الجمعة، 28 مايو 2021

مساء أخير من فضة القصيدة

 

إلى : بثينة الناصري

شعر: أمجد محمد سعيد

( كنت قد كتبت هذه القصيدة عام 2003 بعد الاحتلال الغاشم للعراق، وكنت حينها في الموصل، واهديت القصيدة للروائية والقاصة العراقية بثينة الناصري التي تفقدتني بعد العدوان، وكانت بثينة معاونتي في المركز الثقافي العراقي بالقاهرة من 1989 ولغاية 1991حيث اغلق المركز . قرأت القصيدة في الامسية الشعرية التي اقيمت في معرض القاهرة الدولي للكتاب مساء يوم 29/1/2014 ، القصيدة منشورة في مجموعتي نشيد الازمنة ) امجد محمد سعيد

 **



تأخرتِ

لم يبقَ في الصالتين سوى امرأة

نام في كفها هدهد من ضفاف الفرات

ومغترب يعلك الوقت خلف سياج البلاد العتيقة

ثمة شيخ يمر بنا بين حين وحين ، يحدثنا عن فنون

الفراعنة الأقدمين ..

لقد كان يوماً طويلاً

دروب الزمالك هادئة

والمسافات تبتلع الضوء والعربات

بثينة .. توشك من تعب أن تنام على الطاولة .

بثينة .. بالكاد تغفو

لتصحو غداً

حيث تدفع زورقها الورقي الى صخب النيل

أو تتسمع أغنية تتناهى اليها من الرافدين

تعلق بدراً بلون النبيذ على طرق السابلة .

تدور بفانوسها الذهبي وتعبر بيتاً فبيتاً

شوارع بغداد

تمسك عاصفة قد تثور هنا ، أو هناك

وتمضي بلا وجل ، لتؤسس زقورة فوق حلم

يجدد ألوانه الأفلة .

 سأشهد أنك كنت عراقية

مثل جوز دهوك

وتمر ديالى

وأشهد أنك كنت أمامي

عامين الا قليلاً

وعيناك لي بوصلةْ .

يداك سراجي

وأدمعك الخافتات اشتعال دمي

حين يخرج من قمقم الصبر مجنون روحي

أكنت عصياً على ألفهم ؟‍!

حين على سنديان ذراعك

من قلق أستريح ..

نخاف على لوحة أن تضيع !

ونخشى على موعد أن يفوت !

ونسأل هل كان حلواً أداء المغني وعزف الكمان ؟!

أكان .. حديثاً .. ومبتكراً معرض الرسم ؟!

هل كان ضوء المصابيح منسجماً في انعكاس الظلال ؟!

متى يصل الوفد ؟

هل كل شيء على ما يرام ؟

 أجل كل شيء كما ينبغي

غير أن القصيدة لم تكتمل بعد

والنيل يطلب عذراءه السنوية قبل اندفاع المياه

وطمي الأعالي الى الحنطة المقبلةْ .

سألقي اليه القصيدة

قبل اكتمال فضاءاتها

وأعود ..

…………لماذا تريدين أن تجرحي الصمت ؟

( خلي ) السماء هنا برتقالية

والصباح هنا مترباً

فالعواصف دائمة

والطيور التي تغزل الضوء فوق القباب

تخاف الرصاص

الرصاص هنا طائش

والمساءات صحراء

حتى الفراشات فوق غصون الربيع

غدت قاتلةْ .

فظلي بعيداً

ترينا على حبل تلك المحطات مثل الثياب

على شرفات المنازل ، يأخذنا كاتب

للخيانة ثم يزنر آخر قمصاننا بوسام البطولة

يرفعنا ناقد للأعالي ، ويلقي بنا آخرون

الى المزبلةْ .

- وكلهم يأخذون مكافأة مجزية - .

فلا تسألي أحداً

من يردُ ؟!

ذبحنا البلاد

أنتحرنا جميعاً على مذبح الوهم

يكذب من يدعي انه مرسل

ليكون نبياً جديداً

فمركب نوح تحطم قبل انحسار المياه

ومن قبل قد كذب الكاذبون .

يبيعون نهر الفرات ودجلة والنخل والنفط

والطين والزبل والوحل والتحف الأثرية

أور وبابل بغداد والماء والكهرباء القطار

المطار .. المشافي المصانع والريح والضوء والعشب ..

تأخرتُ عنك كثيراً

طريقي الى الكرخ موصدة

والطائرات اليك معطلة

وحدود البلاد بلا حاجز

والجوازات من عجب مقفلةْ .

عيون القراصنة الحمر مفتوحة

لملمي ما تبقى من الكتب

                   والحبر

                   والحزن

                   والكلمات

                   دفاتر زوارنا

                   وسجل المواعيد

غطي النوافد بالبوسترات القديمة

لا تنسي النور

ثم أقفلي باب مكتبنا في الزمالك

ثم أحرقي الأسئلةْ .

 **

القصيدة منشورة في (بيت الموصل)  

https://www.baytalmosul.com/157516041588157515931585-1575160515801583-1605158116051583-15871600159316101583/7


الأربعاء، 19 مايو 2021

حجارة البيت

كتب باء

بثينة الناصري

(من قصصي الفلسطينية)

 

الحجارة

كانت حجارة بناء قديمة حوافها مكسرة، مسودة الجوانب، وكانت قد رأت أياما أفضل منذ أن وضعت أول مرة في الزاوية اليمنى، ليرتكز عليها شباك ذلك البيت الجديد، منذ سنوات غائرة في القدم. الشباك يطل على زيتونة وارفة تصطفق بأغصانها رياح  تشرين، وصدى صوت (أبي خليل) وهو يشتغل بهمة:

"ابني يابنّا  

 وعلّي البنيان

وتستاهل يابنّا

 بدلة من الشام"

والعمال يهزجون وراءه.

بعد الإنتهاء من بناء البيت، سكنته الصبية الجميلة وزوجها. وكانا في أمسيات الصيف الرقيقة، يجلسان في الشباك، يطلان على الحقل، وياما استمعت الحجارة إلى صوت الأحلام والأماني. كانت الشمس، إذا غربت، تشع نورا أحمر يلتمع على أوراق الزيتونة البرية، وينعكس على الحجارة مثل وهج النار. وفي يوم أطلت الصبية من الشباك تنتظرعودة زوجها من الحقل، ولكن طال انتظارها. ثم عرفت أنه لن يأتي. بل جاءت المدافع واحترقت الزيتونة واقفة، وطار الشباك وتدحرجت الحجارة إلى الأرض مكسرة في شظايا.

ولكن لم يمض وقت طويل، حتى التقطها رجل جاء في ظلمة الليل، واحتمى في ظل الحائط المهدم. جمع حطبا من أغصان الزيتونة اليابسة، وحوطها بالأحجار، وأشعل نارا تدفئه، ريثما ينظف بندقيته، وهو يترنم بصوت خافت:

"ابني يابنّا وعلّي  البنيان."

الدخيل

عندما ارتفعت الحجارة بيد الولد الفلسطيني، أدرك رامون ليبوفيتش على الجانب الآخر، أنه على وشك الإنتهاء من مهمته. كان ورفيقه يحتميان بإحدى عربات الدورية التي تحيط بالمخيم. لم يكن الجو في برودة شتاء موطنه الأصلي الذي هاجر منه منذ ثلاث سنوات، ولكن رامون أحس بقشعريرة تعتري جسده، وهو يثبت البندقية الآلية على حافة العربة.

بعد أن استطاع رامون ان يفلت من حصار وطنه، هاجر إلى إسرائيل – حلمه البعيد – أما اوري إبن عمه، فقد اتجه إلى الولايات المتحدة، ومن هناك ظل، في باديء الامر، يراسله داعيا إياه للحاق به، ثم انقطعت الرسائل فترة طويلة، وأخيرا بعث يقول، إنه يعد العدة للعودة الى وطنه بولندة.

لم يكن ذلك الخبر مفاجئا له، فمنذ وطئت قدماه هذه الارض الغريبة، وإحساس قوي لا يفارقه بأنه لن يطيل المقام بها.

تحركت عربات الدورية باتجاه المخيم. لاحظ رامون بامتعاض ومضة الترقب التي تلوح في عيني ديفد، كصياد رصد طريدته. كان ديفد أوفر حظا من رامون، فقد استطاع بعد فترة قصيرة من انخراطه في الجيش أن يجد طريقة، لتهريب وبيع سلاح الجيش، لليهود والعرب على السواء. أما رامون، فإنه لم يعرف مايفعله بعد الخروج من مركز الإستيعاب، إلا أن يلتحق بالخدمة العسكرية، حيث يجد المأوى والأكل والإفيون أيضا.

  أمسك بالبندقية بكل قوته، وكأنه يستمد منها العزم، وهو على اية حال لم يحس بالإنتماء في هذه البلاد إلا لها. وبعد شهر، حين يتم تسريحه، لن يستطيع أي يهودي أن ينكر إنه أدى واجبه، وربما يشفع له ذلك، عندما يتهيأ للرجوع إلى وطنه، او أي مكان آخر غير هذا الجحيم. سدد البندقية إلى الفلسطيني، في الوقت الذي انطلقت فيها الحجارة في الهواء. حجارة مجبولة من تراب أحمر بلون الدم، والنار، والأحلام المتقدة .. تلوتْ في الفضاء مثل كرة من لهب، وانقضت على الهدف.

كان آخر ماسمعه رامون رنين خوذته العسكرية لدى اصطدامها بالأرض.

+++

* نشرت القصة في مجموعة (يوميات الكوفي شوب وقصص  اخرى)  الالكترونية 2016

الأحد، 16 مايو 2021

العودة الى بيته

كتب باء

العودة إلى بيته

بقلم: بثينة  الناصري

 


حين أتذكر الفرح الذي كنت احسه وأنا اغادر (المركاز هاكليتا) * حاملا اسما جديدا ومفتاح بيت وحقيبة صغيرة ، تتبعني يائيل (امرأتي) موردة الخدين، التفت اليها فأرى اللهفة في وجهها تغطي تعب تلك السنوات. كنت ادعك في كفي خريطة المدينة. اقف بين حين وآخر. اضع الحقيبة على الارض وأفتح الخريطة . تأتي يائيل قربي. هذا شارع بن يهودا. من هنا شارع فرعي. لم نخطيء اذن   وأطوي الخريطة ”اخيرا بيتنا !“
حين اتذكر لحظة وقوفنا مسمرين أمام الباب الخشبية المقوسة والشعور الذي لم نكن نستطيع ان نفصح عنه . لا اصدق ان ذلك حدث لي (انا دان بن شمت مهندس مدني ومواطن اسرائيلي) بل لشخص آخر لم أعد أعرفه. ربما يكون اسمه كارل وربما يكون مهاجرا من ألمانيا. كان المفتاح الذي أخفوه بحرص تحت ثيابي مسودا من القدم . حملته خائفا الى الباب.
انفتح الباب على ممر مظلم يفوح برائحة غامضة . سرنا متوجسين وهبطنا بضع درجات الى باحة تحيط بها ابواب مغلقة. طافت برأسي حكايات الجن والبيوت المسكونة . ارتخت ركبتاي وجلست على الدكة فيما ركضت يائيل نحو الابواب، وقبل ان انتبه كانت قد دفعتها جميعا. لم يكن خلفها سوى فراغات مظلمة . كان البيت خاليا. رمت يائيل ذراعيها حولي وهي تهتف  ”بيتنا“. وبعد ان هدأت مشاعر الفرح والمفاجأة ، استطعت ان ألم شتات نفسي وانظر حولي – بعين مهندس – كان البيت مغرقا في شرقيته. ولكن لو وضعنا سورا من الحديد المزخرف حول الباحة . نقطع التينة المزروعة في الوسط . نوسع المطبخ . ستارة هنا . اصيص لنبات صناعي هناك . كان كل شيء سيمر على مايرام لو لم أسمع ومامضى اسبوع واحد ، صوت يائيل يناديني من غرفة الجلوس .
-       كارل ..اسرع
 فحدست أن في الامر شيئا ، اذ كانت يائيل قد تعلمت طوال ستة اشهر قضيناها في المركاز هاكليتا ان تنسى اسمي القديم.
هتفت حين رأتني وهي تشير الى احد الجدران
-انظر ماذا وجدت !
قربت عيني من الحائط . كان منقوشا برسوم وخربشات محفورة باصرار وقوة .
سألتها :
- كيف لم نرها من قبل ؟
- كان بعضه مخفيا بظهر الاريكة.
وجه مدور لطفلة تسبح ظفيرتاها ويداها ورجلاها في الفضاء . كتابة عربية ايضا . شجرة ما . جذورها اطول من اغصانها ، واسهم معوجة واشارات .. وكتابة عربية ايضا
في البار القريب رآني جاري أضم الى صدري علبة الطلاء ، فحمل كأسه واقترب مني وسألني مشيرا الى العلبة ولما حكيت له القصة قال انه اضطر الى لصق بوسترات دعاية على حيطان بيته .
- فكرة رائعة. ولكن الرسوم عندي في مكان لايصلح لتعليق بوستر.
وانهمكنا ذلك المساء في طلاء الحائط . كان السائل الازرق يغرق في الشقوق المحفورة عميقا. تأملت عملي من بعيد لما انتهيت ثم ناولت يائيل العلبة والفرشاة :
 - مارأيك ؟
ردت مرتابة :
- لابأس !
- انتظري حتى تجف .
وفي اليوم التالي حين بدت الرسوم اكثر وضوحا ونظافة ، قالت يائيل
- لا ادري .. ولكن يبدو لي ان فكرة البوسترات أحسن وأرخص.
قلت باصرار : نضع طبقة اخرى من الطلاء .
بوستر جنب بوستر .. (تعال الى اسرائيل .. ارض الاحلام) .. (تطوع في جيش الدفاع الاسرائيلي ) .. (تريد مزيدا من السعادة ؟ اشرب براندي )
- ايفا !
صرخت وأنا اخلع بنطلوني في غرفة النوم . جاءني صوتها ممتعضا :
- اسمي يائيل .
- يائيل تعالي. في غرفة النوم ايضا .. طائرات وصواريخ هذه المرة.
هرعت الي :
- اين؟  
اشرت الى الجدار .. طائرات قتال وشموس وكتابات وانقاض . تهاوت ذراعاها بيأس :
- آه .. المخرب !
حلمت تلك الليلة ان غرفة النوم صارت ساحة حرب . كنت اختبيء خلف الستارة ارقب فزعا طائرات ورقية تلقي قنابل حارقة بين السرير والارض . لم تكن يائيل معي لكن صراخها كان يملأني رعبا . وفجأة ..اتجهت احدى الطائرات نحوي . انقضت سريعا على الستارة . كان ذيلها الورقي يهتز بعنف . اندلعت النار بالستارة فركضت قافزا بين الحفر وانقاض السرير. وجدت زوجتي مطروحة على الارض . الطائرة تزوم خلفي . لم يكن عندي وقت لانقاذ يائيل . خرجت من الغرفة باقصى سرعة . أدخل دهليزا طويلا مظلما يملأه هدير طائرات ضخمة . اركض حتى اهلك . اتكيء على الجدران فتغرق اصابعي في اخاديد محفورة كتابات وخرابيش.
أخيرا ...يلوح بصيص ضوء من كوة بعيدة . اتحامل على نفسي نحوه.. قبل أن .. اصله .. رأيت ما جمد الدم في عروقي . لا ادري لم فزعت مع انه كان .. مجرد غلام صغير ، خبيث العينين ، ينظر الي ويبتسم ابتسامة غامضة .
كان يهبط ببطء . ظل يهبط ..
حانت التفاتة مني الى يديه . كان يشد حول اصابعه خيوط طائرات ورقية. أطلقت صرخة رن لها الدهليز ورجعت على عقبي سريعا .أحسه ورائي يسرع الخطى..
أقع .. انهض .. اركض .. اتعثر ..
انه خلفي تماما .. اسمعه يتنفس .. يغمى علي !
- انت تهذي !
- لا .. يائيل .. لا .. هل تسمعين ؟ انصتي ! خطوات خفيفة على السلم .
- لا اسمع شيئا .
- ها ! انها تقترب ..يائيل .. تقترب.
تصعد السلم ..
تهبط السلم
تقترب .. تصل .
ثم حفيف طائرات ورقية يجول في غرفة النوم .. ولكن أسوأها .. كان صرير قلم خشبي يحفر في الحيطان صورا وكتابة ، فقد كنت اسمعه في كل الاوقات . في اي مكان من البيت .. حتى سمعته يائيل ايضا . ولم نجد ايما فائدة في صم آذاننا ، لذا تعلمنا الكلام صراخا لنغطي على ضجة ااصرير . وأخذنا نقرأ الشعر والمنشورات بأعلى صوت. لكننا في آخر الليل كنا نحشو آذاننا قطنا وندفن رأسينا بين المخدة والغطاء . والصرير يعلو .. يعلو .. يعلو ..
- دان .. دعنا نغادر البيت .
- إش ش .. اخفضي صوتك !!
- دعنا نغادر يا دان.
 
- ولكن هذه خيانة.  سأفقد عملي وربما ماهو اسوأ .
ولكني كنت سأفقد عملي على اية حال . فقد جاءني رئيس القسم اليوم ووضع ذراعه على كتفي وقال :
- دان .. لماذا لا تحاول أخذ اجازة ؟
- وماذا افعل بها ؟
- واضح انك في حاجة اليها. عملك لم يعد كما كان والتصاميم التي كنت تبدعها .. صارت .. ماذا اقول ؟ اشبه بخربشات اطفال . بل اني انصحك ان ترى طبيبا . يا دان بن شمت .. ان واجبك كمواطن في الدولة الاسرائيلية ان تحافظ على نفسك .. لن نسمح أن نفقد رجلا صالحا قبل الحرب .
أخذت الاجازة .. حسنا .. لعلهم يحسبونني مجنونا؟ اسمع اشياء لا وجود لها ؟ ولكن يائيل تسمع ايضا . لم اقل لهم ذلك طبعا وانسحبت اجر كبريائي. على اية حال .. فعلت ما يجب على كل اسرائيلي مخلص ان يفعله .. ذهبت مع يائيل الى الطبيب. وفي جلسات متعاقبة .. روينا ذكريات الطفولة هناك في كولون .. المشاكل الصغيرة . الاحلام .. الكوابيس .أعطانا حبوبا مهدئة وقال انها مشكلة التاقلم في محيط جديد ، كما اكد لنا ان كل البيوت القديمة تحدث مثل هذه الاصوات الغامضة .. وانه حتى في بيته يسمع احيانا.
قالت ايفا حين خرجنا من عنده آخر مرة :
- كارل .. دعنا نتمشى قليلا . لا اريد العودة الى ذلك البيت الان
دخلنا حديقة صغيرة . انفلت عنها .
- اين ذهبت ياكارل .
عدت اليها :
- كنت ابحث عن وردة .. آسف ياعزيزتي . لم اجد واحدة . هل تذكرين اول يوم رأيتك فيه ؟
- لا بأس .. يكفي انك فكرت في ذلك .. كانت زنبقة بيضاء والحارس هل تذكره ؟ أوه يا كارل ..
- كيف تجرؤ ياسيد ان تقطف زهرة ؟
ضحكت ايفا ضحكة خجولة لم اسمعها من زمن بعيد
-  قلت له : انظر ياسيدي الحارس . اما تستأهل حبيبتي ايفا زنبقة صغيرة ؟
التصقت بي ايفا :
- ونظر اليك بجد وقال : بل باقة ورد !
عادت ايفا تضحك فضممتها قائلا :
- احب ان أراك تضحكين .
- لكني كنت خائفة حقا .. اعني ذلك اليوم ..
جلنا في الحديقة صامتين . ثم قالت ايفا :
- لاشك ان فراو شنايدر قد رجعت من السوق الان
- أوه ايفا .. ما الذي ذكرك بها ؟
- كان هذا وقت رجوعنا من السوق. اتمنى الان لو كنت كتبت لها كما وعدتها . اذكر لحظة الوداع. كانت واقفة على العتبة يحيط بها ترودي وماكس .
ضحكت حين تراءى لي وجه ماكس الشقي الذي لم نعرف لون عينيه اذ كان شعره الاشقر يغطيها ابدا .
- كانت تضم الى صدرها كلبنا فيكي وآخر ماقالته "سأسقي الورد دائما ولا تشغلي بالك من ناحية فيكي " هل ترى ياكارل ؟ قالتها وكأننا سنرجع يوما .
امسكت ذراعها وقلت بحزم :
- يجب الا نفكر بهذا الشكل . وحسنا فعلت انك لم تكتبي لها . اننا نبدأ من جديد .
- لكني لا استطيع ياكارل. لم اقل لك من قبل .. لكني اشتاق كثيرا .. اشتاق اليهم جميعا . ترودي ..ماكس .. غوستاف القصاب ، موزع الحليب ، ساعي البريد، فيكي ، حتى قبر أمي .. واسفلت الشارع والبيت الذي نستطيع ان ندعوه بيتنا .. الورق الاصفر الذي يغطي جدرانه ..
- كفى !
- حتى جرس الباب والمرآة الصغيرة التي كنت ارى فيها نفسي قبل ان افتح الباب .
- كفى !
- كان بيتنا. لماذا لا نستطيع ان نعود ؟
صفعتها بقوة :
- يائيل اخرسي ..دعينا نرجع الى البيت .
- ذلك البيت !
قالتها بحقد .
انفتح الباب على الممر المظلم .. فسرنا متوجسين . كان البيت هادئا على غير العادة . انتظرنا .. لكن الصمت كان ثقيلا هذه المرة .تبادلنا النظرات .. وابتسمنا بارتباك . ثم ذهبت يائيل الى المطبخ لتعد طعام العشاء فيما جلست في الصالة اقرأ بصمت كتابا. لم اشعر بالحاجة الى القراءة صراخا فقد كان كل شيء حولي ساكنا . سمعت يائيل تدندن بصوت حذر . اقترب صوتها ودخلت الغرفة حاملة شرائح اللحم البارد وقطع خبز وقدحي نبيذ . جلسنا متقابلين ، ولاول مرة احسست بالراحة وكأني ازحت ثقلا كنت احمله .
هتفت يائيل ضاحكة :
- آسفة على مابدر مني في الطريق. كنت سخيفة .
- لا عليك .. ماذا سماه الطبيب ؟ صعوبة التأقلم في محيط جديد؟
- أعدك ان أبذل كل جهدي .. أني لا أسمع شيئا الان .
- ولا أنا !
- اني سعيدة يا كارل .
- دان !
- يالغبائي .. آسفة .. دان !
رفعنا كأسينا :
- في صحتنا .
لكن يد يائيل توقفت في منتصف الطريق الى فمها ونظرت خلف ظهري جازعة ..
- كارل .. أني ارى ..
وسقط الكأس من يدها ..
التفت سريعا الى حيث اشارت ..ومنذ تلك اللحظة لم نعد نسمع شيئا .
بدأنا نرى
...!

**

نشرت في مجموعة (موت إله البحر) – القاهرة – 1977

(*) المركاز هاكليتا – مركز الاستقبال (الاستيعاب) التي يقيم فيها المهاجرون الجدد الى (اسرائيل) حيث يتعلمون اللغة العبرية وشيئا عن تاريخ وجغرافية فلسطين وأساطيرهم ، باختصار مثل مركز لغسيل الدماغ.

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما