‏إظهار الرسائل ذات التسميات سيارة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سيارة. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 27 نوفمبر 2022

السيارات الصغيرة الشجاعة

كتب باء

أخيرا تخلصت منها .. سيارتي الصغيرة الشجاعة . لم يكن لصبرها وعنادها حدود.
أذكر أني أول ما اشتريتها قبل عشر سنوات خرجت بها إلى الشارع باندفاع سرعان ماكسرتْ حدته كتلُ السيارات الضخمة  الزاحفة بإصرار وكأن تراصّها أذرع إخطبوط ملونة هائلة تنمو وتنتشر في كل الدروب .

وعندما حشرت سيارتي وسط هذا الزحف الهادر أدركت  على الفور أي مأزق وضعت نفسي فيه ، ومن يومها  انضمت سيارتي إلى  إسطول السيارات الصغيرة الشجاعة التي تدب على الأرض بعناد السلاحف رغم إتفاق الجميع على تجاهلها .

كان مروق سيارة كبيرة مسرعة إلى جانب سيارتي كفيلا بأن يهزها كما تهز الطفل في المهد، فأنزوي بها مبتعدا ليخرق أذني نفير صارخ من الجانب الآخر لسيارة نقل أكاد أندفع الى حجرها ، وتظل السيارة الشجاعة تتطوح ذات اليمين وذات الشمال والسائقون ينظرون إليها باستخفاف وهم يهزون رؤوسهم تعجبا أن يُسمح لمثل هذا المسخ الضئيل أن يزحم  الطريق.

عندما إمتلكت سيارة أكبر فيما بعد، إكتشفت بما لا يترك مجالا للشك أن للسيارات الكبيرة قانونها الخاص فهي تعامل بعضها بإحترام لاتخطئه عين، بل إنك قد تجد واحدة تتأخر تأدبا لتفسح الطريق لأخرى، في حين لا تجد السيارة الصغيرة أية بادرة عطف، بل يزاحمها  الكبار حتى تضطر لصعود الرصيف أو كما فعلت سيارتي حين ظلت سيارة نقل ضخمة تطاردها وترتمي عليها حتى تكاد تلتهمها ، فما كان من سيارتي إلا أن قفزت على سلم المشاة. ومثل كل الأخطاء التي ترتكب بحسن نية، كان ذلك هو الخطأ الذي أودى بها.
لم أكن أريد بيعها أول الأمر، فما كان علي هينّا أن أتخلى عن تلك المحدودبة الخضراء التي عاشت معي الحلو والمر طوال عشر سنوات لم تمر دون أن تترك فيها العديد من خدوش الأقدار وطعنات الغدر .

وهكذا قبل أن أسلمها لعيون الراغبين ذهبت بها إلى الورشة حيث جليت كالعروس، ولكني لما أخذتها ليلا فاتني أن الصانع لم يحسن صنعته من الداخل ، فكان الرجل من هؤلاء يعجب لمرأها حتى إذا فتح غطاءها لقطت عيناه عيبا فيهز رأسه ويمشي أو يعرض سعرا هابطا بغير حماس. ولما طال الأمر وتجاوز أياما بل شهورا وبدأت المسألة تأخذ شكلا آخر .. صرتُ أنظرإليها بعيون الآخرين . فتلاشت ومضة الإعتزاز من عيني وبدا لونها كابيا ، وصار همّي أن أتخلص منها بأسرع وقت وبأي ثمن . وكان نهاية حدود إحتمالي ماحدث في آخر رحلة لنا معا على الطريق الصحراوي.

كنا على الطريق الصحراوي كما قلت. وكانت تسبقنا مقطورة لا أول لها ولا آخر ، وفي لحظة الإقتراب منها أعلنت المقطورة بضوء الإشارة الخلفي رغبتها في الإنحراف يسارا . ولا أدري أي شيطان أوحى  لي ونحن نكاد نلحق بها بأننا نستطيع أن نتعداها، فضغطت على دواسة البنزين ومضيت بأعلى سرعة السيارة وقد تعلقت يدي بالنفير . ولما جاوزنا مؤخرة المقطورة بقليل.. إنتبه سائقها فأشار لي بيده أن أتجاوزه وعدل من مساره منتظرا مرورنا.. ولكن ونحن نغذ السير وسيارتي تبذل أقصى ما عندها وتجاهد لتمر مرورا مشرفا .. دون فائدة .. وبعد لأيْ وصلنا منتصف المقطورة .. ومازال السائق يوميء بيده ولكن صبره فيما يبدو قد بلغ منتهاه ونحن بالكاد نقترب من المقدمة .. وفي اللحظة التي أوشكنا فيها ان نحاذيه ، قرر فجأة الإنحراف الى اليسار وكادت تقع الواقعة لولا أننا انزوينا جانبا وأغمضت عيني منتظرا أن يلطّ  ذيلُ المقطورة سيارتي .. ولكنه مرق برشاقة واندفع هادرا وسط الطريق فيما جلست أنا مكسور النفس غارقا بأفكار كئيبة محصورا بحدود سيارتي التي اكتشفت ساعتها كم هي صغيرة وخانقة ..

المدن غابات تجوب شوارعها وحوش معدنية ملونة .. زاهية احيانا، كالحة احيانا ، ومنذ أن تدحرجت أول عجلة على أرض التاريخ ، سلّم الإنسان نفسه لها وانصهر داخل معادنها وصار ينتمي لها ويكنى بإسمها . فإن تهبط من مركبة فخمة غير أن تنسلّ من سيارة صغيرة . لما  انتهيت عند هذه النقطة من التفكير .. إنطلقت باتجاه المدينة وقد عزمت أمري .
**
الرجل الذي وافق أن يشتريها عرض نصف الثمن الذي طلبت . كان رجلا جلفا .. فظا ، حاول أن يسفّه كل شيء فيها . وبدا كأنه يشتريها مرغما كما لو كانت قدره ، وفي اللحظة التي وضعت نقوده في جيبي ودفعت له مفاتيحها مترددا وجلس امام المقود ، لم تطاوعه السيارة.. إيماءة احتجاج أخيرة ولاشك .
إنتفض الرجل خارجا منها ، لاعنا ، فقلت بصوت ضعيف:
-        إدفعها قليلا .
صاح وهو يستعين بالمارة :
-        أدفع؟ وأنا قد دفعت فيها المئات ؟

مسحت بيدي على ظهرها الأخضر المحدودب على ذكرياتنا . ولوهلة أوشكت أن أرمي بنقوده في وجهه، لولا أن تكالب عليها إثنان يجبرانها على  السير. فانطلقت والرجل الغريب بداخلها . وكان ذلك المشهد المزري آخر عهدي بها .
++

* نشرت في مجموعة ( وطن آخر) الصادرة عن سينا للنشر - القاهرة 1994

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما