الجمعة، 21 يناير 2022

أسرار رسمية

 


أسرار رسمية

         كاثرين غان ترتدي زيا من تصميم فنان عراقي 
تقف على السجادة الحمراء مع الممثلة كيرا نايتلي التي قامت بدورها 
في فيلم (اسرار رسمية)

بقلم كاثرين غان

ترجمة: بثينة الناصري

لم اكن اتصور ان اختار فستانا للظهور على سجادة حمراء في مهرجان افلام كبير. الجماهير الهاتفة لم تكن غايتي ابدا. وإذا كان قد قيل لي - قبل 16 سنة - انه في يوم ما سوف تشخص قصة حياتي الممثلة كيرا نايتلي، لضحكت وغيرت الموضوع.
الإهتمام الجماهيري هو آخر شيء تتوقعه إذا كنت مثلي قد اخترت وظيفة في عالم  المخابرات البريطانية الغامض.
هذه ثاني لحظة قصيرة للشهرة. فمنذ 16 سنة، اصبحت عنوانا اخباريا عريضا بعد ان سربت رسالة الكترونية داخلية من مكتب الاتصالات الحكومية (وكالة استخبارات بريطانية) قرب تشلتنهام. GCHQ
كنت مجرد محللة مبتدئة ولكني عرفت ان الايميل كان مستفزا. كانت الحكومة الامريكية تطلب من بريطانيا التجسس على دبلوماسيي الأمم المتحدة حتى يمكن ابتزازهم للموافقة على غزو العراق. 
وقد اعترفت بالتسريب وانقلبت حياتي رأسا على عقب. ومع هذا الى يومنا هذا لن نجد ذكرا لطلب نظام بوش المشين في وثائق المرحلة الرسمية وكأنه حذف عمدا من التاريخ.
الان فقط بعد اكثر من عقد ونصف من السنين، يتلقى تتابع الاحداث المشين هذا مرة اخرى الانتباه الذي يستحقه بفضل فيلم (اسرار رسمية) وهو فيلم جديد عبقري تمثله كيرا ومات سمث الذي عرف سابقا بدور Doctor Who
كان عمري 27 سنة حين بدأت الاحداث. كنت سعيدة وخالية من الهم، وكنت قد تزوجت لتوي من زوجي الوسيم (زوجها تركي كردي يحمل اسم يسار غان) واعمل في المركز مترجمة (لغوية). كانت مهمتي ان استمع الى المحادثات الصينية واترجمها من الماندارين الى الانجليزية واكتب تقارير لإدارات حكومية مختلفة.
وبطبيعة  الحال كنت متحفظة. لا احد من اصدقائي او عائلتي يعرف ما افعله طوال اليوم. وكنت طبعا قد وقعت على قانون الاسرار الرسمية، وانا مقتنعة بأني اعمل ضمن قانون لحماية بريطانيا.
ولكن كل هذه الأوهام تبخرت في صباح يوم جمعة قارس البرودة، المصادف 31 يناير 2003 وانا اقرأ واعيد قراءة رسالة الكترونية شديدة الغرابة لم يصادفني مثلها من قبل، من مركز الاستخبارات الامريكية، وكالة الأمن القومي.
كانت مكتوبة بلغة تقنية لكن المعنى كان واضحا: كان الامريكان يسألون حوالي 100 شخصا في GCHQ لجمع معلومات من الاتصالات التي يقوم بها دبلوماسيون من 6 دول : انجولا – بلغاريا- الكاميرون- تيشلي – غينيا – وباكستان، وكلها دول عضوة في مجلس الامن التابع للأمم المتحدة.
كان علينا ان نراقب النداءات التليفونية والمراسلات من منازلهم إضافة الى اماكن عملهم.
السبب؟ تقنيا، كان الامريكان يريدون كل المعلومات التي تتيح لصانع السياسة الامريكية ان يحصل على نتائج تفيد الأهداف الامريكية في علاقتها بالعراق.
بمعنى آخر ان المطلوب من مركزنا ان ينبش في اوساخ اسرار الدبلوماسيين الاجانب حتى يمكن ابتزازهم او رشوتهم او معا من  أجل الحصول على قرار من الامم المتحدة يصادق على الغزو.
ما أن ادركت المطلوب حتى تحولت صدمتي  الى غضب.
كانت الرسالة توضح الهوة الذي يمكن ان تهبط اليه الحكومتان الامريكية والبريطانية من اجل الحصل على غطاء قانوني للحرب في الشرق الاوسط والتي سيكون لها بالتأكيد آثار كارثية كما نعلم الان علم اليقين مداها.
كانت هذه الرسالة من الاهمية بحيث كان يمكنها ان تبطل جهود توني بلير للذهاب مع الأمريكان في عملية غزو. كان قراري بتسريب الرسالة فوري حيث شعرت  انه ليس امامي اختيار آخر.
وخلال الاسبوع كان علي ان اعمل. اولا اتصلت بشخص – حتى هذا اليوم لم ابح باسماء من اتصلت بهم- يعرف تفاصيل صحفي وناشط ضد الحرب. ثم في يوم الاثنين التالي، طبعت نسخة من الرسالة. طويتها واخفيتها بعناية في حقيبتي، وحين انتهى وقت العمل، حاولت ان اتظاهر بهدوء لا اشعر به، وخرجت من البوابات ووضعت الرسالة المهمة في صندوق البريد.
في البداية لم اسمع شيئا. في الواقع لم تكن لدي فكرة عما سيحدث. فيما بعد قدرت المدى الذي ذهب اليه الصحفيون -مارتن برايت وبيتر بومونت وايد فليامي- من اجل اثبات ان الايميل كان اصليا وليس مزيفا.
حتى اني فكرت بسذاجة اني سوف استطيع حماية مجهوليتي، فكرت ان الايميل لو نشر في الصحف فلن يعدو ان يكون ملخصا متحفظا له.
ولهذا في اول يوم احد من مارس 2003 حين ظهرت الرسالة المسربة على الصفحة الالى من الاوبزرفر، كانت صدمة هائلة لي. لم ينشروا تلميحا مشفرا عن الموضوع وانما كان الايميل بكامله منشورا. قضيت الساعات التالية مطوية الجسد فوق حوض التواليت في الحمام برعب تام. كنت في معضلة مستحيلة. قد بدأ تحقيق شامل حالما بدأ الموظفون يتوافدون على المركز صباح الاثنين. تم التحقيق مع كل واحد من المائة التي وصلتهم الرسالة، وحين جاء دوري، ادخلوني مكتبا جانبيا صغيرا حيث واجهت المحقق الأمني، واضعة قناع البراءة على وجهي وأنكرت كل علاقة .
لسوء الحظ ربما، عندي ضمير واخذ كذبي ينهشني حتى اليوم التالي حيث اعترفت.
لا اعرف إذا كانوا سيكشفوني في النهاية، ولكن الحقيقة اني لا استطيع ان اعيش كذبة الى الأبد. لقد غُرس فيّ منذ طفولتي الصدق والشعور بالمسؤولية.
اعتقلت لانتهاك المادة واحد من قانون الاسرار الرسمية لعام 1989 واودعت في زنزانة في قبو مركز شرطة تشيلتنهام لليلة واحدة. وبعد سؤال الشرطة لي حيث كررت اعترافي، تم الإفراج عني بكفالة في انتظار قرار دائرة الادعاء الملكية.
 مرت الايام والاسابيع ببطء موجع، ثم في نوفمبر التالي بعد ثمانية شهور من القلق، تم توجيه  الإتهام اليّ. وكانت منظمة ليبرتي للحقوق المدنية وبن اميرسون قد وافقا على الدفاع عني وتحضرنا للمحاكمة. ورغم المجازفة بالحصول على حكم اقسى، قررت ان ادعي بعدم الذنب لأني شعرت بقوة ان افعالي كانت تهدف لمنع خسارات غير ضرورية للحياة في حرب غير قانونية.
بل اننا حتى وصلنا الى المحكمة الجنائية المركزية (اولد بيلي) وحين حانت اللحظة، وجدت نفسي اقف وحدي في قفص الاتهام امام القاضي محاطة بالمحامين والصحفيين والمؤيدين.
وهناك لدهشتي وبدون اي انذار، اسقط المدعي العام كل التهم حتى قبل ان تبدأ المحاكمة. فجأة كنت حرة ومشوشة.
ومع كل الارتياح، كان هناك احساس غريب بالإحباط حيث لم نكن في تلك اللحظة نستطيع ان نقدم وجهة نظرنا من القصة للجمهور. كنا قد خططنا ان نطالب بأن يكشف المدعي العام اللورد غولدسمث عن الاستشارة التي قدمها حول مشروعية الحرب وكنا هكذا سنضع الحرب نفسها في قفص الاتهام.
لا عجب إذن ان قررت حكومة توني بلير ان تترك القضية بدون تقديم اي ادلة. فيما بعد، اتضح ان المدعي العام كان بالفعل قد حكم على ان الحرب غير قانونية في استشارته الاساسية ولكن تلك الحقيقة لم تكشف إلا بعد ست سنوات في عام 2010. ربما توقعوا ان يظهر في المحكمة ان كل الصراع كان مبنيا على اكاذيب حول اسلحة الدمار الشامل لدى صدام وان المسؤولين في الامم المتحدة قد تم ابتزازهم.
ارى ان كل هذا كان يجب الافصاح عنه والاعتراف به كجزء من تاريخ حرب الخليج الثانية. وتذكروا ان هذه كانت حربا تسببت في موت 179 جنديا بريطانيا ومئات الالوف من العراقيين وتسببت في ما لانهاية من الجراح الشديدة جسدية ونفسية.
الى هذا اليوم، لم اجد ذكرا للسنة التي قضيتها تحت الضباب. ولم يذكرها اي تقرير حكومي حول الحرب ولا كتب التاريخ. ولهذا حين اجد القضية تقدم على  الشاشة الكبيرة كان شيئا رائعا ومدهشا في نفس الوقت.
ربما تقولون اني غير محايدة. فهذه هي قصة حول حياتي وتسريباتي على اية حال ومازلت اؤمن بقوة بالقضية. ومع هذا اعتقد ان الممثلة كيرا جسدت بشكل تام التوتر الذي كنت اعيشه والعزلة والخوف.
ويجسد الفيلم ايضا اصراري على فعل ما اؤمن بأنه صحيح ويكشف كم كانت حرب العراق مخادعة خاصة يعكس الفيلم الغضب داخل اقسام معينة من ادارات الاستخبارات حين كانت البيانات الجعجاعة والمهددة من السيد بلير والمتحدث الرسمي له الاستير كامبل، تمر بدون التحدي المناسب من قبل الإعلام.
 واشعر بالامتنان ايضا للفيلم لاظهاره الحب والدعم من زوجي خلال المحنة. بعد الهوجة الاولية لاهتمام الاعلام ، تُركت لأقرر كيف استمر في حياتي وكان هذا صعبا. كنت سعيدة بأن اعود  الى ما أملت انه الحياة الطبيعية ، ولكن التأثير علي كان كارثيا.
لم تكن القضية والقلق الذي نتج عنها بعيدا ابدا.
في السنوات التالية اتصلت بين مؤلفة اسمها مارسيا ميتشيل وقالت انها متحمسة لتأليف كتاب عن قضيتي. وقد تحول هذا الكتاب الى سيناريو الفيلم.
أحيانا تكون الافلام وسيلة مؤثرة لجعل القصص المنسية جزءا من تاريخنا الوطني، وبهذا المعنى ، يأتي فيلم (الاسرار الرسمية) في الوقت المناسب تماما.
تأثرت بإصرار صانعي الفيلم على الالتزام بالوقائع. وقد قابلني المخرج جافن هود وتحاور معي طويلا على مدى خمسة ايام وكان يستشيرني خلال عملية صنع الفيلم كلها.
إن القضايا المركزية في حماية المبلغين، والتسريبات التي تهم الشعب وحرية الصحافة ومسؤولية ممثلينا المنتخبين، تظل مهمة ومحط اهتمام في كل الاوقات.
لو كان الفيلم ظهر قبل ذلك لما كنت سأستطيع مشاهدته ، ناهيك عن مساعدة صناعه. وعلى مدى عدة سنوات كان مجرد استذكار الاحداث يسرع من نبض قلبي ورعشة يدي. اعود فورا الى مركز الاستخبارات وذلك الايميل والغضب الذي شعرت به والقرارات التي اتخذتها.
والحمد لله، الزمن يمر ، وحِدة المشاعر تتلاشى. اصبحت اما، وسافرنا للعديد من البلدان وتصالحت مع تلك السنة من حياتي، رغم انها ستظل تعبر عني بشكل من الاشكال.
حين عرض الفيلم العرض الاول البريطاني في مهرجان الفيلم BFI في لندن بداية هذا الشهر (نوفمبر 2019) قررت ان  ارتدي شيئا يحمل معنى خاصا واخترت فستانا لمصمم عراقي. بالنسبة لي كانت طريقة   لإظهار أنه لا يمكن اعتبار العراق عرضًا مرعبًا للمعاناة فقط، ولكنه ثقافة قديمة ومتطورة تعود إلى آلاف السنين.  وبينما كنت أسير على السجادة الحمراء، لم أشاهد في حياتي مثل وميض هذا العدد من الكاميرات. كانوا يطلبون مني ان انظر في هذا الاتجاه او ذاك وابتسم حتى تيبس وجهي. لقد كان الأمر مبهجًا وغير مريح بعض الشيء.
ثم اندلع أعظم ضجيج، وهدير عالٍ للغاية حتى لم نكن نسمع بعضنا يتحدث.
في وقت لاحق في الغرفة الخضراء سألت عن سبب كل هذه الجلبة، وتساءلت بصوت عالٍ عما إذا كان وراءها مجموعة الاحتجاج البيئي   قالت كيرا بهدوء: "أوه، ربما كان الهتاف بسبب ظهوري أنا". ما زلت أحمر خجلا من اعلى رأسي حتى اخمص قدمي عندما أفكر في الأمر.
 بالنسبة للمستقبل، اتمنى ان يساعد الفيلم في العثور على القطع المفقودة من القصة. من اجاز رسالة جهاز الأمن القومي مثلا؟ هل كانت الحكومة البريطانية على علم بها؟ وإذا كانت تعلم، فمن اجازها للارسال الى مركز استخبارات الاتصالات؟ إذا لم تكن تعلم، فماذا يعني هذا بمفهوم سيادة القانون؟
لماذا انتظرت السلطات البريطانية ثمانية شهور قبل ان توجه الاتهام لي- ثم تسقط التهم بادعاء انه لم يكن هناك دليل كاف للمقاضاة في الوقت الذي اعترفت به بالتسريب من البداية؟ هل كان بسبب مطالبتنا من الدعاء العام بمشورته القانونية كجزء من دفاعي؟ بالتأكيد بعد 16 سنة ، من حقنا ان نعرف الاجوبة. وايضا ألم يحن الوقت لاعادة فحص قانون (الاسرار الرسمية)؟
قبل 1989 كان هناك (دفاع الصالح العام) لحماية المبلغين ولكن هذا قد تم تغييره في خضم ما احاط بسفينة البحرية الارجنتينية الغارقة (جنرال بيلجرانو) اثناء حرب الفوكلاند.اقرب ما يكون الى سلاح بيد الدولة لردع أي إفشاء لسر رسمي، بغض النظر عن مدى المصلحة العامة التي قد يحققها هذا الإفشاء.
مثل هذا القانون لا يتوافق مع الانفتاح والشفافية والمساءلة والعدالة. 
إذا كان أداء الممثل كيرا نايتلي الرائع في Official Secrets يمكن أن يساعد في تغيير ذلك، فسيكون الفيلم يستحق العناء حقًا.

**

المصدر الأصلي هنا

نشرت في الديلي ميل 26 اكتوبر 2019

تم تحديثها في 8 نوفمبر 2019

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما