الاثنين، 12 سبتمبر 2022

الحفل الغنائي

 تأليف: بثينة الناصري

 


يجيء صوت عم فتحي البواب خشنا، يخترق زجاج النافذة، والغطاء الذي يلفّ أحلامي. 

-  سعاد . . سعاد .

ومثل كل صباح، أعرف أن الساعة هي السابعة تماما.

- نعم . . ياعم فتحي . صباح الخير .

وأن المشرفة سعاد سترمي إليه المفتاح، ليفتح الباب الحديدي الكبيرلبيت الطالبات وأن أمامي ساعتين كاملتين قبل موعد الجامعة، ساعتين لأتقلب وأغرق في هذا الترف على السرير الحديدي الصديء. 

تتحرك فيفي تحت الغطاء " الله يخرب بيوتكم. دعونا ننام"

فيما تنهض نجوى، تضع المنشفة على كتفها وتهز فيفي:" هيا . . نلحق طابور الحمام". وتلقي نظرة عليّ وهي خارجة وتصبّحني بالخير .

في هذه اللحظة ينطلق صوت في زعيق أوبرالي. وتغمغم فيفي بغضب "على الصبح ياسميرة ؟" فأضحك وأقول:" دعيها تدرب صوتها. هيا إنهضي يا فيفي" فترد "حتى انت؟ والله لأترك لكما المكان"

ثم تزيح الغطاء عن وجهها وتبتسم "صباح الخير". 

يطل رأس من الباب: 

-  صباح الخير يابنات .

-  أهلا سميرة . . تعالي .

تقف في وسط الغرفة وتقول :

-  سأغني الليلة في حفل فرقة الموسيقى العربية. هل تأتين يابنات؟ هذه أول مرة أغني سولو. لابد أن تأتي يابثينة. وأنت ايضا يافيفي.

قلت بحماس:

-  طبعا ياسميرة. هذا واجب.

-  تصوري يابثينة . . يقف مذيع الحفل ليقول: والآن نقدم المطربة . . لا . . الفنانة الصاعدة : سميرة سالم . . كيف ترين وقع الاسم؟ سميرة سالم .. 

وترسم بيدها حركة في الهواء، وهي تردد حالمة: سميرة سالم. 

سألتها فيفي: 

- لن نستطيع أن نتأخر في الرجوع . هل استأذنت سعاد؟

قالت سميرة وهي تخرج بحركة مسرحية :

- سعاد مدعوة ايضا. هذا يوم غير كل الأيام يابنات.

قفزت فيفي من الفراش وقالت:

- رائع . ولكن يجب أن تقرضيني فستانك يا بثينة.

تأملت جسدها الممتليء وقلت بحيرة :

- لا أدري.

ولكنها أسرعت إلى الدولاب المشترك، واستلت الفستان من الشماعة. وفيما كانت تحشر جسدها فيه، دخلت نجوى وقالت بعد أن استمعت إلى الخبر: 

- كلام فارغ  لن أذهب طبعا. سأبقى لأراجع دروسي. الإمتحان على الأبواب.

ردت فيفي وهي تتأمل نفسها في المرآة:

- معقدة. خلي الكتب تنفعك .

قلت وأنا أحاول إقناعها :

- ساعة من الزمان لن تؤثرعلى دراستك، ثم أن سميرة تحتاج إلى مشجعين.

قالت وهي تهز كتفيها:

- كفاية أني أستمع لها هنا. ثم من يدري، ربما يطلبني خطيبي أو أهلي من البلد.

صاحت فيفي:

- إتركيها . . لاتتعبي نفسك معها . . هه؟ مارأيك بالفستان؟ 

**

بعد الظهر كان بيت الطالبات يموج بالحركة. البنات يخرجن من غرفة إلى اخرى . واحدة تقترض عطرا، وأخرى تستعرض فستانا. أبواب تصطفق . تنطلق ضحكات وصيحات مرحة وآهات إعجاب، وأمام باب الحمام، كان ثمة فتيات يذرعن الأرض بنفاد صبر.

جلست فيفي وسط الغرفة تنتزع شعر ساقيها بهمة ودأب .

علّقت نجوى بامتعاض:

-  كل هذا التعب من أجل ساعة من الزمان؟

ردت فيفي ضاحكة:

-  من يدري؟ يمكن ألتقي بالنصيب! 

قلت:

- ولكن يا فيفي الفستان طويل يغطي ساقيك.

قالت وهي تنظر إلى نجوى معابثة:

-  ومن يدري؟ ربما أكشف عن ساقيّ لأي سبب. 

 أخفت نجوى وجهها الذي احمرّ خلف الكتاب ولم ترد. وفي هذه اللحظة إندفعت إلى الغرفة جارتنا فريدة، وقد تناثر شعرها القصير حول رأسها، وقالت وهي ترفع خصلة منه إلى الأعلى، وتلوح بالفرشاة.

-  نجوى حبيبتي .. إرفعي لي شعري شنيون مثل آخر مرة .

تناولت نجوى الفرشاة بصمت وابتدأت ترفع شعرها بيدين حاذقتين . 

تساءلت فريدة : 

- هل رأيتن سميرة؟ لقد ارتدت فستانا رائعا لونه أزرق ومشغول بخيوط فضية على الصدر.

وهمست وهي تضيف: إشتراه لها صديقها الأردني.

أطلقت فيفي صفيرا: كم أتمنى أن أراه.

سألتها فريدة بخبث:

- صديقها أم الفستان؟

انبرت نجوى:

- خطيبها ياجماعة.

قالت فريدة:

- ليست هناك خطوبة رسمية. المهم إننا سنراه الليلة فهو الذي سيأخذ سميرة بسيارته إلى الحفل.

تساءلتُ:

- وماذا عنا؟ كيف نذهب؟

- بسيارات اجرة .

صاحت فيفي:

- يخرب بيوتهم. لن نذهب على حسابنا طبعا.

قالت نجوى، وهي تضع اللمسات الاخيرة على شعر فريدة : كلام فارغ ! 

**

لم أتردد طويلا أمام دولاب الملابس، فبعد أن اختالت فيفي بأحسن مالديّ، لم يعد هناك سوى الفستان الحريري الرمادي ذي الورود الصفراء الصغيرة، وهو لا يناسب تماما حفلا ليليا، ولكني عزمت على أن أرتدي معه العقد الذي تزينه حبات سود لامعة. 

لعلع صوت المشرفة سعاد:

-  إسرعن يابنات لم يعد لدينا وقت. 

أطلت برأسها داخل الغرفة :

- لا تكثرن من الزينة يابنات. وماهذا الفستان يافيفي؟ لست ذاهبة إلى حفل زفاف.

توقفت فيفي عن تكحيل عينيها بحركة أحسست معها بمحاولتها اليائسة لكظم غيضها، وما أن اختفى رأس المشرفة حتى قالت بغضب:

-  يخرب بيتها. نكدت علينا هذا اليوم المفترج. 

علّقت نجوى :

 -وهل رأيت فستانها هي؟ ضيق وبدون أكمام وكأنها ذاهبة إلى حفل راقص، استغفر الله.  

قالت فيفي وهي تدور حول نفسها:

- حلوة. أليس كذلك ؟ 

قلت وأنا أسحبها من يدها:

- دعينا نلحق الحفل. 

**

بدت سميرة سالم في أبهى منظر، وقد تعودنا على رؤيتها كل يوم بملابس النوم. لم تكن جميلة ولكن وجهها كان من تلك الوجوه الأليفة التي تحس لأول وهلة بأنك تعرفها منذ زمن قديم. أما الآن فقد كان يكسو ملامحها جمال أخاذ، ربما مبعثه إحساسها الطاغي بأنها نجمة حفل الليلة، أو ربما كان انعكاس الخيوط الفضية التي تحلي فستانها الازرق. كان جمالها في تلك اللحظة التي خرجت فيها من غرفتها آسرا ملأنا بالشعور بالضآلة أمامها. وازداد هذا الشعور حدة، ونحن نرى، مأخوذات، شابا ممشوقا بالغ الوسامة يهرع من سيارة حمراء صغيرة، ويتقدم إليها. يمسك يدها بخشوع ويقودها إلى السيارة ،ويساعدها على الجلوس، وكأنها ملكة متوجة . 

أفقنا من سحر المشهد على صوت عم فتحي البواب وهو يهيب بنا أن نركب سيارتيْ الأجرة اللتين أوقفهما، وكنا اثنتي عشرة فتاة. انحشرنا فيهما، ونادت سعاد قبل ان تتحرك السيارات: 

- اقفل الباب في الساعة الثامنة مثل كل يوم ياعم فتحي، وإذا تأخرنا سأفتح بمفتاحي. 

شرع الموكب في السير. كنا نشرئب برؤوسنا نحاول أن نستكشف مايجري في السيارة الصغيرة الحمراء، والحسد يأكلنا، خشية أن نجد يده على ظهرها أو رأسها على كتفه. ولكن خوفنا لم يكن له مبرر، فقد كانت سميرة تجلس جامدة تحدق في الطريق أمامها، وبين الحين والآخر، كنا نرى جانب وجه صديقها الوسيم وهو يلتفت اليها ليقول شيئا ما. وبعد مدة وجيزة، مللنا النظر إليها، وانشغلنا بتفحص بعضنا.

لكزتُ فريدة الجالسة قرب النافذة من الناحية الاخرى، وقلت : 

-  شعرك جميل وانت ترفعينه هكذا.

 ابتسمت بسعادة:

- شكرا والفضل لنجوى . ترى لماذا لم تأت معنا؟

ردت فيفي: تخشى ان يتصل خطيبها من البلد فلا يجدها. 

تساءلت فريدة :

- وماذا في ذلك؟ 

قالت فيفي باستنكار:

- انك لا تعرفينه. إنه يحرم عليها الخروج من السكن لغير الجامعة مهما كانت الأسباب. 

فتحتُ زجاج النافذة، وتنفست هواء الليل بعمق وقلت:

- الحمد لله على أننا مانزال على البر. لا خطوبة ولا زواج ! 

التفتت المشرفة سعاد من مجلسها قرب السائق قائلة:

- أجل والله يابنات. أنتن في نعمة إحمدن الله عليها .

ضحكت فيفي، وقالت، وهي تغمزني بطرف عينها:

- يارب أزل عنا هذه النعمة!

فجأة توقفت السيارة التي تقلنا.

- وصلنا؟ 

رد السائق، وهو يشير إلى الأمام:

- كلا، ولكن السيارة الاخرى تعطلت .. هناك شيء!

كانت السيارة الصغيرة الحمراء قد توقفت بمحاذاة الرصيف ونزل الشاب واقترب من المشرفة سعاد وقال:

- سميرة مريضة جدا.

-  ماذا حدث ؟

-  أظن عندها مغص كلوي حاد، ويجب أن نأخذها إلى أقرب مستشفى. 

وفيما أصابنا الوجوم. خرجت بعض الفتيات من سيارتيْ الأجرة، يجرين نحو سميرة وبعضهن تحلقن حول صديقها الذي قال موجها كلامه إلى سائقنا :

- هل تعرف أين أقرب مستشفى؟

لكزتني فيفي قائلة:

- من الواجب أن نذهب لنرى سميرة .

وهكذا نزلنا من السيارة، واقتربنا من لمّة الفتيات حول السيارة الصغيرة، واستطعت أن أرى من النافذة الجانبية، سميرة وهي تتلوى ألما فأحسست بالأسى، وقلت لفيفي:

- حسدناها. 

ولم تجب، فقد كانت عيناها تتعلقان بالشاب الممشوق، تحاول أن تجذب انتباهه، فيما كان يحاول أن يجد طريقه إلى باب السيارة، وهو يقول:

- سنذهب إلى المستشفى.

سحبتُ فيفي من يدها وهي تتمتم حانقة:

- يخرب بيوتكم. كل هذا اللبس والزينة للمستشفى؟ 

وانطلق الموكب من جديد، ولكن في طريق آخر هذه المرة.

ران صمت يائس على من في السيارة قطعته سعاد قائلة:

- مسكينة سميرة. حظها سيء!

صاحت فيفي:

- والله .. نحن المساكين ! 

قلت:

- اسكتي يافيفي . كانت هذه اول فرصة حقيقية لها.  

ثم استغرقتني فكرة كم الأشياء التي نجهلها عن بعضنا، برغم أننا نعيش في بيت واحد لايفصلناعن بعض سوى جدران رقيقة ! من كان يصدق أن سميرة التي ينطلق صوتها الأوبرالي بقوة كل صباح، وهي تقف في طابور الحمام أو ظهرا، وهي تحضر غداءها . . من يصدق أنها تعاني من مرض كلوي، وهي لما تخط بعد أولى خطواتها في طريق مستقبلها؟. وما أقسى أن يفاجئها المرض وهي في أبهى حالاتها وهي على بعد خطوات من لحظة طالما انتظرتها، ثم أن ينطفيء تألقها، وتتلوى متوجعة في حضرة الرجل الذي تحب! أي حظ هذا! انتبهت من أفكاري على توقف السيارة. 

-  المستشفى أخيرا. 

هرولت الفتيات إلى سميرة، وأحطنها وأخذن بيدها، وهي مطوية الظهر تكاد تنكفيء على وجهها من شدة الالم، فيما قفز صديقها سلالم المستشفى يسأل بلهفة عن الطبيب. 

بعد لحظات طويلة خرجت سعاد من غرفة الطبيب، وأخبرتنا أن سميرة قد حُقنت بمادة مسكنة، وأنها ربما تنام بعض الوقت في المستشفى، وأنها ستضطر إلى البقاء معها، وعلى البنات أن يعدن فورا إلى السكن.

- هل يمكن أن نراها ؟

- دقائق فقط. 

تسللنا إلى الغرفة بحذر. كانت سميرة ممددة على السرير، وصديقها يجلس على مقربة، يمسك بيدها في مشهد رومانسي، أخذ بقلوبنا. كان شعرها مشوشا على المخدة، وقد ذهب الألم برونقها الذي كانت عليه أول المساء، وانطفأ بريق الفستان الذي يبدو الآن واسعا مهلهلا، حول جسد انكمش من شدة الوجع. وكانت سميرة في تهويمة بين اليقظة والنوم تردد بوهن:

- الحفل . . خذوني إلى الحفل.. إتركوني أذهب إلى الحفل.

ونحن ننسحب، الواحدة تلو الأخرى، خُيل إلي أنني لمحت دموعا في عيني فيفي، وزفرة مكتومة أطلقتها، وهي تغادر الغرفة. لحقتُ بها، ونظرتُ في وجهها، وسألتها:

- أما زلت حزينة لأنك لن تذهبي إلى الحفل؟

هزت رأسها نفيا. وسرنا بصمت حتى باب المستشفى، وهنا وقفت فيفي، والتفتت إلي، وقالت، وهي تصرّ على الحروف:

- هل تعرفين ماذا أكره الآن حقا؟ أن أرجع وأنظر في عينيّ نجوى!

**

 

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما