الثلاثاء، 6 يوليو 2021

مسألة أمتار

قصة قصيرة  

بثينة الناصري

الشارع عرضه أمتار قليلة ،  ولكن عبد العظيم أفندي حين حاول أن يعبره وهو ينوء بأكياس الفاكهة والسيارات تمرق امامه مسرعة والشمس تخرق عينيه ، لم يحسبها جيدا ، ولهذا لم يستطع الوصول الى الرصيف المقابل أبدا. 

بعد ساعات وفي الطرف الاخر من العالم ، كان  الاسطى حسين مقاول  المدافن يتربع على مصطبة داخل سقيفة في مدخل احدى حواري المقبرة ، مبنية بما يناسب التراث الذي يحيط المكان : اربعة اعمدة من جذوع اشجار ترفع سقفا من سعف النخيل . وكان يتفق بصعوبة مع مندوبي العائلة على مثوى عبد العظيم أفندي . بعد قليل حسم الاسطى حسن المناقشة بصيحة "لا اله الا  الله" وتقدم المندوبين يشق الطريق الرملي الى مدفن متهدم. تسور بقايا حائط متهالك والرجال وراءه ثم دفع بابا تشقق خشبه ، فانفتح على غرفة صغيرة ليس فيها سوى حوض مستطيل من الاسمنت والتراب وعلى الحائط رخامة سوداء مكتوب عليها "الحاجة محفوظة السيد عزمي توفيت في 18 مايو 1965". 

أشار  الاسطى الى القبر وهو يقول :

-   لم ندفن احدا هنا بعدها لأن الارض تحتها ماء . 

وسار بحذر عبر الغرفة واشار الى مكان ينخفض عما عداه ، وقال : 

-  هل ترون هذا الهبوط ؟ لو حفرنا لظهر الماء . أقول لكم الارض غير صالحة للدفن .

قال كبير  المفاوضين – ماذا نفعل إذن ؟ وصية المرحوم ان يدفن مع أمه .

كان المرحوم لاينفك يردد كلما جاء ذكر الموت "وصيتي يازينب ان ادفن مع الحاجّة . الله يرحمها كانت  تحب العشرة والناس ولا تطيق  الوحدة . 

وقبل ان تحدث  المصيبة روى عبد العظيم افندي لأمرأته انه رأى – اللهم اجعله خيرا – فيما يرى النائم ان امه جالسة في صدر مجلس منطلقة ومستبشرة ضاحكة السن كما كانت في ايام عزّها . وكانت ترحب به بإلحاف وتدعوه الى الجلوس بجانبها . 

أجاب  المقاول : هذا الله وهذي حكمته . ليس أمامنا الا  المنامات *.

وهناك في  البيت شبت النار في قلب الحاجة زينب ارملة المرحوم وهي امرأة لم تعتد ان يُكسر كلامها فتوقفت عن البكاء وسيطرت على مشاعرها بلمح البصر وقالت باصرار : 

-   لن يدفن عبد العظيم  افندي الا الدفن  الشرعي . 

قالوا لها ان المقبرة صغيرة ومتهدمة والمكان الوحيد الموجود لم يعد يصلح للدفن ولكنها ردت بلهجة متعبة صارمة : 

-  ادفنوه في أي مكان ..ولكن لابد ان يكون شرعيا . 

وعادت الى نحيبها مما تعذر مخاطبتها مرة اخرى ، ورجع رجال العائلة الى الروض وبحثوا عن الاسطى حسن حتى وجدوه يزاول عمله في مدفن غير بعيد . استمع اليهم بصبر ثم  انزوى بهم جانبا واقترح ان يستأذنوا أهل الميت الذي يحفرون له باستضافة عبد العظيم أفندي في مدفنهم . ولكن هؤلاء  اعتذروا بأن الحوش يكتظ باجساد رجال ونساء عائلتهم الكبيرة وماتبقى من مساحة بالكاد يكفي الاحياء منهم ساعة تحين آجالهم . 

رجع بهم الاسطى الى المدفن الخرب ووقف الرجال يتأملون الموقع بحثا عن مكان مناسب . أشار بعضهم الى المساحة تحت السور المتهدم ... لكن المقاول اوضح لهم عمليا خطل هذا الرأي اذ سيكون المرحوم مداسا للرائح والغادي.

في البيت عندما حانت ساعة الفراق وكان الليل قد انتصف منذ وقت غير قليل ، صرخت  النساء وأحطن بالحاجة زينب . وعلا العويل والرجال يحملون الخشبة ويضعونها في  السيارة تتبعها ارملته وهي تتساند على أذرع جاراتها . أجهشت النساء في بكاء حقيقي حين امتنعت السيارة التي تحمل  الجثمان عن القيام وقيل ان روح المرحوم مازالت تهفو الى دنيا الاحياء ،  واضمرت  الحاجة زينب في نفسها ان تشتري في اول جمعة تخرج بها لزيارة  الغالي ماكان نفسه فيه ولم يتسن له ان يهنأ به : رمانا وعنبا وخوخا .. ثم استبعدت العنب اذ لم تسمع من قبل ان احدا اخرج الرحمة عنبا ، ومالت على جارتها تسألها المشورة. 

ولما تحركت السيارة بعد محاولات مضنية، تنفس المشيعون الصعداء ، فقد كان الليل يسرع حثيثا نحو الفجر وكان السائق يتأفف بصوت عال اذ لم يسبق لميت ان  استغرق كل هذا الوقت في اللحاق بالاخرة . وحتى  عندما توقفت  السيارة اخيرا امام المدفن وحمل الرجال  الخشبة كاد احدهم ان يقع لولا ستر الله فقد تعثر بحجارة  الطريق حتى مالت الخشبة وتعالت صيحات "الله  اكبر" ثم استعاد توازنه .. وقد ظلت هذه الواقعة تذكر وتستعاد في كل مجالس  العزاء في الحي بعد ذلك . 

أخيرا ومع أول نسمات الفجر آن لعظام عبد العظيم أفندي ان تنحشر داخل مترين بين باب  الروض والطريق العام ، ومع انصراف آخر خطوات الدنيا عنه ، استكان الرجل في وحدته الموحشة الرطبة لايؤنسه غير صوت مروق السيارات السريعة على أرض الشارع .

 ******

·       المنامات – هي طريقة للدفن تشبه الطريقة الفرعونية حيث يدفن الاموات في قبر واحد متسع اشبه بقاعة يدفن فيها الرجال بمعزل عن النساء ، وهي ليست الطريقة الشرعية الاسلامية حيث يدفن كل ميت في قبر خاص به . والمدافن في مصر عبارة عن احواش اشبه بالبيت فيها غرف يدفن فيها الميت شرعيا وفسحات تحوي المنامات. والحوش (المقبرة) خاصة بكل عائلة، وهناك مقابر الصدقة للأغراب او لمن لايملك شراء حوش خاص. وتسمى المقبرة التي تضم الأحواش (الروض))

     ( جو القصة متأثر بالحياة في مصر وهكذا العديد من قصصي التي كتبتها بعد انتقالي الى مصر في 1980)

** نشرت القصة في مجموعة (وطن آخر) القاهرة 1994

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما