‏إظهار الرسائل ذات التسميات short story. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات short story. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 27 نوفمبر 2022

السيارات الصغيرة الشجاعة

كتب باء

أخيرا تخلصت منها .. سيارتي الصغيرة الشجاعة . لم يكن لصبرها وعنادها حدود.
أذكر أني أول ما اشتريتها قبل عشر سنوات خرجت بها إلى الشارع باندفاع سرعان ماكسرتْ حدته كتلُ السيارات الضخمة  الزاحفة بإصرار وكأن تراصّها أذرع إخطبوط ملونة هائلة تنمو وتنتشر في كل الدروب .

وعندما حشرت سيارتي وسط هذا الزحف الهادر أدركت  على الفور أي مأزق وضعت نفسي فيه ، ومن يومها  انضمت سيارتي إلى  إسطول السيارات الصغيرة الشجاعة التي تدب على الأرض بعناد السلاحف رغم إتفاق الجميع على تجاهلها .

كان مروق سيارة كبيرة مسرعة إلى جانب سيارتي كفيلا بأن يهزها كما تهز الطفل في المهد، فأنزوي بها مبتعدا ليخرق أذني نفير صارخ من الجانب الآخر لسيارة نقل أكاد أندفع الى حجرها ، وتظل السيارة الشجاعة تتطوح ذات اليمين وذات الشمال والسائقون ينظرون إليها باستخفاف وهم يهزون رؤوسهم تعجبا أن يُسمح لمثل هذا المسخ الضئيل أن يزحم  الطريق.

عندما إمتلكت سيارة أكبر فيما بعد، إكتشفت بما لا يترك مجالا للشك أن للسيارات الكبيرة قانونها الخاص فهي تعامل بعضها بإحترام لاتخطئه عين، بل إنك قد تجد واحدة تتأخر تأدبا لتفسح الطريق لأخرى، في حين لا تجد السيارة الصغيرة أية بادرة عطف، بل يزاحمها  الكبار حتى تضطر لصعود الرصيف أو كما فعلت سيارتي حين ظلت سيارة نقل ضخمة تطاردها وترتمي عليها حتى تكاد تلتهمها ، فما كان من سيارتي إلا أن قفزت على سلم المشاة. ومثل كل الأخطاء التي ترتكب بحسن نية، كان ذلك هو الخطأ الذي أودى بها.
لم أكن أريد بيعها أول الأمر، فما كان علي هينّا أن أتخلى عن تلك المحدودبة الخضراء التي عاشت معي الحلو والمر طوال عشر سنوات لم تمر دون أن تترك فيها العديد من خدوش الأقدار وطعنات الغدر .

وهكذا قبل أن أسلمها لعيون الراغبين ذهبت بها إلى الورشة حيث جليت كالعروس، ولكني لما أخذتها ليلا فاتني أن الصانع لم يحسن صنعته من الداخل ، فكان الرجل من هؤلاء يعجب لمرأها حتى إذا فتح غطاءها لقطت عيناه عيبا فيهز رأسه ويمشي أو يعرض سعرا هابطا بغير حماس. ولما طال الأمر وتجاوز أياما بل شهورا وبدأت المسألة تأخذ شكلا آخر .. صرتُ أنظرإليها بعيون الآخرين . فتلاشت ومضة الإعتزاز من عيني وبدا لونها كابيا ، وصار همّي أن أتخلص منها بأسرع وقت وبأي ثمن . وكان نهاية حدود إحتمالي ماحدث في آخر رحلة لنا معا على الطريق الصحراوي.

كنا على الطريق الصحراوي كما قلت. وكانت تسبقنا مقطورة لا أول لها ولا آخر ، وفي لحظة الإقتراب منها أعلنت المقطورة بضوء الإشارة الخلفي رغبتها في الإنحراف يسارا . ولا أدري أي شيطان أوحى  لي ونحن نكاد نلحق بها بأننا نستطيع أن نتعداها، فضغطت على دواسة البنزين ومضيت بأعلى سرعة السيارة وقد تعلقت يدي بالنفير . ولما جاوزنا مؤخرة المقطورة بقليل.. إنتبه سائقها فأشار لي بيده أن أتجاوزه وعدل من مساره منتظرا مرورنا.. ولكن ونحن نغذ السير وسيارتي تبذل أقصى ما عندها وتجاهد لتمر مرورا مشرفا .. دون فائدة .. وبعد لأيْ وصلنا منتصف المقطورة .. ومازال السائق يوميء بيده ولكن صبره فيما يبدو قد بلغ منتهاه ونحن بالكاد نقترب من المقدمة .. وفي اللحظة التي أوشكنا فيها ان نحاذيه ، قرر فجأة الإنحراف الى اليسار وكادت تقع الواقعة لولا أننا انزوينا جانبا وأغمضت عيني منتظرا أن يلطّ  ذيلُ المقطورة سيارتي .. ولكنه مرق برشاقة واندفع هادرا وسط الطريق فيما جلست أنا مكسور النفس غارقا بأفكار كئيبة محصورا بحدود سيارتي التي اكتشفت ساعتها كم هي صغيرة وخانقة ..

المدن غابات تجوب شوارعها وحوش معدنية ملونة .. زاهية احيانا، كالحة احيانا ، ومنذ أن تدحرجت أول عجلة على أرض التاريخ ، سلّم الإنسان نفسه لها وانصهر داخل معادنها وصار ينتمي لها ويكنى بإسمها . فإن تهبط من مركبة فخمة غير أن تنسلّ من سيارة صغيرة . لما  انتهيت عند هذه النقطة من التفكير .. إنطلقت باتجاه المدينة وقد عزمت أمري .
**
الرجل الذي وافق أن يشتريها عرض نصف الثمن الذي طلبت . كان رجلا جلفا .. فظا ، حاول أن يسفّه كل شيء فيها . وبدا كأنه يشتريها مرغما كما لو كانت قدره ، وفي اللحظة التي وضعت نقوده في جيبي ودفعت له مفاتيحها مترددا وجلس امام المقود ، لم تطاوعه السيارة.. إيماءة احتجاج أخيرة ولاشك .
إنتفض الرجل خارجا منها ، لاعنا ، فقلت بصوت ضعيف:
-        إدفعها قليلا .
صاح وهو يستعين بالمارة :
-        أدفع؟ وأنا قد دفعت فيها المئات ؟

مسحت بيدي على ظهرها الأخضر المحدودب على ذكرياتنا . ولوهلة أوشكت أن أرمي بنقوده في وجهه، لولا أن تكالب عليها إثنان يجبرانها على  السير. فانطلقت والرجل الغريب بداخلها . وكان ذلك المشهد المزري آخر عهدي بها .
++

* نشرت في مجموعة ( وطن آخر) الصادرة عن سينا للنشر - القاهرة 1994

الاثنين، 21 نوفمبر 2022

دجاجة عمر

كتب باء

دجاجة عمر


كان لون ريشها أحمر مصفرا يشوبه سواد في الرقبة والصدر . لم يكن شكلها ينبيء عن تفرد ما . فقد كانت ضئيلة الحجم ، شاحبة العرف ، ولكن عمر كان – كلما ذكر الحصار وأسعار الغذاء – يقول للجميع بفخر :
-       عندي دجاجة تبيض كل يوم بيضة.

يعيش عمر مع جدته في بيت فاره كبير تحيطه حديقة لم يعن أحد بها منذ انتهاء الحرب فامتلأت بالاعشاب والدغل . وأثناء الفترة الطويلة التي انتظر فيها عمر إستدعاءه للجندية قام بتحويل إحدى غرف المنزل إلى ورشة إصلاح الأدوات الكهربائية . ومن أول نقود إكتسبها بعرق جبينه اشترى الدجاجة وأفلتها في الحديقة . وصنع لها صندوقا خشبيا صغيرا لتأوي إليه ليلا . ومنذ ذلك الحين دأبت الدجاجة على أن تترك له في الصندوق بيضة كل يوم ، وكان عمر يوصي جدته مرارا :

-       لما اروح للجندية .. لا تنسي أن تجمعي البيض كل صباح .

فتقول جدته عندئذ :
-       ولما تجيء في آخرالإسبوع سيكون عندي خمس أو ست بيضات سأعمل لك منها طبق عجة معتبر .
ومعها يحلم عمر :
-       أو بيض بالتمر .
في الوقت الذي بدأت فيه أحداث القصة ، كان عمر يجلس بعد الظهر في الورشة منكبا على جهاز راديو صغير يفحصه، حين سمع زعيقا مكتوما تطلقه دجاجته لا يشبه الصوت الذي تحدثه عند إفلات بيضة جديدة، أو لدى رؤية قطة مارقة. فتطلع من النافذة المطلة على الحديقة واستطاع أن يلمح مؤخرة الكلب الضخم وهو يسرع خارج البوابة حاملا في فمه الدجاجة ذات الريش الاحمر.
رمى عمر ما بيده وهرع بأقصى  مايستطيع من سرعة منطلقا خلف الكلب الذي أحس بالخطر فاندفع إلى باب البيت المجاور ووراءه عمر .
كان الجار يرش حديقته حين مرق بجانبه كلب يحمل شيئا في شدقيه وخلفه عمر يعدو حافي القدمين . ولم يستطع الجار أن ينهي سؤاله : ماذا ..؟
قال عمر وهو يتجاوزه : الكلب ... الدجاجة .
فأشار الرجل بسرعة إلى سور الحديقة الخلفي حيث قفز الكلب مع صيده .
-       الخرابة .
تسور عمر الحائط الخلفي وعيناه لا تبرحان الطريدة ..وهبط على أكوام الزبالة في الخرابة فأحس بلسع في قدمه. انحنى عليها وهو يلعن حظه واستل الشوكة. مسح قطرات الدم واستمر يركض وهو يعرج خلف الكلب الذي وصل إلى الشارع العام . توقف هنيهة ريثما تمر السيارات ثم انطلق يعبر الشارع .
تراءى لعمر وهو ينتظر مرور السيارات أن الناس جميعا يحملقون فيه. تطلع إلى قدميه وفكر أن يرجع .. إذ أنه حتى لو استطاع أن يلحق باللص، فمن غير المتوقع أن يجد دجاجته نابضة بالحياة. لكن هذه الفكرة لم تدم سوى لحظات عابرة فما أن بانت انفراجة في الشارع حتى عبره بأقصى سرعة نحو المنحنى الذي شاهد الكلب ينطلق إليه .
انحدر الشارع إلى جرف النهر. كانت ثمة قوارب يتهيأ فيها الصيادون للإنطلاق في رحلتهم اليومية. كانوا يعدون الشباك ويلمّعون الفوانيس النفطية، وفيما كان أحدهم يرفع قامته بعد أن نشر شبكته، التقطت عيناه كلبا يعدو بإتجاه قاربه وخلفه شاب يندفع لاهثا، رافعا يده بحجارة . قفز الصياد إلى الارض وقطع الطريق على الكلب الذي وقف لحظة متحيرا ينظر زائغ العينين نحو عمر وهو يقترب منه والصياد الذي يفتح ذراعيه قافزا هنا وهناك .
تراجع الكلب وزمجر دون ان يفلت صيده، ثم وقف منتظرا مايسفر عنه الموقف. تقدم عمر وحين صار على مرمى من الكلب .. قذفه بالحجر فأصابه في فخذه، عوى الكلب وأسقط الدجاجة من فمه لكنه ظل واقفا يهدد من يحاول الإقتراب. حانت منه إلتفاتة بعيدا عن طريدته فأصابه الصياد بحجر آخر، فانثنى الكلب عاويا وأسرع يلوذ بالفرار .
ظلت الدجاجة مرمية على الأرض بلا حراك. كان ريشها يبدو في اشعة الشمس الغاربة ذا حمرة داكنة اصطبغت بها أصابع عمر وهو يربت عليها ، فأدرك حينئذ أنها تسيل دما. رفعها بيده. كانت مغمضة العينين وعُرفها يلوح أشد شحوبا .
ولكن فجأة هجست أصابعه نبضات سريعة. فقال للصياد وهو غير مصدق :
-         مازالت حية !
قال الصياد :
-       لكنها جريحة.
وقلبها بيده . رفع أحد جناحيها وأشار إلى موضع إنبثاق الدم ونصح عمر أن يأخذها إلى النهر ويغسل جراحها بالماء.
انحنى عمر على الماء وحمل شيئا منه بكفه وقطره على موضع الجروح ، فحركت الدجاجة أجفانها قليلا . حاول عمر أن يرفعها على رجليها لكنها ارتمت على أحد جوانبها مهيضة الجناح . حملها برفق لصق صدره وعاد راجعا بها . كان طريق العودة طويلا لأنه تجنب الدخول  في الخرابة ، واجتاز شوارع جانبية حتى وصل إلى باب البيت، حيث وجد جدته تحدث جارها وما أن رأته حتى صاحت :
-       ماتت الدجاجة؟
-       لا ولكن لا  أدري إن كانت ستعيش ..
قال الجار :
-       نذبحها يا أبني قبل أن تموت.
 والتفت خلفه مناديا : هات السكين  يا احمد .
قال عمر بسرعة :
-       لا .. لا .. سوف انتظر قليلا ربما تعيش .
ومسح على ريشها وهو يدلف إلى البيت،  وخلفه تسير جدته وهي تحدثه:
-       كنت أحمل لك شاي العصر لما رأيتك تقفز خارج البيت. ياربي ماذا حصل ؟ قلت لنفسي .. هل قامت الحرب من جديد؟ إسمع الكلام يا عمر . تعال نذبحها .. على الأقل أعمل شوربة دجاج . منذ متى لم نأكل الدجاج ؟
خيل لعمر أن الدجاجة تنتفض بين يديه .. ربت عليها مطمئنا وقال لجدته :
-       اسمعي ياجدة .. سأتركها في بيتها هذه الليلة فإن عاشت خير على خير .. ولكني لن اذبحها. هذا آخر الكلام .
قالت الجدة :
-       حتى لو عاشت ياعمر فإنها لن تعود كما كانت لأن فزع اليوم سيقطع عنها البيض .
لم يرد عمر بل حمل الدجاجة إلى الصندوق الخشبي ووضعها على جانبها بهدوء. جمع مما حوله بعض لحاء الشجر والأغصان الجافة، أحاطها بها ثم أغلق باب الصندوق بكرسي قديم مهمل في الحديقة. ولما تأكد أنها في مأمن من البرد والكلاب عاد إلى ورشته فالتقط الراديو وانهمك في فحصه من جديد.
دخلت عليه جدته بشاي ساخن وقالت وهي تضعه على المنضدة :
-       ماكان يجب أن  تقول لكل من هب ودب عندي دجاجة تبيض كل يوم بيضة .. الناس تحسد على كل شيء .
-       يعني ياجدة .. يحسدونني على بيضة ؟
-       وعلى أقل من ذلك ..وها أنت ترى يا إبني إنك لم تهنأ بالدجاجة أو بالبيض.
**
لم يدر عمر كيف انقضى الليل . تقلب وأفاق عدة مرات. وفي كل مرة كان يتراءى له أنه يسمع زعيق الدجاجة فيرهف السمع فلا يسمع سوى نقيق الضفادع .. حتى انبلج الفجر وترامى نوره عبر النافذة إلى وجهه ، فنهض وتلفت حوله. ثم غطى رأسه باللحاف وحاول أن ينام . ولما لم يستطع جلس على السرير وأجهد ذهنه ليتذكر أسباب القلق الذي ينهش قلبه وفجأة صاح "الدجاجة"  ولبس خفيه وأسرع إلى الحديقة .. أزاح الكرسي القديم وأطل مترددا داخل الصندوق .
كانت تنظر إليه بعين براقة بالحذر والخوف . زفر عمر بارتياح فعرفته وإختفى الخوف من عينيها شيئا فشيئا وحلت محله نظرة أليفة. حاولت أن تنهض لكنها سقطت مترنحة جانبا، تلمس الدم المتجمد على رقبتها وجناحها وقال بحب:
-       لا تخافي .. لن أدع أحدا يقترب منك بعد الآن .
زحفت قليلا لتدفن رأسها بإطمئنان في باطن كفه .. وحين تحركت لا ح له فجأة شيء لم يصدق عينيه لمرآه .
أطلق عمر صرخة فرح وهو يمد أصابعه ويلتقط من تحتها .. بيضة!
+++

نشرت في مجموعة (وطن آخر) الصادرة عن سينا للنشر – القاهرة 1994

الاثنين، 12 سبتمبر 2022

الحفل الغنائي

 تأليف: بثينة الناصري

 


يجيء صوت عم فتحي البواب خشنا، يخترق زجاج النافذة، والغطاء الذي يلفّ أحلامي. 

-  سعاد . . سعاد .

ومثل كل صباح، أعرف أن الساعة هي السابعة تماما.

- نعم . . ياعم فتحي . صباح الخير .

وأن المشرفة سعاد سترمي إليه المفتاح، ليفتح الباب الحديدي الكبيرلبيت الطالبات وأن أمامي ساعتين كاملتين قبل موعد الجامعة، ساعتين لأتقلب وأغرق في هذا الترف على السرير الحديدي الصديء. 

تتحرك فيفي تحت الغطاء " الله يخرب بيوتكم. دعونا ننام"

فيما تنهض نجوى، تضع المنشفة على كتفها وتهز فيفي:" هيا . . نلحق طابور الحمام". وتلقي نظرة عليّ وهي خارجة وتصبّحني بالخير .

في هذه اللحظة ينطلق صوت في زعيق أوبرالي. وتغمغم فيفي بغضب "على الصبح ياسميرة ؟" فأضحك وأقول:" دعيها تدرب صوتها. هيا إنهضي يا فيفي" فترد "حتى انت؟ والله لأترك لكما المكان"

ثم تزيح الغطاء عن وجهها وتبتسم "صباح الخير". 

يطل رأس من الباب: 

-  صباح الخير يابنات .

-  أهلا سميرة . . تعالي .

تقف في وسط الغرفة وتقول :

-  سأغني الليلة في حفل فرقة الموسيقى العربية. هل تأتين يابنات؟ هذه أول مرة أغني سولو. لابد أن تأتي يابثينة. وأنت ايضا يافيفي.

قلت بحماس:

-  طبعا ياسميرة. هذا واجب.

-  تصوري يابثينة . . يقف مذيع الحفل ليقول: والآن نقدم المطربة . . لا . . الفنانة الصاعدة : سميرة سالم . . كيف ترين وقع الاسم؟ سميرة سالم .. 

وترسم بيدها حركة في الهواء، وهي تردد حالمة: سميرة سالم. 

سألتها فيفي: 

- لن نستطيع أن نتأخر في الرجوع . هل استأذنت سعاد؟

قالت سميرة وهي تخرج بحركة مسرحية :

- سعاد مدعوة ايضا. هذا يوم غير كل الأيام يابنات.

قفزت فيفي من الفراش وقالت:

- رائع . ولكن يجب أن تقرضيني فستانك يا بثينة.

تأملت جسدها الممتليء وقلت بحيرة :

- لا أدري.

ولكنها أسرعت إلى الدولاب المشترك، واستلت الفستان من الشماعة. وفيما كانت تحشر جسدها فيه، دخلت نجوى وقالت بعد أن استمعت إلى الخبر: 

- كلام فارغ  لن أذهب طبعا. سأبقى لأراجع دروسي. الإمتحان على الأبواب.

ردت فيفي وهي تتأمل نفسها في المرآة:

- معقدة. خلي الكتب تنفعك .

قلت وأنا أحاول إقناعها :

- ساعة من الزمان لن تؤثرعلى دراستك، ثم أن سميرة تحتاج إلى مشجعين.

قالت وهي تهز كتفيها:

- كفاية أني أستمع لها هنا. ثم من يدري، ربما يطلبني خطيبي أو أهلي من البلد.

صاحت فيفي:

- إتركيها . . لاتتعبي نفسك معها . . هه؟ مارأيك بالفستان؟ 

**

بعد الظهر كان بيت الطالبات يموج بالحركة. البنات يخرجن من غرفة إلى اخرى . واحدة تقترض عطرا، وأخرى تستعرض فستانا. أبواب تصطفق . تنطلق ضحكات وصيحات مرحة وآهات إعجاب، وأمام باب الحمام، كان ثمة فتيات يذرعن الأرض بنفاد صبر.

جلست فيفي وسط الغرفة تنتزع شعر ساقيها بهمة ودأب .

علّقت نجوى بامتعاض:

-  كل هذا التعب من أجل ساعة من الزمان؟

ردت فيفي ضاحكة:

-  من يدري؟ يمكن ألتقي بالنصيب! 

قلت:

- ولكن يا فيفي الفستان طويل يغطي ساقيك.

قالت وهي تنظر إلى نجوى معابثة:

-  ومن يدري؟ ربما أكشف عن ساقيّ لأي سبب. 

 أخفت نجوى وجهها الذي احمرّ خلف الكتاب ولم ترد. وفي هذه اللحظة إندفعت إلى الغرفة جارتنا فريدة، وقد تناثر شعرها القصير حول رأسها، وقالت وهي ترفع خصلة منه إلى الأعلى، وتلوح بالفرشاة.

-  نجوى حبيبتي .. إرفعي لي شعري شنيون مثل آخر مرة .

تناولت نجوى الفرشاة بصمت وابتدأت ترفع شعرها بيدين حاذقتين . 

تساءلت فريدة : 

- هل رأيتن سميرة؟ لقد ارتدت فستانا رائعا لونه أزرق ومشغول بخيوط فضية على الصدر.

وهمست وهي تضيف: إشتراه لها صديقها الأردني.

أطلقت فيفي صفيرا: كم أتمنى أن أراه.

سألتها فريدة بخبث:

- صديقها أم الفستان؟

انبرت نجوى:

- خطيبها ياجماعة.

قالت فريدة:

- ليست هناك خطوبة رسمية. المهم إننا سنراه الليلة فهو الذي سيأخذ سميرة بسيارته إلى الحفل.

تساءلتُ:

- وماذا عنا؟ كيف نذهب؟

- بسيارات اجرة .

صاحت فيفي:

- يخرب بيوتهم. لن نذهب على حسابنا طبعا.

قالت نجوى، وهي تضع اللمسات الاخيرة على شعر فريدة : كلام فارغ ! 

**

لم أتردد طويلا أمام دولاب الملابس، فبعد أن اختالت فيفي بأحسن مالديّ، لم يعد هناك سوى الفستان الحريري الرمادي ذي الورود الصفراء الصغيرة، وهو لا يناسب تماما حفلا ليليا، ولكني عزمت على أن أرتدي معه العقد الذي تزينه حبات سود لامعة. 

لعلع صوت المشرفة سعاد:

-  إسرعن يابنات لم يعد لدينا وقت. 

أطلت برأسها داخل الغرفة :

- لا تكثرن من الزينة يابنات. وماهذا الفستان يافيفي؟ لست ذاهبة إلى حفل زفاف.

توقفت فيفي عن تكحيل عينيها بحركة أحسست معها بمحاولتها اليائسة لكظم غيضها، وما أن اختفى رأس المشرفة حتى قالت بغضب:

-  يخرب بيتها. نكدت علينا هذا اليوم المفترج. 

علّقت نجوى :

 -وهل رأيت فستانها هي؟ ضيق وبدون أكمام وكأنها ذاهبة إلى حفل راقص، استغفر الله.  

قالت فيفي وهي تدور حول نفسها:

- حلوة. أليس كذلك ؟ 

قلت وأنا أسحبها من يدها:

- دعينا نلحق الحفل. 

**

بدت سميرة سالم في أبهى منظر، وقد تعودنا على رؤيتها كل يوم بملابس النوم. لم تكن جميلة ولكن وجهها كان من تلك الوجوه الأليفة التي تحس لأول وهلة بأنك تعرفها منذ زمن قديم. أما الآن فقد كان يكسو ملامحها جمال أخاذ، ربما مبعثه إحساسها الطاغي بأنها نجمة حفل الليلة، أو ربما كان انعكاس الخيوط الفضية التي تحلي فستانها الازرق. كان جمالها في تلك اللحظة التي خرجت فيها من غرفتها آسرا ملأنا بالشعور بالضآلة أمامها. وازداد هذا الشعور حدة، ونحن نرى، مأخوذات، شابا ممشوقا بالغ الوسامة يهرع من سيارة حمراء صغيرة، ويتقدم إليها. يمسك يدها بخشوع ويقودها إلى السيارة ،ويساعدها على الجلوس، وكأنها ملكة متوجة . 

أفقنا من سحر المشهد على صوت عم فتحي البواب وهو يهيب بنا أن نركب سيارتيْ الأجرة اللتين أوقفهما، وكنا اثنتي عشرة فتاة. انحشرنا فيهما، ونادت سعاد قبل ان تتحرك السيارات: 

- اقفل الباب في الساعة الثامنة مثل كل يوم ياعم فتحي، وإذا تأخرنا سأفتح بمفتاحي. 

شرع الموكب في السير. كنا نشرئب برؤوسنا نحاول أن نستكشف مايجري في السيارة الصغيرة الحمراء، والحسد يأكلنا، خشية أن نجد يده على ظهرها أو رأسها على كتفه. ولكن خوفنا لم يكن له مبرر، فقد كانت سميرة تجلس جامدة تحدق في الطريق أمامها، وبين الحين والآخر، كنا نرى جانب وجه صديقها الوسيم وهو يلتفت اليها ليقول شيئا ما. وبعد مدة وجيزة، مللنا النظر إليها، وانشغلنا بتفحص بعضنا.

لكزتُ فريدة الجالسة قرب النافذة من الناحية الاخرى، وقلت : 

-  شعرك جميل وانت ترفعينه هكذا.

 ابتسمت بسعادة:

- شكرا والفضل لنجوى . ترى لماذا لم تأت معنا؟

ردت فيفي: تخشى ان يتصل خطيبها من البلد فلا يجدها. 

تساءلت فريدة :

- وماذا في ذلك؟ 

قالت فيفي باستنكار:

- انك لا تعرفينه. إنه يحرم عليها الخروج من السكن لغير الجامعة مهما كانت الأسباب. 

فتحتُ زجاج النافذة، وتنفست هواء الليل بعمق وقلت:

- الحمد لله على أننا مانزال على البر. لا خطوبة ولا زواج ! 

التفتت المشرفة سعاد من مجلسها قرب السائق قائلة:

- أجل والله يابنات. أنتن في نعمة إحمدن الله عليها .

ضحكت فيفي، وقالت، وهي تغمزني بطرف عينها:

- يارب أزل عنا هذه النعمة!

فجأة توقفت السيارة التي تقلنا.

- وصلنا؟ 

رد السائق، وهو يشير إلى الأمام:

- كلا، ولكن السيارة الاخرى تعطلت .. هناك شيء!

كانت السيارة الصغيرة الحمراء قد توقفت بمحاذاة الرصيف ونزل الشاب واقترب من المشرفة سعاد وقال:

- سميرة مريضة جدا.

-  ماذا حدث ؟

-  أظن عندها مغص كلوي حاد، ويجب أن نأخذها إلى أقرب مستشفى. 

وفيما أصابنا الوجوم. خرجت بعض الفتيات من سيارتيْ الأجرة، يجرين نحو سميرة وبعضهن تحلقن حول صديقها الذي قال موجها كلامه إلى سائقنا :

- هل تعرف أين أقرب مستشفى؟

لكزتني فيفي قائلة:

- من الواجب أن نذهب لنرى سميرة .

وهكذا نزلنا من السيارة، واقتربنا من لمّة الفتيات حول السيارة الصغيرة، واستطعت أن أرى من النافذة الجانبية، سميرة وهي تتلوى ألما فأحسست بالأسى، وقلت لفيفي:

- حسدناها. 

ولم تجب، فقد كانت عيناها تتعلقان بالشاب الممشوق، تحاول أن تجذب انتباهه، فيما كان يحاول أن يجد طريقه إلى باب السيارة، وهو يقول:

- سنذهب إلى المستشفى.

سحبتُ فيفي من يدها وهي تتمتم حانقة:

- يخرب بيوتكم. كل هذا اللبس والزينة للمستشفى؟ 

وانطلق الموكب من جديد، ولكن في طريق آخر هذه المرة.

ران صمت يائس على من في السيارة قطعته سعاد قائلة:

- مسكينة سميرة. حظها سيء!

صاحت فيفي:

- والله .. نحن المساكين ! 

قلت:

- اسكتي يافيفي . كانت هذه اول فرصة حقيقية لها.  

ثم استغرقتني فكرة كم الأشياء التي نجهلها عن بعضنا، برغم أننا نعيش في بيت واحد لايفصلناعن بعض سوى جدران رقيقة ! من كان يصدق أن سميرة التي ينطلق صوتها الأوبرالي بقوة كل صباح، وهي تقف في طابور الحمام أو ظهرا، وهي تحضر غداءها . . من يصدق أنها تعاني من مرض كلوي، وهي لما تخط بعد أولى خطواتها في طريق مستقبلها؟. وما أقسى أن يفاجئها المرض وهي في أبهى حالاتها وهي على بعد خطوات من لحظة طالما انتظرتها، ثم أن ينطفيء تألقها، وتتلوى متوجعة في حضرة الرجل الذي تحب! أي حظ هذا! انتبهت من أفكاري على توقف السيارة. 

-  المستشفى أخيرا. 

هرولت الفتيات إلى سميرة، وأحطنها وأخذن بيدها، وهي مطوية الظهر تكاد تنكفيء على وجهها من شدة الالم، فيما قفز صديقها سلالم المستشفى يسأل بلهفة عن الطبيب. 

بعد لحظات طويلة خرجت سعاد من غرفة الطبيب، وأخبرتنا أن سميرة قد حُقنت بمادة مسكنة، وأنها ربما تنام بعض الوقت في المستشفى، وأنها ستضطر إلى البقاء معها، وعلى البنات أن يعدن فورا إلى السكن.

- هل يمكن أن نراها ؟

- دقائق فقط. 

تسللنا إلى الغرفة بحذر. كانت سميرة ممددة على السرير، وصديقها يجلس على مقربة، يمسك بيدها في مشهد رومانسي، أخذ بقلوبنا. كان شعرها مشوشا على المخدة، وقد ذهب الألم برونقها الذي كانت عليه أول المساء، وانطفأ بريق الفستان الذي يبدو الآن واسعا مهلهلا، حول جسد انكمش من شدة الوجع. وكانت سميرة في تهويمة بين اليقظة والنوم تردد بوهن:

- الحفل . . خذوني إلى الحفل.. إتركوني أذهب إلى الحفل.

ونحن ننسحب، الواحدة تلو الأخرى، خُيل إلي أنني لمحت دموعا في عيني فيفي، وزفرة مكتومة أطلقتها، وهي تغادر الغرفة. لحقتُ بها، ونظرتُ في وجهها، وسألتها:

- أما زلت حزينة لأنك لن تذهبي إلى الحفل؟

هزت رأسها نفيا. وسرنا بصمت حتى باب المستشفى، وهنا وقفت فيفي، والتفتت إلي، وقالت، وهي تصرّ على الحروف:

- هل تعرفين ماذا أكره الآن حقا؟ أن أرجع وأنظر في عينيّ نجوى!

**

 

الأحد، 17 أكتوبر 2021

تقرير يومي

قصة قصيرة 

 بثينة الناصري 

لمدة ثلاثة شهور، قبل تقاعدي، كُلِفت بمهمة مراقبة مشاغب سياسي، وكتابة تقارير يومية عن حركاته، وسكناته، وهي من المهام التي طالما قمت بها، طوال حياتي الوظيفية، خير قيام ولم يكن في الأفق ما يوحي، ولا كان يخطرعلى البال بأن هذا التكليف الأخير سيكون مختلفا عما سبقه.

تقرير أول

(إنه في الساعة الثامنة، من صباح يوم السبت 8/11/1995 إستلمت واجبي لمراقبة منزل المدعو حميد عبد الحق، الكائن في 4 شارع النصر. وقد نزل المذكور في الساعة التاسعة والنصف، وتمشى مسافة 200 متر باتجاه الشارع الرئيسي، ثم استقل سيارة اجرة. تبعته بأخرى، حتى توقف امام مبنى صحيفة (الحضارة)، وهبط وهبطت وراءه، وانتظرته خمس ساعات بالتمام، خرج بعدها مع إثنين من الشباب. أحدهما يضع نظارة طبية، والآخر له شارب كث. وقف الثلاثة يتحدثون حديثا لم أستطع الإقتراب، لأسمعه ثم ابتعد الشابان، ومشى المذكور باتجاه السوق، حيث توقف عند بائع فاكهة، واشترى تفاحا ثم أشار إلى سيارة اجرة، واستقلها وكنت وراءه حتى وصلنا البيت.

في تمام الساعة الخامسة مساء، جاء الشاب الذي يضع نظارات طبية، وتم ذكره آنفا، وهو يحمل حقيبة أوراق، ودخل المنزل، وخرج منه بعد 45 دقيقة. ولم يحدث شيء، حتى الساعة العاشرة مساء، حيث خرج المذكور، وهو يرتدي ملابس رياضية، وأخذ يمشي بسرعة، وأنا وراءه، حتى وصل الشارع الخلفي، فأخذ يعدوعدوا خفيفا، وأنا وراءه، من أول الشارع إلى آخره، ثم اجتاز عدة شوارع جانبية، حتى رجع إلى شارع النصر، ودخل المنزل، ولم يخرج منه بعد ذلك.)

كان صوت لهاثه يلفح اذني، وهو يجري أمامي، وأنا امشي بخطوة خفيفة سريعة، أكاد أكتم أنفاسي المتلاحقة، خشية أن يكتشف وجودي، حتى إذا ابتعد مسافة طويلة، وكاد يغيب عن نظري، في عطفة شارع جانبي، حثثت السير، وهرولت قليلا،على اطراف اصابعي، لئلا يحدث حذائي الحكومي، جلبة في هدأة الليل. وسرنا على هذا المنوال، خمسة أيام قبل أن تطرأ على ذهني فكرة. ضبطت الوقت الذي تستغرقه هرولة الساعة العاشرة اليومية فإذا هو 30 دقيقة. في الليلة التالية حينما غادر المنزل مساء، مرتديا ملابسه الرياضية، لبدتُ في مكاني الخفي، وعيني على ساعتي، وكما توقعت، ما أن مرت الدقيقة الثلاثون، حتى رأيته عائدا، متقطع الانفاس، فابتسمت وأنا اشكر الرجل في سري، على إلتزامه التام بروتينه اليومي. وفي تقارير الايام التالية، كنت أذكر خط مشوار الرجل الليلي، وكأني أتبعه أقرب اليه من ظله، حتى جاء يوم مَرّ فيه الوقت المحدد، دون أن يعود.

رفعت رأسي منتبها، وتلفت حولي مذعورا ونقرت ساعتي عدة مرات، لئلا تكون اختلت، ولكن مرت ساعة، ثم اقتربنا من منتصف الليل، وإذا به راجع، بطيء الخطو، هاديء النفس، يحمل رزمة، لم أتبينها، تحت إبطه. وَجمت في مكاني، حتى إني لم أتحسب لاحتمال أن يراني. أين كان خلال هاتين الساعتين؟ و ما الذي أتى به يحمله؟ كيف لي أن أعرف؟ وماذا سأكتب في تقرير ذلك اليوم؟

أخيرا لم أجد بدا من إغفال هذه السقطة، في التقرير، ولكني من يومها ماعدتُ أدعه يغيب عن ناظري لحظة واحدة.

كان المدعو حميد عبد الحق، طويل القامة، نحيف البنية، خفيف شعر مقدم الرأس، وفي عينيه الضيقتين، يلوح مكر ودهاء، ويغطي فمه الباسم دوما، شارب انيق، يختلط السواد فيه بالبياض.

تقرير

(إنه في الساعة التاسعة، من صباح يوم الجمعة 22/12/1995 وبعد استلامي واجبي بساعة، أطل موضوع المراقبة من نافذة علوية، ونادى فتحي البواب الذي انطلق داخل المبنى بسرعة، وبعد قليل، خرج وهو يقبض على بعض العملات النقدية ومشى باتجاه السوق. وعندما عاد قطعت الطريق عليه، وسألته سؤالا عابرا، وأنا أتفحص مايحمله. كيس يضم خمس بيضات، وكيس آخر، ملوث بآثار دهن طعام، وكان يتأبط جريدة لم أتبين إسمها ثم تركني، ودخل مسرعا.  قبل صلاة الجمعة وحين كان بعض شباب الحي يلعبون كرة القدم، في الشارع تحت المنزل رقم 4، كما هي عادتهم كل يوم جمعة، نزل المدعو حميد عبد الحق بملابسه الرياضية، وعندما سلم بصوت جهوري على الشباب، إلتفوا حوله، كان يطبطب على أكتافهم وهو يحدثهم حديثا طويلا دون أن أستطيع الإقتراب والإستماع. ثم فجأة إنقسم الشباب فريقين. إنضم المذكور إلى أحدهما، ولعب بخفة ومهارة، حتى أنه سجل خمسة أهداف قوية، وكان الشباب من كلا الفريقين، يهللون مع كل هدف، ويصفقون)

أخذتني قدماي إلى حيث يتحلق المتفرجون حول الملعب .. وجدتني أصفق بحماسة، لكل هدف يسجله حميد عبد الحق .. بل إني كنت أتلفت، وأنظر في العيون، وكأني أشهد الناس على ما يربطني به من صلة وثيقة .. وقد كان حقا يستحق الإعجاب بمهارته، وحيويته التي فاقت شبابا أصغر منه سنا. وكدتُ مرة أو مرتين، أبوح لجيراني المتفرجين بسرّ لياقته التي طالما أنهكتني الهرولة وراءه، كل مساء. بعد الهدف الأخير، رفع حميد ذراعيه وأعلن إعتزاله اللعب، وغادر راكضا نحو البيت.

لم أكن في عجلة من أمري . كنت أعرف إنه لا يخرج صباح الجمعة للصلاة أو أي مكان آخر وأني قد أنتظر، حتى هبوط الليل، قبل أن يطرأ جديد.

كان قد مر أكثر من شهر على مراقبتي إياه، حتى صرت أعرف كل تفاصيل حياته .. أصحابه ومريدوه ، طعامه وشرابه ..أعرف مثلا أنه يعيش وحيدا بلا أسرة، لكنه يعيش حياة إجتماعية حافلة .. يزور ويزار. أصدقاؤه من كل الاعمار .. غالبا ما يضع كفه على كتف الشاب منهم وهو يحدثه حديثا وديا. كان يقف على باب البيت دقائق طوالا، وهو يتحدث أو يستمع لرفيقه قبل أن يحييه، ويدلف إلى البيت. كان يتصرف، وكأنه يمتلك كل الوقت. فلم أره متعجلا سوى ساعة ذهابه إلى المكتب صباحا.

في أحيان كثيرة، كنت أسائل نفسي، إذا كان قد أحس بوجودي. ولكن إن كان قد فعل، فلم يبد عليه ذلك، ولم يغير شيئا من عاداته. وقد كان هذا يعذبني بشكل ما. كنت أتمنى لو إنه يراني ويعمل على مراوغتي .. هكذا يكون إعترافا منه بوجودي. ولكن أن يتصرف وكأني كائن غير مرئي، لايُحسب له حساب؟ لقد كان ذلك شيء أكثر مما يُحتمل. لقد راودتني نفسي أن أرتكب عمدا غلطة ما، لأعلن عن وجودي، وأحيانا أخرى، كنت أبكّت النفس لتهافتي، وأعجب كيف – بعد كل سنوات العمل الطويلة - تكون مشاعري بهذه الرخاوة! هل هو أثر التقدم في العمر؟ أم بسبب حقيقة أن هذه المهمة، هي الأخيرة قبل إحالتي على التقاعد؟ لا أدري ماذا حدث وكيف حدث.

لكن يُرضي ضميري أن تقاريري، كانت شاملة، وافية، لا تشوبها شائبة، أو نقصان، وإنْ وجدتُ أنه كلما ازدادت تقاريري اليومية تفصيلا، زاد تعلقي بالرجل – وكنت أرى في هذا غرابة لا تفسير لها، لاسيما وإنني حين استلمت المهمة، كنت قد حُذرت بحزم أن موضوع المراقبة شديد المكر والحيطة.

تقرير

(إنه في يوم 31/12/1995 الذي مر عاديا طوال الصباح، ولكن بعد صلاة العصر، كانت هناك حركة غير طبيعية في البيت رقم 4 شارع النصر. راح البواب وجاء اكثر من مرة محملا بالاطعمة والفاكهة – وقبل المغرب بقليل، هبط حميد عبد الحق، حاملا حقيبة جلدية، ومشى ناحية شارع جانبي، وتوقف عند احد البيوت المعروفة ببيع الخمور، بعيدا عن انظار الحكومة. دخل البيت، وخرج بعد قليل، مثقلا بقناني الخمر، كما يبدو واضحا من إنبعاج وإنتفاخ جلد الحقيبة، في اكثر من موضع.

في حوالي الساعة العاشرة مساء، تقاطرعلى البيت الكثير من الاشخاص .. وجوه كنت أعرف بعضها، وجاء بعضهم، برفقة نساء يرتدين ملابس سهرة)

تذكرت فجأة، أنه في هذه الليلة، يحتفل الناس بنهاية عام، وطلّة عام جديد. كان البرد شديدا. إلتففت بمعطفي الخفيف، ونفخت أنفاسا حارة في باطن كفي .. وأخذت أروح وأجيء لأبعث الدفء في أوصالي. إقتربت من النار التي أوقدها الحارس الليلي. حييته ووقفت أتدفأ. رد تحيتي باقتضاب ولم يسألني شيئا. كان قد تقبل وجودي، طوال الليالي الماضية، ويخيل إلي أنه كان يحدس مهمتي، واذ لم يجرؤ على سؤالي، فلابد أنه أدرك جهة عملي فآثر السلامة. تبادلنا حديثا قصيرا حول برودة الطقس، والمشاكل المتوقعة التي يمكن ان يثيرها السهارى، والسكارى هذه الليلة. حانت مني إلتفاتة إلى النافذة العلوية للبيت، فرأيت ظلال أشخاص تتحرك، عبر الضياء المنبعث من الثريا الكبيرة التي كنت أستطيع رؤيتها من مكاني. ولا أدري كيف راحت افكاري، لبيتي القابع في ذلك الحي الفقير. بيتنا الذي لا ينيره غير فانوس نفطي .. تراءت لي إمرأتي تغط في نومها بين أجساد أولادنا الخمسة، غائبة عما يحدث من سنة تمضي، وسنة تجيء. فالسنوات في بيتنا واحدة، بل حتى نهارنا يشبه ليلنا، لأن نور الله الذي يشع كل صباح على الخلق، لا يدخل البيت الغارق أبدا بالظلمة.

قطعت أفكاري انفجار ضحكات نسائية. رفعت رأسي إلى النافذة المضاءة، وابتسمت. كنت أحس بشكل غامض، أني جزء من هذا العالم الذي أضعه صوب أنظاري، ليلا ونهارا .. هذا العالم الذي صرت أعرف كل تفاصيله، كما أعرف مسام جلدي. فركتُ كفي في لهب نار الحارس الليلي، ثم حييته، وأنا أغادره إلى مكاني المعهود. كنت أريد أن أختلي بنفسي، وأنا أحدق، بكل جوارحي، في النافذة العليا. هل أرى حقيقة أم أنه خداع نظر؟ خيل إلي أني أرى ظلالا تتمايل على صوت الموسيقى الصادحة عبر الزجاج والجدران.

وفيما كانت عيناي تتسلقان النافذة في محاولة لاستجلاء مايحدث، إنطفأ النور، وساد ظلام عدة ثوان، ثم زعق الضوء مع هتافات، وتهليل، حتى غطى على صوت الموسيقى. تفحصت ساعتي. كانت الثانية عشرة. شعرت بالبهجة تغمرني. إذن هكذا ماتت السنة القديمة راحت بشرها وخيرها في طيّ الظلام، ومع انبلاج النور، ولدت سنة جديدة .. سنة خير إن شاء الله . كانت هذه هي المرة الاولى التي أكون فيها جزءا من هذا الحدث. وجدت نفسي أضحك ساخرا، وأنا أتذكر أم الأولاد التي تغفو الآن، غافلة عن الدنيا، ومايجري فيها.

ثم طرأ على ذهني أنه لا شيء تغير حقا فيها. أنا مازلت في موقعي تحت البيت رقم 4 .. كتبت عنه صحائف من التقارير في السنة التي ماتت، وسأكتب من الغد، مع بداية السنة الوليدة، تقارير اخرى. فما الذي تغير بالنسبة لي، أو بالنسبة لحميد عبد الحق؟ فإني موجود في لوح قدره، عبر سنة فاتت، وسنة قادمة .. ما أشد السخرية: أن يضحك الرجل، ويمرح هذه الليلة دون أن يعرف أن هناك رقيبا يحصي عليه أنفاسه! تراءى لي وجهه الباسم دوما، رغم عينيه الماكرتين .. شعرت بفيض من الألفة نحوه، وشيء من الأسى، وسمعت نفسي اتمتم:

"كل سنة وانت طيب. ياحميد يابن عبد الحق "

ولكن الأيام التي تلت كانت تحمل أكثر من جديد، فما أن مر اسبوعان، حتى بُلغت بانتهاء مهمتي. لم  أدر لحظتها، هل كان ذلك يعني رفع المراقبة؟ أم أن شخصا آخر قد حل محلي؟ لم يكن لي أن أسأل أكثر مما ينبغي. ولم توكل إلي مهمة اخرى، بل كان علي أن اقضي الأيام الباقية حتى تسوية راتبي التقاعدي بين جدران المديرية. في أول يوم بعيدا عن حميد عبد الحق، شعرتُ بافتقاد روتينه الذي صار نهج حياتي، لمدة ثلاثة شهور.

وقد قضيت ذلك اليوم، وأنا أكتب في خيالي تقارير وهمية .. الآن خرج إلى المكتب .. الآن عاد. هل إشترى اليوم تفاحا؟ لابد إنه يتهيأ الآن لرياضته اليومية. وأرى ابتسامته الهادئة، وهو يضع يده على كتف محدثه. وكان إحساسي بالضياع في الأيام التالية أشد حدة على غير المتوقع، فبدلا من الإنغماس مع جلبة العمل، داخل المديرية .. كان توقي إلى ذلك الروتين الذي غادرته مرغما يزداد شراسة.

وفي البيت سألتني إمرأتي:

- مالي أراك قلقا؟

- لاشيء. لكني غير معتاد على قضاء كل هذا الوقت في البيت.

- وماذا ستفعل إذن، لما تحال على التقاعد؟

تساءلتْ بنبرة ساخرة.

ولم يطل الوقت، حتى ألفيتني استيقظ ذات يوم، مع إدراك أن وقتا طويلا صار ملكي. بدأت أخرج إلى المقهى المجاور. كنت أجلس وأطلب شايا، وبعد قليل أشرع بالقلق وآخذ في استطلاع ساعتي، بين حين وآخر. لقد أزف موعد وصوله. وأظل أتململ على الكرسي، وأستعيذ بالله حتى أرغم نفسي على مغادرة المقهى إلى البيت.

ولكني في أحد الايام لم أطق صبرا. فعزمت أمرا. خرجت قبل الظهر بقليل، وعيني على الساعة. كان قد مضى أكثر من شهر على إنقطاعي عن ذلك البيت في شارع النصر، وكان علي أن ألحق ساعة رجوعه.

هبطت الشارع أخيرا، وكأني أعود إلى أهلي وناسي. تفرست في الوجوه التي أعرفها والتي مازالت كما عهدتها، وكأن شيئا لم يتغير. نظرت إلى الساعة. لم يبق إلا دقائق على وصوله، إذا كان مايزل ملتزما بنهجه. لم اشأ أن أتخفى في مكاني القديم. تمشيت على مهلي، ثم أعدت النظر إلى الساعة، ورفعت رأسي، فإذا بعيني تصطدمان بعينيه. كانت أول مرة تلتقي عيوننا. توقف كلانا ودون أن أدرك وجدتني أمد له يدي كما لو كان صديقا قديما :

- السلام عليكم. كيف الحال؟

صافحني باقتضاب، وهو يرد:

- وعليكم السلام.. وكيف حالك ياعم صالح؟

كانت المفاجأة حقيقية:

- الله؟ تعرفني وتعرف اسمي؟     

شملني بعينيه الماكرتين، وهو يقول:

- صالح عبد الصمد.. متزوج وعندك خمسة أولاد وأُحلت على التقاعد من إسبوع.

هتفت بدهشة:

- ولكن تعرف كل شيء عني؟

ضحك، وقال، وهو يضع يده على كتفي:

- لقد افتقدناك يارجل.. كيف الحال؟

**

نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) الصادرة في القاهرة وبغداد 1998


الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما