الخميس، 8 يوليو 2021

الإستيقاظ صباحا في غوانتنامو

 قصة قصيرة

بثينة الناصري

الأصوات تبتعد وتقترب . . هدير. . حفيف . . رنين . . صليل . . لهاث . .
 أفتح عيني فأجدني أحدق في عيني ذئب. 
-  ذئاب . . أجج النار.
صرخ أحد الرفاق، فحركت الخشب في النار التي تكاد تخمد. هناك في تلك الحفرة التي تحلّقنا حولها، في موقعنا ذاك من جبل (سورتانجي).
كنت جديد عهد بهذه الرفقة، ولم يفت في عضدي، مثل هذه المهمات الصغيرة التي توكل إلي. ولهذا كنت أقوم بها، بهمة وحماس، تثيران تندرهم غالبا، فيهتف أحدهم :
-  الذئب يسأل صاحبه: من يرعى النار هذه الليلة؟ فيجيبه الملا عبد الله فيقول له: اذن لافائدة من الإنتظار فناره لاتخمد أبدا .
ولكن . . لهاث الذئب يقترب . . ماذا حدث؟ هل خمدت النار؟ ربما سرقني النوم؟ أحاول أن أتحرك. أفتح عينيّ. أرى الذئب واضحا، هذه المرة، وقريبا جدا. ولكن كأنه داخل قفص. هل أحلم؟ إن الذئاب لاتعيش في أقفاص. أين أنا ؟ أشحت بوجهي، وحاولت أن أتسلل إلى الحلم مرة اخرى .
ولكني أفقت على صليل حديد، يرن كالمطارق في رأسي. وشيء حاد، ينخس أضلاعي. وقبل أن أتبين شيئا، شعرت بذراعي تقيدان، ثم بقدمي تكبلان .
فتحت عيني على سعتهما. ماذا يحدث؟ غريبان يشدانني من الأرض إلى وضع الوقوف. في حين مازال الذئب يكشرعن أنيابه داخل قفصه . لا . . لم يكن . . كان طليقا! أنا الذي في داخل قفص! وضع الغريبان عصابة على عيني. لم يكن ذئبا. بل كلب حراسة. أين أنا؟
حاولتْ أيادٍ دفعي إلى السير. أين يذهبون بي؟ جررت قدمي، وكدت أتهاوى. تصايح الرجال حولي بلغة لم أفهمها. سمعتُ حركة، وجلبة، ثم دفعني أحدهم في صدريـ فهويت على . . مايشبه أرجوحة . ربما نقالة . . ترتج بي . . وتهتز .
أرفع جفني . . سماء زرقاء صافية، شديدة الضياء. ولكن الضوء المبهر للنهار، يخز عيني، بألم فأطبقهما. لا أدري منذ متى لم أر ليلا. وكأن كل أوقاتي، منذ جاءوا بي الى هنا . . أعيشها في وهج حارق . . ضوء . . ضوء . . طوال الوقت. ألا يأتي الليل أبدا؟ يتأرجح جسدي يمينا ويسارا ( الله . . هوو ) (الله .. هوو) (الله . . هوو ) تترنم أمي، بصوت موجوع رتيب (الله . . هوو) وهي تؤرجح مهد أخي الصغير، فيغفو مبتسما، وتخفت ترنيمتها حتى تتلاشى، فأتقدم من أمي أطوق عنقها :
 - لماذا لايكون لي مهد هزاز مثله؟
فتضحك وهي تنتزع ذراعي من حولها :
- هذا كان مهدك ولكنك كبرت الآن . هيا . . إذهب وإلعب مع الصبيان .
يتأرجح جسدي، يمينا ويسارا. أتوارى في حضن أمي، وهي تحيطني بذراعيها، مودعة، وأنا ذاهب للحاق بالرفاق في الجبل (الله . .يحميك ياإبني ) وتصرّ أن آخذ مصحفا صغيرا (ضعه في جيب الصديري دائما وتحت مخدتك في الليل) ولكنه لم يعد معي . . الآن . . إنتزعوه من ملابسي، حين أجبرونا على ارتداء هذه البزة الحمراء. رغم شوقي إليك ياأمي، فإني لا أتمنى أن تريني بها. إنها تشبه السراويل الحمراء التي تختص بلبسها النساء عندنا، تحت ثيابهن الفضفاضة. أخذوا المصحف الصغير، ولم اره بعد ذلك. ولكن قبل أيام جاء إمام المعسكر. واحد منهم يقول إنه مسلم، ولكنه يرتدي ملابس عسكرية، وهو حليق الوجه. يقول إنه يريد أن يعلمنا. وزع علينا كتاب حكايات (الف ليلة وليلة ). أشرت إليه بأني لا أقرأ العربية، الا في كتاب الله، وطلبت مصحفا .
هز رأسه، وفهمت منه إنه يقول: ممنوع !
ثم سألني، كما فهمت، عن اللغة التي أتكلم بها :
 - باشتو . . باشتو
رفع حاجبيه دهشة وكأنه يسمع بالكلمة لأول مرة .
توقف اهتزاز جسدي فجأة. وهبطت النقالة على الأرض. حملني إثنان على الوقوف، وأدخلوا رأسي في غمامة سوداء. هذا هو الليل يجيء اخيرا !
لا أسمع سوى قرقعة أصفادي، وأنا أقاد، حثيثا، عبر عتبات وابواب. نتوقف. أسمع حركة الحارسين، وهما يبتعدان، وفي نفس الوقت، أتلقى ضربة شديدة بشيء صلب على رجلي، تطيح بي أرضا. ثم تمسك بي يدان، تحاولان بخشونة إجلاسي في وضع الإقعاء .
 - إسمك !
كان الصوت يتحدث الباشتو . رف قلبي وأنا أردد :
- عبد الله .
**
-  إسمي عايشة .
كانت تحمل خشب الوقود، على رأسها، في ذلك الممر الذي يخترق جبل "سور تانجي"، عندما تساقط بعض الخشب، فهرع إلى التقاطه، وإحكام وضعه على رأسها. ورف قلبه إذ تلامست أصابعهما عفوا. ثم انفلتت من أمامه، مثل غزال بري. راقبها وهي تسرع الخطا، مبتعدة بقامة مشدودة، توازن حمولة الحطب على رأسها .
عدّل العمامة، بعد ان انزلقت على جبينه، وأحكم امتشاق بندقيته على ظهره. وبدأ يدندن بـ لندي(1)، وهو يستأنف سيره .. .
يووار دي لاس به لاس كي راكه(2)
وعلا صوته شيئا فشيئا هو يصدح بين الجبال . .
دا لاس نيوي به دي تر ديرة يادومة (3)
كان الصوت الذي يسأله بالباشتو، قاسيا وصارما وعدائيا. أشعره بالغربة من لغة أهله. كل شيء هنا خالٍ من الودّ. الباشتو والإمام المسلم الذي يمنع أن نصلي جماعة، والذي رغم ذلك وضع لافتة بكلمة (القِبلة) بخط يده، وباللغة العربية، وعلقها على أحد أبراج الحراسة، في مكان نستطيع أن نراها من بعيد. ولكن أغلبنا لم يعد يصلي. وكيف ذلك ونحن لم نر الماء على أجسادنا منذ شهور، سوى مايرشوننا به في أقفاصنا، بخراطيم المياه المصوبة إلينا من بعيد .
كان الرجل يطلق عليّ أسئلته، قصيرة وحادة، وبصوت رتيب خال من المشاعر .
- أعيدوني إلى وطني. أنا باشتون، ولست عربيا. ولا أعرف أحدا منهم .
وكأنه لم يفهم الباشتو التي أتكلم بها. لا أدري إن كان هو الذي لطمني بشدة على رأسي، ولكن صوته استمر يسأل بحدة، ويكرر الأسئلة، وأعيد الاجوبة، ولكن كل ماقلته لم يعجبه .
- إذا كنتم ترونني مذنبا، فاقتلوني بالله عليكم. أما إذا لم أكن كذلك، فلماذا أبقى هنا؟ اُقتلوني أو أعيدوني إلى وطني. اُقتلوني أو أعيدوني .
- أعيدوه إلى قفصه !
وفي تلك اللحظة، وهم يسحبونني خارج المكان، أحسست أن ضوء النهار الحارق، وخلوة زنزانتي، إلا من لهاث كلاب الحراسة، أحسن مما أنا فيه. شهقت، وهم يرفعون غمامتي، وأرى وجه السماء، مرة اخرى .
تأرجحت بي النقالة حتى توقفت، قرب صف أقفاص الحديد. تحاشيت النظر في وجوه الرفاق، وهم خلف قضبانهم، يحدقون في وجهي، بأمل أن يستشفوا شيئا، منتظرين دورهم، بحذر وترقب، وشيء من التوق أيضا للخروج من الأقفاص بأي ثمن وإلى أي مكان .
- الحمد لله؟
سمعتُ جاري يسأل. كان عربيا، ولانستطيع التحدث بغير كلمات القرآن الكريم .
- الحمد لله !
ملأتُ كوبا من السطل الذي بقي فيه شيء من ماء الشرب. إلا أن الماء تعثر في بلعومي وأحسست بغصة .
- هل يذكرني أحد الآن؟(4) 
اخواي حميد وعبد الرحمن؟ آخر مارأيتهما عندما اُسرنا في قلعة "جهانجي" قبل أن يفصلوننا. أمي في بيتنا المنزوي في حضن الجبل؟ هل يكتب لي الله أن أراهم مرة أخرى؟ ام تُراهم . .؟ وعايشة ؟ آه . . من لمسة يدها. أما زال يسقط عن رأسها خشب الوقود، وهل يساعدها مفتون آخر؟ أم تُراها الآن تتحلق مع عائلتها، حول الصندل(5) ترتشف الشاي الأخضر وتفكر بي خلسة، وهي تذكي نار الفحم؟
كم يبدو كل شيء بعيدا . . مضببا. إلا أنني أرى بوضوح، جبال "سبين غار" و "سور تانجي" جبالا بيضاء، وحمراء، وجبالا خضراء، تغطيها نباتات برية.
يضطجع على الحشية، ويعقد ذراعيه خلف رأسه، وهو يرى نفسه، وسط عشيرته، وقد طالت لحيته مرة اخرى. يرتدي جوبان(6) أبيض، وحوله رفاق صباه، وهم يصفقون، على ايقاع الطبلة والرباب والسازاندة(7) يغنون لندي وكلاسيك (8) وفي البيت المجاور، عروسه عايشة،  تلتمع عيناها العسليتان، وهما تتابعان رقص صويحباتها على ايقاع الديرة (9)  .
صليل منغم يخترق أذنيه. وفكر" إنهم يأخذون العربي للتحقيق". يرفع صوته ليسمعه جاره قبل أن يبتعد بخطى ثقيلة، بقدر ماتسمح به الأصفاد: الله رحيم .
يتوقف السازندة عن الغناء . . وتصمت الرباب، ويكف الرفاق عن التصفيق. يسود السكون .
-  حانت الساعة . . إستعدوا . 
ويزف في موكب طويل . . من رجال لم يعد يعرفهم. كانوا جميعا، حليقي الرؤوس والذقون، يرتدون بزات حمراء كالنساء او المهرجين . . بدون عمائم. كانت أيديهم موثقة من الخلف. يمشون، مطأطئين، خجلين، من أن يراهم أحد او يرون بعضهم بعضا. كانوا مسربلين بالذل والمهانة. أحس كأنه يمشي عاريا، وسط عشيرته. كان يظن أن هذا الكابوس سينتهي عند وصولهم إلى الباحة التي يساقون إليها، فيعدمون، وأخذ يقرأ سورة (الفاتحة) مرارا، حتى وجد نفسه يُحمل حملا إلى داخل طائرة. ما أن تعثر داخل بابها، حتى أجلس على مقعد، وقيدت يداه وقدماه إلى المقعد. تلفت حوله بارتباك، ثم بغضب . أحس بوخز إبرة في ذراعه، ثم رُشق شريط لاصق غليظـ على فمه فغاب صوته، ثم دُس شيء في أذنيه فغاب سمعهـ ثم أدخلوا رأسه، بقناع أسود، فغاب نظره .
ولكنه مع ذلك ، استطاع أن يرى والطائرة ترتفع، ذرى جبال أفغانستان مغطاة بالثلوج، وعايشة وهي تؤجج النار في الصندل، وتنظر إليه بعينين ضاحكتين، مغطية فمها بالخمار، واستطاع أن يسمع صوتا يشبه صوت أمه، ينهمر مع الشلالات المتحدرة من الجبال والوديان، مترنما، متوجعا :
من كه به ميوند كي شهيد نشوي(10)
زما لاليه بي ننكي ته دي ساتينة (11)
استطاع عندئذ أن يفك إسار يديه، ويجثو عند قدميها، يحيط وجهها الصابر بكفيه، ويقول لها: إنتظريني . . لن أغيب طويلا .

 ***

الهوامش

1-لندي : كوبليه غنائي فولكلوري
2-إعطني يدك مرة والى الابد
3-سوف اتذكر لمسة اليد هذه زمنا طويلا
4- من المعتقدات الافغانية إذا تغرغر الماء في بلعوم احدهم، يعني أن أحدا يذكره في تلك اللحظة .
5- الصندل: موقد لتدفئة العائلة، يتكون من منضدة مربعة خشبية، توضع بارتفاع 40 سم، فوق فحم متقد، وتغطى المنضدة بلحاف قطن كبير
6-جوبان: جبة من الصوف بلون أبيض عادة يلبسها الرجال في الجبال شتاء
   7-السازندة : المغنون المحترفون
8-الكلاسيك : الغناء الأفغاني القديم الذي لايقدر عليه إلا المغنون المحترفون .
9- الديرة : آلة موسيقية تشبه (الدف) تستعملها النساء فقط
10- اذا لم تسقط شهيدا في معركة ميوند
 11- فإن الأيام تدخرك ياحبيبي لأيام الذل

ملاحظة القاصة:  من اجل كتابة هذه القصة ، درست أولا عادات المجتمع الافغاني وجغرافية البلاد، وشيئا عن لغة البشتون.
نشرت في مجموعة (يوميات الكوفي شوب وقصص أخرى) الالكترونية 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما