عليكم. كيف الحال؟

صافحني باقتضاب، وهو يرد:

- وعليكم السلام.. وكيف حالك ياعم صالح؟

كانت المفاجأة حقيقية:

- الله؟ تعرفني وتعرف اسمي؟     

شملني بعينيه الماكرتين، وهو يقول:

- صالح عبد الصمد.. متزوج وعندك خمسة أولاد وأُحلت على التقاعد من إسبوع.

هتفت بدهشة:

- ولكن تعرف كل شيء عني؟

ضحك، وقال، وهو يضع يده على كتفي:

- لقد افتقدناك يارجل.. كيف الحال؟

**

نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) الصادرة في القاهرة وبغداد 1998


الثلاثاء، 21 سبتمبر 2021

بطة عند البحر

 

 

تقافز الأطفال الثلاثة على الرمال، حتى وصلوا البحر، حيث غمست ليلى أصابع قدمها فى الماء، ودخلت متوجسة .. تبعها محمود بعد أن غرف قليلا من الماء، وطرح به على ظهرها، فصرخت كالملسوعة .. أما أحمد، أصغرهم، فقد ظل يتهادى على الرمل، مترددا، تسير خلفه أمه، وهى تخلع ملابسه، قطعة، قطعة، وترميها فى يد فاطمة، وبعد أن دفعت أحمد برفق إلى البحر، إلتفتت إلى فاطمة قائلة:

- إسحبى مقعدا وإجلسى هنا. وإياكِ إياكِ أن تغفل عيناكِ عنهم.

 غرقت فاطمة بأعوامها العشرة داخل الكرسى، فى مواجهة البحر، وسوّت فستانها الاصفر، الواسع، حولها، وحدقت دون أن تطرف عيناها فى الأطفال الثلاثة، وهم يلعبون فى الماء.

سوّت مرة أخرى الفستان، وفرشته على الكرسى .. كان فى الأصل ثوبا قديما لسيدتها التى جلست إلى ماكنة الخياطة ذات مساء .. قصّرت الكُمّين، وضيقت الصدر، وأخذت من الذيل قطعة طويلة، جعلت منها حزاما يلف الخصر .. ولما إنتهت، طلبت من فاطمة أن تجربه، فطارت هذه  به من الفرح، وتمايلت داخله أمام المرآة الكبيرة فى غرفة الهانم، ثم خلعته بسرعة، خشية أن يتسخ وقد عقدت العزم على ألا تلبسه إلا فى المصيف، بعد أن وجدت الهانم تشترى ملابس جديدة للأولاد من أجل هذه الرحلة وكأنهم ذاهبون إلى العيد.

وفى يوم السفر، تقدمت من سيدتها، مترددة وقالت باستحياء، وهى تمسك بطوق شعر، كانت ليلى قد أهملت ارتداءه منذ مدة طويلة:

- هل ألبس هذا بدل المنديل فى المصيف؟

نظرت إليها السيدة، بدهشة وكأنها تراها لأول مرة، ثم بدا على ملامحها التفكير وقالت: 

- طيب .. ولكن عند البحر فقط .

 فأسرعت فاطمة، وقد استخفها الفرح، وفتحت صرة ملابسها، واضعة الطوق وسط الفستان الأصفر إلى جانب العقد الزجاجى الذى كانت أمها قد اشترته لها من الحسين . ولم تكن فاطمة بحاجة الى تجربة الطوق على شعرها، فطالما ارتدته خفية عندما ينام الجميع وتطفأ الأنوار .. كانت تستله من تحت المخدة، وتحكم وضعه حول رأسها، وتستغرق فى أحلام يقظتها حتى يغلبها النعاس.

والآن هاهو حلمها يتحقق .. فهى تجلس قبالة البحر، متزينة بأجمل مالديها: الفستان والطوق والعقد، وليس عليها سوى أن تحرس الأولاد وهم يلعبون فى البحر.

فى أول جمعة بعد المصيف، ستذهب إلى قريتها، كما وعدتها الهانم .. وسوف تتحلق صويحباتها حولها، يسألنها بإلحاف:

- هل رأيت البحر الحقيقى يابطة**؟

- ماذا رأيت عند البحر؟ إحكي لنا يابطة؟

- رأيت النسوان عرايا .. والصغار يبنون بالرمال، والرجال يلعبون فى البحر. رأيت مراكب كبيرة، بيضاً وسوداً، وعليها أعلام أشكالا وألواناً .. تعبر من بعيد.

- وهل نزلت فى البحر يابطة؟

- كل يوم ..

كيف يمكن أن تقول لهن، إنها ما كانت تفعل، سوى الجلوس على الكرسى، قرب الماء تضع فى حِجرها، المنشفة وكيس الشطائر، وترقب بعينين لا تطرفان، تحركات الأولاد فى البحر .. وكان بين الحين والآخر، يقترب أحدهم يرتعش، وهو يقطر ماء، فتضع المنشفة على كتفه، وتقدم له شطيرة يقضمها بنهم .. وكان يحلو لليلى، كلما خرجت من البحر، أن تهرول إليها، وهى تقول "البحر لذيذ .. يافاطمة .. تعالي .. إنزلي معنا" وكانت فاطمة تجيب فورا "لا .. الفستان يتبلل" فقد كانت تأنف أن تقول للبنت التى تصغرها بعام واحد فقط، أن عليها أن تظل مربوطة بالكرسى، مثل كلب الحراسة.

إلتفتت إلى الخلف، فرأت الهانم مشغولة بالحديث مع جارتها، وهى تريها شغل الإبرة الذى تنهمك فيه ليلا ونهارا. ثم تطلعت إلى البحر .. كان الموج الناعم، يتهادى من بعيد، ليتكسر بتراخ على الشاطئ .. وكلما أطالت النظر، أحست أن البحر يناديها، فهذا هو اليوم الأخير للمصيف، وحرام ألا تفعل، كما يفعل الأولاد، ولو مرة واحدة.

حانت منها إلتفاتة أخرى إلى سيدتها، فوجدتها قد انشغلت، مرة ثانية، بالتطريز ونظارتها تكاد تسقط على أنفها.

نهضت فاطمة وتقدمت مترددة من البحر .. رفعت ثوبها قليلا وخاضت بساقيها فى الماء القريب من أحمد الذي كان يجلس وسط الماء يملأ علبة عصير فارغة ثم يفرغها. 

- ماذا تفعل يا أحمد؟

- أبيع العصير ... إلعبى معى.

وقفت حائرة .. تلفتت حواليها، ثم تمايلت، وهى تنهدّ على الماء بكل ثقلها .. آه  .. صرخت، وبرودة الماء تلسع فخذيها وتنقع سروالها الداخلى وبطنها .. إنتفخ فستانها مثل خيمة فوق الموج، ثم أثقله البلل، فهبط عائما.

نظرت إلى سيدتها وقالت بصوت عال علّها تسمعه:

- دفعنى أحمد .. أحمد دفعنى فى الماء ...

ولما لم ترد السيدة .. مدت فاطمة ساقيها، وتمرغت فى البحر، محركة ذراعيها وكأنها تسبح. ثم زحفت على بطنها، حتى وصلت الى حيث ليلى ومحمود، فقالت وهى تمط كلماتها: البحر .. جميييل  .

 صاحت ليلى:

- فاطمة .. ولكن فستانك! اقول لك .. إخلعيه لينشف.

- كانت امى تذبحنى

- فاطمة .. يافاطمة .. انطلق صوت السيدة غاضبا "أين أنت يافاطمة؟".

 إنتفضت فاطمة، وزحفت حتى الشاطيء، وركضت نحو الهانم، وثوبها ملتصق بجسدها يقطر منه الماء ..

- ماذا فعلت يامجنونة؟ ألم أحذرك من ترك مكانك؟ والآن أنظرى ماذا فعلت بنفسك؟ ياربى ... ستصابين بالحمى ولاشك ..إعصرى الفستان. ماذا جرى لك؟ كنت عاقلة طوال المصيف.

كانت فاطمة تستمع للتقريع، وهى منكسة الرأس، تدارى اضطرابها، بعصر ذيل ثوبها، كما أمرتها سيدتها، فينزل الماء، جداول على الأرض، حتى تكونت بركة صغيرة حول قدميها.

- إذهبى الآن .. لمّي الأولاد من البحر، لنلتقط آخر صورة في الكاميرا، قبل غروب الشمس.

تنفست فاطمة الصعداء، وهي تجري نحو البحر، يعوقها ثوبها الذى ينحشر بين فخديها.

-  ياليلى .. يامحمود .. ياأحمد!

واندفعت إلى داخل البحر للمرة الاخيرة، متعللة بأنهم لا يسمعون صوتها .. ياليلى .. يامحمود .. ياأحمد.

وأحست برطوبة عذبة والماء يداعب بطنها .. حركت ذراعيها حولها ولما اقتربت من ليلى رشتها برذاذ من الماء، كما رأتها تفعل من قبل مع اخويها "تعالى ياليلى ... لنأخذ صورة. أخرج يامحمود .. هيا ياأحمد".

وقف الأولاد فى كادر الصورة، وخلفهم البحر. ليلى تضع يدها على كتف محمود الذى يجمد عند حركة كاراتية .. أحمد يجلس على الأرض لاويا عنقه ينظر للكاميرا بنصف عين، فى حين تقف خلفه فاطمة، وقد ذهب رونق فستانها المتهدل بالماء يخرّ منه إلى الأرض، ويتجمع بركة تغوص فيها قدماها. كان شعرها المبلول يلتصق بصدغيها، وعنقها، وقد انزلق الطوق على جبينها، وعلقت حبات من الطين فى العقد الزجاجى .. كانت أشبه بكلب منقوع لما ينفض نفسه بعد، ولكنها كانت الوحيدة فى الصورة التى يضئ وجهها بابتسامة عريضة تشرخ فمها حتى أذنيها.

**

 ----------------

* القصة نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) عام 1998 وايضا في الجزء الثاني من أعمالي القصصية الكاملة (كتاب المغامرات)  

** "بطة" إسم دلع يطلق في بعض مناطق مصر على من تسمى "فاطمة" 

الصورة بكاميرتي لأطفال على البحر ولا تمت للقصة بصلة.

 ترجمتها الى الإنجليزية داليا كوهين مور ونشرتها مع قصص لكاتبات عربيات في كتاب صدر عن دار نشر جامعة نيويورك في 2005. رابط القصة المترجمة  كتب باء بثينة الناصري: At the Beach (books-ba.blogspot.co

الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

(هو)

 قصة قصيرة
بثينة الناصري

جلست تراودني بنظراتها وأنا ممدد على سطح أبيض ناعم. لمستني بإصبعها وكأنها تتأكد من صلابتي ثم وضعت كفها تحت ذقنها ارتكزت على سطح المكتب وهي تتأملني.

أخيرا نهضت وغابت قليلا ورجعت. أمسكت جذعي وبيدها الأخرى دفعت رأسي داخل نفق صلب حاد الحواف فإذا بي ألف حول نفسي . لم يتسن الوقت لأتملص أو   أصرخ . وجدت جلدي يتساقط قشورا كاشفا عري رأسي الأسود اللامع المسنن، ثم وجدتني آلامس السطح الأبيض الناعم بقوة لا إرادية . كان احساسا لا يوصف . لحظة التلامس الأولى . تحركت صاعدا هابطا ومرتعشا اتعثر احيانا في تعرجات حتى ارتخت  اصابعها فوجدتني اخمد متهالكا وانا انظر الى ما سكبت عليه ذاتي. كانت على البياض اشكال سوداء متناثرة بانتظام.

تساءلت بصوت عال، قلق : بداية جيدة؟

نهضتْ وغابتْ لحظات ورجعتْ بإبريق شاي سكبت منه في قدحها ورشفت منه متمهلة ثم ازاحتني جانبا وامسكت الأبيض الناعم ، دعكته بيدها حتى سمعت صوت تمزقه ورمته في سلة على الارض.

على مدى اليومين التاليين مشيت كثيرا على السطح الناعم الابيض ايضا توقفت بين حين وآخر وارتميت خائر القوى . تقلبت بين اصابع حانية مرة ومرة قوية وغاضبة اجدني بين شفتيها او  تنقر بمؤخرتي سطح المكتب، او ترمي بي ايضا من عليائها. وبين مسيرة عمل واخرى ، تدخل رأسي في ذلك النفق ذي الحواف الحادية الذي يبعثر جلدي. لم تكن العملية مؤلمة كثيرا وكنت احس انها من ضمن مسار تأهلي لما خلقت من أجله. لكن بمرور الأيام وقعت على اكتشاف مروع.

حدث ذلك حين وجدت نفسي ذات يوم ارمى داخل علبة فيها آخرون مثلي ويسدل الغطاء علينا.

كانوا جميعا يشبهونني قبل أن ابدأ مسيرتي بين اصابع هذه المرأة، مكتملي القامة، وهكذا اكتشفت ان جسمي يتضاءل ويصغر، لا يكاد يصل الى منتصف هيكل الواحد منهم.

حينها بدأ الهلع يغمرني كلما احاطتني اصابعها صعودا ونزولا تدور معي من اليمين الى اليسار.

صرت افزع كلما توقفت بعد كل حين لتقشرني بالثقب الذي تحشر فيه رأسي.

أدركت اني اتضاءل كلما قطت قشوري. كان جل خوفي ان انتهي قبل ان تكتمل مهمتي في تسويد كل هذا البياض.

تفلتني من اصابعها. اتدحرج قليلا ثم استقر. انظر الى وجهها ، تبادلني النظرات ثم تحركني بسبابتها . تمسكني تنقر بي على ذراع المقعد.

هي:

اتركه يقودني بعذوبة انسيابه على الجسد المتمدد مستسلما. منذ دفقات البداية الأولى ، صار رفيقي الذي اشتاق الى عنفوانه كلما غاب عني برهة اتمنى ان يصمد حتى انتهي من هذه الحكاية القصيرة ؟ الطويلة ؟ كيف لي ان اعرف وقد ارخيت له الزمام؟

كان يسابق الكلمات الضاجة المزدحمة في رأسي. سود صفحات كثيرة ثم توقف لاهثا يحاول ان يلتقط انفاسه كما خيل الي، فانتهزت هذه اللحظات لتقليب الاوراق وقراءتها بتأن.

ماذا؟ قلبت الورق مرارا. ليس هذا ما أردت كتابته. هذه ليست قصتي.

رميت القلم من يدي ونهضت سريعا. توقفت امام النافذة وأخذت نفسا عميقا.

رجعت الى مكتبي. أعدت قراءة الورق. أي شيطان جعلني أكتب كل هذا الهراء؟

 لا أدري ماذا جرى ولكني اكتب مالا يخطر على بالي، وكأن الكلمات تسابقني الى نهاية لم أخطط لها.

أمسكه بصعوبة هذه المرة لأنه بدا اصغر حجما من قدرتي على التحكم فيه بين  اصابعي، لكني استطعت أن اشطب جملة هنا اعدل كلمة هناك أو ارسم سهما الى هامش للمراجعة.

كورت الورق وألقيت به على  الأرض ثم جلست بهدوء على الكرسي.  تناولت قلما جديدا من العلبة ولكن كأن الأفكار هربت كلها من رأسي.

هو:

كان القلم الجديد يستكين بين أصابعها وهي تنقر به على مسند الكرسي او ترفعه الى شفتيها المنفرجتين. ثم فجأة لمحت قمة رأسي منزويا تحت الورق.

التقطتني وقربتني من الصفحة البيضاء. كانت هذه هي اللحظة التي انتظرها كل يوم.

بدأت اتلوى وأضغط على  الورق. وتنهمر الكلمات مثل شلال ماء . بعد عدة سطور وضعتني جانبا وتأملت الكلمات بأناة.

قبضت على رأسي وادخلته في المبراة، ادارتها بي وتساقطت قشوري. وحين امتطتني اصابعها ، عدوت وكأن شيئا لن يوقفني بعد وانطلقت أرسم انحناءات  الكلمات حتى اسودت الصفحة وقفزتُ الى صفحة اخرى. لم يسمع أحد لهاثي . كنت خائفا ان تطوحني بعيدا وانا اقترب من النهاية

توقفت أصابعها عن  الحركة ورفعتني الى فمها وهي تقرأ السطور. احسست بشفتيها تنفرجان عن  ابتسامة هادئة. انزلتني الى منتصف الورقة وخطت بي كلمة أخيرة.

 

الاثنين، 12 يوليو 2021

حظ السلاحف

كتب باء
قصة قصيرة

بثينة الناصري

  هل كان أمرا غريبا ان يتوقف الرجل بسيارته لشراء علبة سجائر قبل مغادرة المدينة الساحلية في طريق العودة الى بلدته؟ كان شارعا ضيقا ، ذلك الذي وجد نفسه فيه ، ولكن هذا هو حال اكثر الشوارع الداخلية لتلك المدينة الغافية على الساحل. هل كان صدفة ان يكون كشك السجائر بجوار محل لبيع طيور واسماك الزينة ؟ ولكن من هنا بدأت الحكاية.
انفتح باب السيارة الخلفي بقوة واندفع منها طفلان احدهما في السادسة والاخر في الرابعة، ورغم تحذير الام التي كانت تنتظر زوجها في المقعد الخلفي ، الا انهما دخلا محل بيع الطيور وأخذا يتفرجان على الاقفاص. يحاول الصغير ان يمد اصبعه بين القضبان ، فيما يصطنع الكبير اصواتا ويغير من سحنته ليرهب الاسماك الملونة السابحة التي كانت تتوقف قليلا تنظر اليه ثم تهز ذيولها وتمضي بعيدا. دخل الرجل خلف ولديه ووقف يتفرج معهما برهة ثم اخذ يحثهما على مغادرة المحل لولا ان الكبير كان يقف متسمرا امام صندوق من الكرتون موضوع على الارض. كان ينحني عليه حذرا محاولا استكشاف ما بداخله. أطل الرجل في الصندوق فرأى عددا كبيرا من السلاحف الصغيرة تتكوم ساكنة قرب بعضها. فأثار المشهد فضوله وسأل صاحب المحل:
- ألا تعيش هذه السلاحف في الماء ؟
- هذا نوع بري يعيش في المنازل
مال الرجل على ابنه وقال: هذه هي السلحفاة التي رويت لك قصتها مع الارنب .. هل تذكر ؟
قال الولد: اريد ان اراها تمشي !
وانضم اليه اخوه الصغير ، وان كان يتشبث بساقي والده وينظر من بعيد بخوف ولهفة. أخرج صاحب المحل سلحفاة صغيرة من الصندوق. وضعها على الارض فلم تحرك ساكنا. كانت تختفي كلية تحت درعها .
- اريد ان اراها تمشي
صاح الولد.
قال أبوه – انتظر انها خائفة كما يبدو.
لكزها صاحب المحل ، فمدت عنقها وأرجلها ودبت قليلا ثم توقفت وضمت نفسها داخل الدرع ثانية .
وفي هذه اللحظة ، انطلق نفير السيارة المنتظرة في الخارج. خرج الرجل الى باب المحل فأشارت له امرأته من بعيد متسائلة عما يؤخرهم .
تقدم نحوها وقال:  كنا نتفرج على سلاحف برية .. صغيرة هكذا بحجم اليد.
- آه .. أنا اسمع انها تعيش مائتي عام .
قال الرجل – لا اصدق .. ربما تقصدين السلاحف الضخمة التي نسمع عنها ؟
- دعني أراها .
قالت ذلك وغادرت السيارة ، وفي داخل المحل بادرت صاحبه وهي تقلب السلحفاة الراقدة على الارض:  أليس صحيحا انها تعيش مائتي عام ؟
- أجاب : ليس بالضبط ولكنها تعمر طويلا .
- وهل هناك من يشتريها ؟
قال صاحب المحل بثقة : كثير ! يأخذونها للبركة . إنها سلاحف مبروكة كما تعلمين.
- التفتت المرأة الى زوجها وقالت باسمة : والله فكرة ! دعنا نأخذ واحدة تجلب لنا الحظ في البيت الجديد.
ضحك الرجل وهو يقول : وتعيش بعدنا وترث البيت !
تقافز الولدان : نريد واحدة .. نريد واحدة .
وهكذا انطلقت السيارة على الطريق الصحراوي وهي تحمل الضيفة الطارئة التي انزوت اول الامر دون حراك ، ثم يبدو ان ارتجاج السيارة أثار قلقها ، فتحركت فجأة واختفت تحت المقعد الامامي ، ثم اطلت برأسها من بين قدمي السيدة وواصلت تقدمها . وهنا تشبث الابن الاصغر برقبة أمه صارخا:  تريد ان تأكلني !
لكنها ربتت عليه ، وانحنت لتحمل السلحفاة وتضعها على حجرها.
- انظر .. إنها لا تأكل أحدا .. انظر انها خائفة منك !
لكن الولد ازداد صراخا وانتقل الى المقعد الخلفي يحتمي بأخيه .
قال الرجل :نسينا ان نسأل إن كانت السلحفاة هذه ذكرا أم أنثى ؟
قلبت المرأة الحيوان بيدها وقالت : لاشيء ظاهر.. ولكن لابد ان تكون هناك طريقة لمعرفة جنسها .
اطل الولدان برأسيهما من المقعد الخلفي يتأملان السلحفاة في يد الام وأبدى الولد الكبير رغبة في ان يلسمها .. مد اصبعه بحذر وربت على رأسها فيما لامس الصغير درعها السميك بسبابته
سأل الاب :هه؟ ماذا نسميها ياولاد ؟
قالت الام : نسميها مبروكة .. أو محروسة .
قال الابن الكبير : شيرين .. شيرين .
علق ابوه :  ذوقك حلو ياولد .
صاح الصغير :لا يا بابا . سوسو أحلى .
حسمت الام النقاش قائلة:  لتكن شيرين .. اسم جميل فعلا . هذه اختكما ياأولاد . على افتراض انها انثى .
سأل الاب ابنه الصغي  : مارأيك الان في اختك شيرين .. خائف ؟
هز الولد رأسه نفيا وراح يتأمل السلحفاة بإدراك جديد بعد ان اتخذت اسما بشريا . ونقر على رأسها بإصبع مرتعشة .
مد الرجل يده واحتوى السلحفاة ليضعها على ساقه.
قالت زوجته :انتبه للطريق !
-      لاتخافي .. دعيني آخذ قليلا من البركة لعل الامور تتحسن في الشغل .
تحركت السلحفاة على فخذه باتجاه المقود . وصلت اليه . تشممته ثم حاولت تسلقه .ضحك الرجل وجذبها برفق ثم اعادها الى فخذه ، ولكنها استمرت في خط سيرها ذاته حتى اصطدمت بالمقود ثانية وتسلقته .
- هو تحدّ إذن ؟
- انتبه للطريق !
أعادها الرجل الى فخذه .. لكنها لم تتوقف . تحركت ببطء .قال محدثا زوجته :
- إني اسمع ان السلاحف اذا ماتت انقلبت على ظهورها .
- اشك في ذلك . كيف تفعلها ؟ يمكن انها اذا وقعت على ظهورها مدة طويلة تموت؟
قال الرجل : دعينا نجرب .. نقلبها على ظهرها ونرى إن كانت تستطيع ان تعدل نفسها .
مال الولد الكبير بكل ثقله على كتف أبيه وحاول ان يمسك السلحفاة ولكن اباه تشبث بها قائلا : انتظر لنرى ماتفعله .
وعاتبته زوجته : دعها للاولاد ..
شد الولد ذراع أبيه وهو يصيح : هات شيرين .
وفي هذه اللحظة سقطت السلحفاة بين ساقي الرجل وانحشرت تحت دواسة البنزين. انحنى ليلتقطها .
- انتبه !!
ضاعت الصرخة إذ افلت زمام المقود من يده ، وانحرفت السيارة بشدة الى حافة الطريق واندفعت الى الهوة . اصطدمت مقدمتها بالارض ثم انقلبت على ظهرها .. ظلت عجلاتها تدور في الهواء فترة ثم ... خمدت .
ران السكون ..
ينجلي التراب المتطاير .. رفيف حركة وسط الصمت. يطل رأس صغير من باب السيارة الموارب . تقذف السلحفاة نفسها الى الخارج . تقبع على الارض ساكنة وقد اختفت داخل درعها . ثم شيئا فشيئا تمد رأسها .. تلتمع عيناها السوداوان .. وببطء شديد .. تدب حثيثا بعيدا عن السيارة ..

**

نشرت في مجموعة (وطن آخر) 1994 وترجمت الى الانجليزية من قبل المستشرقة الامريكية Gretchen Michele McCullough 

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما