السبت، 16 يناير 2021

الأستاذ عزمي يغادر المنزل

كتب باء
قصة قصيرة
بثينة الناصري 

 


ساعات الصفاء 

فى الدرج الأعلى على يمين التسريحة، بحذاء سرير الزوجة الذى لم ينم فيه أحد منذ وفاتها قبل ثلاث سنوات، تصطف جوارب الأستاذ عزمى نظيفة، منسقة رغم أنها لم تعد جديدة تماما .. ففى بعضها ثقوب صغيرة وبعضها تهدل واتسع، وآخر ضاق وانكمش. وأغلبها أزواج غير متطابقة، إلا بدرجة متقاربة من اللون، ولكن بسبب ضعف نظر الأستاذ عزمى، مع كبر السن، والإنغماس فى عادة قراءة الصحف اليومية، لم يكن يميز الاختلاف، وغالبا ما كان يستل فردة جوارب سوداء وأخرى رمادية، ولكن ذلك لم يكن يحدث كثيرا، لأنه ما كان يغادر البيت سوى يوم الجمعه، للصلاة فى الجامع القريب، حيث يرتدى جلبابا اعتاد أن يضعه على الشماعة، داخل دولاب الملابس لهذه المناسبة .. وكانت زوجته - رحمها الله- إبّان حياتها وفى ساعات الصفاء، تمسحه بنظراتها الثاقبة، وهو يضع يده على أكرة باب البيت، وغالبا ما كانت تهتف به "رح غيّر الجلباب يا رجل! هل عميت عيناك عن كل هذه البقع والوساخة؟" وكم كان التوبيخ يسعده، ويدفىء فؤاده، معتبرا إياه بادرة حميمة من زوجته التى لم تكن لتعيره أى اهتمام في الأحوال الإعتيادية. 

أما الآن، فلم يعد هناك من يستوقفه عند الباب، بل كان يلتقط عصاه المعلقة على الكرسى خارج المطبخ، ويتأكد للمرة العاشرة من وجود مفتاح البيت فى جيبه، ومن وجود القروش القليلة التى اعتاد أن يدسها فى يد الشحاذ الضرير الذى يجلس، منذ سنوات لا حصر لها، عند باب الجامع.

وكان الاستاذ عزمى، فى رحلة الجمعة هذه، يصادف عنتا شديدا ..

فقد كان عليه أن يجر ساقيه، متساندا على عصاه، هابطا السلالم، من الطابق الثانى فى العمارة، وإذا لم يجد البواب، ليأخذ بيده لنزول الدرجات الخمس التى تؤدى إلى الحوش، كان عليه أن يتساند على الدكة المنخفضة للسلالم، وهو محني الظهر، مما كان يسبب له إحراجا ينسيه آلام ركبتية ... ثم يدب فى الحوش حتى يصل الشارع، فيمشى متباعدا عن السيارات الهادرة. وفى أحيان كثيرة كان يرتد فزعا إلى الخلف متشبثا بعصاه، وهو يفاجَأ بسيارة اجرة لم يسمعها، وهى تقف بمحاذاته لتلفظ راكبا أو تتلقف آخر.

وبرغم كل هذه المشاق، لم يكن الأستاذ يتكاسل عن صلاة الجمعة، فقد كان يؤمن أن كل خطوة صعبة يخطوها فى سبيل ذلك، تُحتسب له أجرا مضاعفا ينفعه فى آخرته. 

حكاية كل يوم

فى الأيام الأخرى، كان نمط حياته لا يتغير. فى الثامنة صباحا يرن جرس الباب فيعرف قبل أن يفتح، أنها أمل إبنة البواب، تحمل له جريدة اليوم، وأرغفة الخبز، قبل ذهابها إلى المدرسة، وكان يهتف .. حيثما يكون:

- نعم يا أمل ... أنا قادم.

تدخل أمل، وهى تحمل فى يد حقيبة المدرسة، وفى يد أخرى أرغفة الخبز ملفوفة بالجريدة. يأخذها منها، فتجلس على الكرسى القريب من المطبخ، ريثما يفتح الأستاذ الثلاجة، ويمد يده يتناول علبة الجبن الابيض، ويقطع أحد الارغفة نصفين، فيمسح أحدهما بقليل من الجبن، ويلف الشطيرة بعدئذ بقطعة من جريدة الأمس، ويقدمها لأمل قائلا مثل كل يوم:

- خذى نصيبك ...  ها ... مبسوطة؟

وبعد أن يغلق الباب وراءها، يرجع إلى المطبخ، فيضع إبريق الشاى على النار، ويجلس إلى المائدة الصغيرة، فى المطبخ يتناول فص ثوم، ويقطعه بأناة عدة قطع، يبتلعها على الريق بالماء، ثم يملأ نصف الرغيف بالجبن، ويصب الشاى، ثم يقطر فيه قطرتين من عصير أعشاب موصوف لشفاء جميع الأمراض.

بعد أن يفرغ، يتحامل على نفسه، ويذهب إلى غرفة الجلوس، حاملا معه الجريدة. يمد يده إلى الرف العلوى فى المكتبة، ويأخذ النظارة الطبية، ثم يرتمي على المقعد الوثير الذى كانت الراحلة زوجته تفضله على سواه، وكان إذا جلس عليه لحظات وأقبلت، ينتفض، ويخلى لها المكان، وقد ظل بعد وفاتها، مدة طويلة، يجلس عليه قلقا، يحسبها، بين فينة واخرى، مقبلة، فيتململ فى جلسته.

الآن يرتخى على المقعد، واضعا ساقا على ساق، يثبت النظارة على عينيه، ويفتح الجريدة .. يقرأ آنا ويغفو آنا، حتى إذا ما انزلقت الجريدة من بين اصابعه انتبه، وأكمل القراءة من حيث انتهى، حتى يغالبه النعاس مرة اخرى، ويصحو على أذان الظهر .

في الساعة الثانية والنصف بعد ظهر كل يوم، كان الأستاذ عزمى ينظر فى ساعة يده، فيعرف أنه قد حان وقت الغداء، فينهض إلى الثلاجة، ليأخذ قِدرا صغيرا إلى المطبخ، ليغترف منه مقدارملعقتين من الخضارالمطبوخ فى طبق معدني، يسخنه قليلا، ثم يفتت فيه قطعا من الخبز. وكان وهو يأكل يفكر فيما يجب أن يطلب من فوزية إمرأة البواب أن تطهو له يوم الجمعة المقبل. 

ما أن ينتهى، حتى يهرع إلى غرفة النوم، شاعرا أن عظامه قد استحقت نوم القيلولة، فيتمدد هامدا على السرير. وفى كل مرة يصحو، وقد انتشر الظلام فيجلس على السرير للحظات، وهو يحوقل ويبسمل، محاولا أن يتبين إن كان عليه أن يصلى صلاة الفجر، أوالمغرب، فيكتشف، فى كل مرة، أن المؤذن يدعو لصلاة العشاء، فينهض مترنحا ويدلف الى الحمام. يتوضأ ويذهب إلى غرفة الجلوس، يفرش السجادة، ويصلى المغرب والعشاء معا، ويطيل السجود، والتهجد، ويدعو لأبيه وأمه وزوجته ... ولأموات المسلمين وأحيائهم.  

وبعد أن يتم واجبه نحو ربه، يقوم عن السجادة مرتاح الضمير، متلهفا على اللحظة التى كان ينتظرها طوال يوم.

يعدل جلسته على المقعد، واضعا جهازالتليفون فى حجره، يفتح دفتر أرقام هواتف أبنائه ومعارفه، على المنضدة المجاورة. 

أي ريح طيبة؟  

فى ذلك المساء الخريفى وأثناء إنهماكه فى هذه العادة اليومية، حدث أن رن جرس التليفون رنينا مفاجئا، وكان الصوت على الجانب الاخرغريبا:

- السلام عليكم .. الاستاذ عزمى؟

- وعليكم السلام ورحمة الله ... نعم ... من؟

- أنا عباس .

- أهلا عباس ...

ثم استدرك:

-  عباس من يا إبنى؟  

- عباس كامل .. ألا تتذكرنى؟ مدرس التاريخ  فى مدرسة نور العلم .

- لا اله إلا الله .. كيف حالك أستاذ عباس؟ طبعا أتذكرك وأتذكر أيامنا الجميلة .. أين أنت الآن؟ كان اخر ما سمعته عنك، سفرك إلى بلد عربى.

- ورجعت منذ سنوات، وحاولت أن أفتح سوبر ماركت، لكنى فشلت، والحمد لله على كل حال.

- أهلا ... أهلا .. عباس. والله زمان ... ولكن  أى ريح طيبة حملتك إلينا اليوم، كما كان يقول أجدادنا العرب؟

- لا .. والله، أنت فى ذهنى دائما، ولكنك تعرف مشاغل الحياة .. وبالأمس .. إبنى محمد هل تذكره؟ صار رجلا ملء هدومه، يعمل محاسبا فى شركة، فاتحنى بفكرة إنشاء مدرسة خاصة، فقلت لن نجد خيرا من أستاذنا وعمنا عزمى لإرشادنا، فهو من أوائل من أداروا المدارس الخاصة فى القاهرة.

اتسعت إبتسامة الأستاذ عزمى، كاشفة عن لثته العارية من الأسنان.

- الله يخليك .. وماذا فى ذلك يا إبنى ... أنا فى الخدمة، تفضل فى أى وقت 

جاء صوت عباس ناعما، مراوغا، مفعما بالغواية:

- لا  لا .. دعنا من جلسات البيوت. أراك غدا صباحا فى مقهى الفردوس. أنت تذكره؟ ليس بعيدا عن مدرسة نور العلم .. ما رأيك؟ موافق؟ نلتقى هناك إذن .. أعزمك على سحلب ونتكلم.

كان عزمى على وشك أن  يقول "ولكنى لا أخرج عادة من البيت"، وكان يمكنه أن يصرعلى حضور الآخر إلى مسكنه، ولكن شيئا ما ألجمه، فقد كان للحديث وقع المفاجأة الحلوة. أن يرغب أحد ما، بعد كل هذا العمر، فى الإستفادة من خبرته. أن يكون ما يزال ذا نفع .. ألا يستحق هذا الإحساس أن يغير لأجله شيئا من عاداته اليومية؟  

الأستاذ يغير عاداته

تلك الليلة لم ينم. ظل عدة ساعات يتقلب ويتعوذ من الشيطان. كان سيل من الافكار ينثال على راسه، كإنثيال حبات مطر خشنة، تتساقط بوقع رتيب سريع. فتح عينيه وحدق فى نور الشارع المنعكس على النافذة المقابلة لسريره، وطفق يرتب الكلام الذى سيقوله لعباس غدا. لابد أن يجمع في دفتيه عصارة خبرته .. سيحدثه عن الإنضباط .. إختيار المدرسين. الإشراف على كل صغيرة وكبيرة .. سيبدأ حديثه هكذا "إدارة مدرسة خاصة مسؤولية يابنى تختلف قطعا عن إدارة السوبر ماركت" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ما الذى جاء بسيرة السوبر ماركت؟ ربما سيظن أنى أسخر منه، أو أشير إلى فشله فى مشروع السوبر ماركت! وأعاد صياغة جمله، حتى استنفد كل ما أراد قوله، وبلغ به الإجهاد مبلغا كبيرا. تقلب على جانبه اليمين الذى تعود أن ينام عليه. وحينئذ تذكر أنه فى غمرة انفعالاته هذا المساء، نسي أن يبتلع فص ثوم قبل النوم .. وظلت هذه الهفوة تؤرقه حينا، ثم راح فى إغفاءة قصيرة، رأى نفسه خلالها يجوس داخل مدرسة (نور العلم) .

وكان خفيفا، حتى عجب لنفسه، وهو داخل الحلم، كيف استعاد شبابه وقوته بهذه السرعة. ثم لفت إنتباهه لغط يصدر من أحد الفصول، فلما دفع الباب وجد عباس يحاول إسكات الطلاب دون فائدة، فضرب عزمى الباب بخيزرانة قصيرة كانت فى يده، فران الصمت. وتقدم من عباس وسلمه العصا، وهو يقول "الانضباط أولا".

  وتلفت عزمى حوله فرأى التلاميذ مرصوصين على أرفف وكأنهم قرنبيط فى سوبر ماركت. وكان عباس يقول وهو يكاد يبكى "الله يجازيه ... إبنى السبب".

واطلقت رؤوس القرنبيط ضحكات عالية، فيما سمع الأستاذ عزمى صوت شهقته وهو يفز يقظا.

  جلس فى السرير يحاول أن يخترق الظلام بعينيه، وهو يتمتم "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم إجعله خيرا". وتمدد ثانية فى الفراش، حتى صاح المؤذن الله أكبر، فنهض يسحب ساقه الموجوعة إلى الحمام، ثم أدى  صلاة الفجر. ولم تطاوعه نفسه على النوم مرة اخرى، فسحب علبة الصور القديمة من الدولاب، وأخذ يبحث عن عباس فى صورة زيارة مدير التعليم الابتدائى لمدرسة نورالعلم، حيث توسط الضيف الجليل جموع المدرسين جالسا فى الصف الاول، وحوله الأستاذ عزمى ووكيلا المدرسة، والمدرسون الأوائل، ثم يقف فى الصف الثانى، بقية المدرسين وكان يفترش الارض، تحت أرجل الجالسين ، عدد من الطلاب المثاليين وابناء المدرسين .

تفرس عزمى فى الصورة، لكنه لم يستطع أن يتعرف على عباس "لا حول ولا قوة إلا بالله .العتب على النظر" وبعد أن أطال النظر دون جدوى، أعاد الصورة إلى العلبة، وهو يحمد الله على كل حال .

وتناول من الدولاب ملابس الخروج، وجعل ينفضها لعل غبارا لا يراه يغشاها، ثم وضعها على السرير استعدادا. وتمشى نحو المطبخ . كان الوقت ما يزال مبكرا، لكنه لم يجد بدا من أن يملأ الإبريق بالماء، ويضعه على النار. وكان على وشك أن يبلع فص ثوم، ثم تذكر أن عليه اليوم أن يقابل صديقه. ولعل الرائحة تفضحه فأرجا تناول الثوم لما بعد العودة "اذا كان لنا نصيب". أخذ قدح من الشاى وجلس فى الصالة المظلمة إلا من شعاع ضوء المطبخ المترامي عبرها. إحتسى السائل الساخن، وهو شارد الفكر. لم يكن مرتاحا لفكرة الخروج هذا اليوم ... لا يدرى لماذا ظلت ذكرى أمه تلح على ذهنه ... كانت أمه ماتفتأ تردد "لا أدرى ما الذى دعاه للسفر ذلك اليوم الأسود ... توسلت إليه يا حاج لا تسافر .. قلبى منقبض . طيب خذنى معك ... هذه أول مرة تسافر وحدك ... ولكنه ظل يقول لابد أن اسافر .. هناك من ينتظرنى ... ولا أستطيع خذلانه .. وفعلا ياإبنى كان عزرائيل فى انتظاره ... آخر ما رأيت منه يده وهى تغلق الباب ... لن أنسى ما حييت هذا المنظر".

حقا ما الذى يجعل شخصا ما يقدم على غير مألوف عادته؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... لماذا هذا التفكير؟ ولكن ... لماذا تذكرنى عباس فجأة؟ إنى حتى لم أتبينه في الصورة! 

رشف عزمى الشاى ساهما، فتناثرت قطرات منه على صدره ... لسعته فانتفض ... ودعك جلده بأصابعه. هل يكون هذا تحذير من الرحمن؟

عدل من وضع نظارته، وفكر إنه سيجن لو استمر فى إرهاق ذهنه بهذه الطريقة. "إما أذهب أو لا أذهب" طيب .. لو ذهبت وحصل المقدر والمكتوب؟

سيقول الناس  "مسكين عزمى ... أول مرة يخرج إلى المقهى .. كان عزرائيل في إنتظاره" وماذا لو لم أذهب؟ ما أسهل ألا أذهب. ولكن هل أتخلى عن متعة مجالسة عباس والحديث عن أيام زمان؟ والجلوس مرة اخرى على مقهى، والفرجة على الدنيا. وربما يكون الرجل فى حاجة يائسة فعلا لمشورتى، فهل أحرمه منها بسبب بعض الترهات والأوهام؟   

تنهد الاستاذ عزمى تعبا ونهض، وهو لم يحسم أمره بعد، ودب نحو غرفة النوم، وبدا وهو يخلع ملابس البيت، ويرتدى ملابس الخروج، كأنه يفعل كل ذلك بدون إرادته. ومثل من يحمل، مجبرا، هما لا طاقة له به، غادر الغرفة إلى الصالة. تفرس فى ساعة الحائط، ثم نظر إلى ساعة يده، وهز رأسه، وهو يتجه إلى الشباك فيغلقه، وكذلك فعل بباب المطبخ النافذ إلى الصالة. إلتقط عصاه، ووضع يده على باب الخروج، وقبل أن يغادر البيت، أدارعينيه بأرجاء المكان، وقد استقر فى خاطره أنها المرة الاخيرة التى يحتضن بنظره الغرفة التى شهدت أفراحه وأتراحه وياما لعب فيها أولاده، وخيل إليه أن زوجته الراحلة تجلس فى مقعدها الاثير، تشير إلى ياقته وتعنفه قائلة "كيف تخرج بهذا القميص المبقع يارجل؟ أليس عندك عينان تنظران هذي الوساخة؟" تندت عيناه بالدموع وابتسم بحنان، ثم نظر إلى يده وهى تمسك بالباب وتذكر أمه "آخر ما رأيت منه، يده وهى تغلق الباب. لن أنسى ما حييت هذا المنظر".

ومع أول إرتطام العصا ببسطة السلم ردد "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. توكلت عليك يارب" .

فى حوش العمارة خف إليه (سيد) البواب يخبّ فى جلبابه النظيف، متسائلا باستغراب وهو يأخذ بيده:

- إلى أين العزم يا عمى الحاج؟

أجاب عزمى باقتضاب:

- مشوار

ثم أضاف:

- أوقف لى سيارة أجرة والنبى يا سيد.

- حاضر .. إلى أين يا عمى الحاج؟

- المنيرة.

- من عينى .

سبحان الله ... فكر عزمى ... كل شىء متيسر وكأنه بترتيب من رب العالمين ... سيد هذا الذى لا نراه طوال اليوم .. يبدو وكأنه كان ينتظر خروجى.

وقف سيد قلقا يشير للسيارات، ويجرى وراءها دون طائل . نقل عزمى عصاه من يد إلى أخرى، ولكنه لم يحس بوطأة الإنتظار، بل كان كلما طالت وقفته، إزداد اطمئنانا،  وأخيرا أشار لسيد أن تعال، ونفحه ربع جنية كاملا، وقال:

- شكرا ياسيد ... سأتمشى قليلا.

- إلى المنيرة يا عمى الحاج؟

ضحك عزمي وربت على كتف سيد، وهو يتحرك نحو الدرب الذي اعتاد السير فيه كل جمعة، ولكنه كان كمن يكتشفه لأول مرة. كان شعورا بالخفة والرضى يطير بساقيه وعصاه، حتى وصل الجامع.. رأى المتسول الضرير مقتعدا مكانه المعتاد .. فهتف به :

- كيف الحال ياحاج محمد؟
- من؟ عمي عزمي؟ ولكن هذا ليس يومك؟
ضحك عزمي، وهو يجيب بلا مبالاة:
- قلنا نغير العادة!
ثم خلع حذاءه، وتسور العتبة إلى المصلى
.

**

نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) 1998 


الجندي والصغير


بثينة الناصري

 

في وقت واحد وصل الارض البور عند مشارف القرية، جندي راجع لتوه من الحرب متأبطا بندقيته في طريقه الى  منزله، وطفل في السابعة من عمره انطلق هاربا من بيته ساحبا وراءه كلبا مشعثا مربوطا بقطعه حبل. لبد الولد و كلبه في الاثل الذي يبدأ حيث تنتهي الارض السبخة ولهذا لم يرهما الجندي وهو يرنو الى البيوت البعيدة التي كانت سطوحها وذرى اشجار النخيل المحيطه بها تسطع عند الافق بأشعه شمس شباط.  

ودّ لو مدّ ذراعه ليلمس الباب ويرتمي في حضن ظل السدرة التي تتوسط حوش البيت، لكن تورم قدميه الموجع داخل البسطال العسكري ذكره بالمسافه الهائله التي قطعها على قدميه حتى يصل اطراف القرية

من بين اغصان شجرة الدفلى اختلس الولد النظر الى الجندي الذي يقف يظلل حاجبيه بكفه وينظر باتجاه البيوت المتلاشية في الافق .احتوى الولد البندقية بعينيه والجندي يطوحها الى الارض قبل ان يتكوم متعبا الى جانبها وهو يسند ظهره الى تلة صغيرة من الصخر والتراب.... وبحركة  سريعة ضم الولد اصابعه ورفع سبابته وابهامه نحو الجندي وهمس وهو يقلد صوت مدفع رشاش"تي..تي.تي..تي"  

اراح الجندي رأسه الى التلة واخذ يتخيل لحظه طرقه باب البيت .. تفتح امه وتعقل المفاجأة و الفرحة لسانها فيحتضنها ويدور بها وهو يصرخ "انا رجعت يا امي" وربما تستطيع عندئذ ان تنطق "الحمد لله"... او يدق الباب فتفتح امه وتهتف باسمه غير مصدقة فيقول لها باستسلام"انا رجعت يا امي " كما كان يفعل حينما كان يافعا كلما ذهب الى الارض السبخة النائية ليلعب مع اصحابه فتؤنبه امه لدى عودته "ذهبت مره اخرى؟"  

فيقول"كنت العب.." فتنهره بحدة

" "قلت لك الا تذهب هناك

" "ولكن لماذا يا امي ؟ انها ارض مثل كل الارض

  "لا.. ليست مثل كل الارض.  فيها ثعابين وعقارب ويمكن ذئاب ايضا" 

وكان يعرف ان امه لا تقول الحقيقة و انما تقصد ان تخيفه من اللعب في الاماكن النائية بعيدا عن عينيها.. ويدخل الدار.. ينضو عنه ملابسه المتربة .. يتربع داخل الطشت حاملا في يده صابونة زيت الزيتون يدعك بها شعره عدة مرات.. فيما تصب امه الماء الساخن على راسه.

  "اتسلل بهدوء.. ازحف علي بطني " كان الولد خلف الاثل يحدث نفسه  "واصل اليه دون ان يشعر .. اسحب البندقية" وبحث حوله علي الارض حتى وجد عصا صغيرة فحملها بين كفيه "واصوبها هكذا الى الاعداء الذين يتقدمون نحوي .. عشرون واحدا..لا..ثلاثون..قفوا..اصرخ بهم ..لا يقفون.." وجه العصا نحو كلبه الذي افترش الارض نائما "اقف في وجوههم.. يضربوني .. اقع .. ثم انهض ثانية تي..تي..تي.." ويسقط الاعداء واحدا اثر اخر..

يصفر له رفاقه "هات الكرة وتعال معنا  الى الملعب" ويخطف الكرة ويجري وراء الرفاق يلحقه صوت امه "لا توسخ الدشداشة النظيفه بالتراب" . صديقه الذي كان يصر على ان يقف حارسا للمرمى، كان معه في خندق واحد وقد اصر على ان يقود شاحنة جنود ليلة الانسحاب وعندما اصابت الشاحنه قذيفة لاهبة لم يستطع احد ان يفصله عن المقود ..صار هو والمقود قطعة مصهورة واحدة.

"ز..ز..ز.."تزوم الطائرات فيما يقف الولد على سطح البيت "ارفع الرشاشة طك..طك واصيب طائرة.. تتفجر في الجو.. ويسقط الطيار العدو.. انتظره على السطح.. وهو يهبط.. استعد.

كان عليه ان يمشي .. ولا شيء  غير ذلك بعد ان دمرت المعابر والجسور.. وكان عليه ان يستنفد كل فطنته الفطرية لتفادي الوقوع في الاسر.. اخذ يتخفي نهارا ويسير حالما ينشر الظلام.. ظل يسير حتى تورمت قدماه وتشقق البسطال. "كم مشيت؟ لابد اني قطعت ارض الجنوب كلها" لا يدري كم من الليالي مضين لم يذق فيهن طعم النوم و الراحة.  

دعك الجندي ركبيته ثم مد ساقيه واغمض عينيه ولكنه .. كان يحس بقلق ما.. اخترق ضوء الشمس التي توشك على الغروب جفنيه المغمضين وظل يري نقطا حمراء وسوداء تتحرك بسرعة .. تقف برهة ثم تختفي خلف الستار المنسدل على عينيه ثم تظهر ثانية .. فجأه ادرك ما كان يقض راحته.. النهار لم ينته بعد..وهو جالس في منطقة مكشوفة جرداء، ماذا لو كان الاعداء قد تسللوا الى هنا ايضا؟ ان البيوت على البعد لا تنبيء بشئ . ماذا لو كانوا يختبئون - وتلفت حوله - هناك في الاثل يرصدون حركاته؟ وقد يكون هناك طيار منهم سقط بعيدا عن طائرته واختفى خلف الاثل متحينا فرصة ما .. التقط  بندقيته.  

 فوق سطح البيت اضع يدي  علي الزناد . وانتظره وهو يهبط .. عندما يصل الى مرمى البصر .. "طاخ ..طاخ " وبحركة عنيفة يلط الولد الكلب بالعصا فيطلق الكلب دمدمة خافته .. يسمعها الجندي  فيهب .. يستدير نحو الاثل .. ويضغط الزناد

  صرخة صغيرة عميقة .. اقتحمت الارض الفضاء وتردد رنينها طويلا.. صرخة لاصفة لها .. صوت انتزع من اعماق روح ما غير محددة. صرخة موت ..  تسمر الجندي في مكانه لحظات ثم سار نحو الاثل بتوجس.. فرّق اغصان الدفلى فرآه .. وجها شاحبا اذهلته المفاجاة وعينين تنطقان برعب اخرس،هبطت نظرات الجندي الى الارض تحت قدمي الولد فرأي الدم يغطيهما حيث يرتمي كلب مثقوب البطن. 

تنفس الجندي الصعداء،  لكنه لم يستطيع الا ان يغضب   

  "ماذا تفعل هنا؟"

قال الولد بصوت ضعيف:

" "كنت ألعب.. واجهش بالبكاء

قال الجندي بخشونة:  

  ""ولماذا تلعب هنا بعيدا عن البيت ؟

قال الولد بين شهقاته:

      " "اني العب هنا كل يوم ..معه

واشار الى الكلب الميت دون ان ينظر اليه

قال الجندي بصوت خيل اليه انه ليس صوته:

-       "ولكن الا تعرف ان في هذه الارض ثعابين وعقارب ويمكن ذئاب ايضا؟ هل هذا كلبك؟"

أومأ الولد برأسه وانكفا على ركبيته وهو ينشج. مد الجندي يده ولمس الولد الذي انكمش بعيدا. فأوقد الاحساس بالذنب غضبه مرة اخرى.  

  - احمد ربك لان الرصاصة اصابت الكلب ولم تكن انت

رفع الولد وجهه وصاح بتحد: "ولكني احبه اكثر من اي شئ اخر"

  - انها غلطتك. لماذا كنت تختبئ بين الاشجار؟

  - لم اكن اختبئ.. كنت العب

تامل الجندي وجه الطفل .. حك ذقنه الناتئة وقال بهدوء:

  - انهض واذهب الى بيتك.. ما فائدة ان تجلس هنا وتبكي مثل الاطفال؟

قال الولد باستسلام وهو يشير الى الكلب:  

 - لن اتركه وحده

  - وما معنى ان تاخذه معك ؟ لقد مات.. ألا تفهم ؟ اسمع.. عندي فكرة هل تريد ان تدفنه؟

تساءل الولد:

  -كما يفعلون مع الناس ؟

  اجل .. كما يفعلون مع الناس - 

وانهمك الجندي والولد في حفر قبر صغير قرب التلة .. كان رأساهما يتقاربان والايدي تتلامس وتبتعد وتصطدم ببعضها وهي تنبش التراب وتزيحه حتى اذا صار حجم القبر مناسبا قال الجندي :"هيا..هاته"

هز الولد رأسه قائلا:

 - لا استطيع

قال الجندي بسرعه:  

  - لا تستطيع حمله؟ اسحبه على الارض

ققال الولد  

  "لا..لا اريد ان ألمسه"

سال الجندي: "لماذا ؟ انه ميت لن يعضك !"  

اجاب الولد وهويهز رأسه بشدة: " لا اريد"

 - انت خائف؟

طأطأ الولد صامتا.  

قال الجندي :"الموت لا يخيف .. انه تحول من حالة الى حالة .. لقد رايت الكثير من اصحابي يموتون حولي في الحرب.  في لحظة يكلمك صاحبك وفي اللحظة الثانية يتفجر شظايا.. حتى لم يكن هناك وقت لدفنهم.. وعندما تعتاد على رؤية الموت كل ساعه وكل يوم وفي كل اشكاله وحالاته، يصبح شيئا عاديا ولكن بدلا من ان تحزن فانك ترى الامور يشكل اخر.. يمكن ان تقول لنفسك: لقد احياني الله ثانية لانه ما زال لدي الكثير لاعمله و اذا كان صاحبي قد افتداني فذلك لان الوطن يحتاجني ولابد ان انجز الان عمل شخصين او ثلاثة او اربعة.... بقدر الذين ماتوا من حولي . هل تفهم؟ هيا هات كلبك"  

كان الولد يستمع اليه مدهوشا وعندما فرغ من كلامه لم يحرك الولد ساكنا مما اغضب الجندي فصاح به :"لماذا لا تطيع؟ اليس هو كلبك؟ قال الولد باستعطاف "تعال  معي"

فذهب معه الى شجرة الدفلى حيث وقف الولد متسمرا امام كلبه دون ان يمد اليه اصبعا .

ثم امسك كف الجندي بيد وتسللت اليد الاخرى بخوف وتردد فلمست صدر الكلب.  

مسح عليه باصابعه التي مررها خلال شعره حتى طال رأس الكلب فربت عليه. انحنى الجندي على الكلب وحمله فيما سار الطفل وراءه حتى وصلا القبر الذي اسجي فيه الميت .. و اهال الاثنان عليه التراب . كان رأساهما يتقاربان والايادي تتلامس وتبتعد وتصطدم ببعضها وهي تردم القبر.   

نهض الجندي وتطلع الى الافق ثم حدق في وجه الصغير وقال:"آن وقت الرجوع"

وحمل بندقيته على كتفيه وامسك بكف الصغير الذي سرعان ما تحول الى اليد الاخرى البعيدة عن البندقية ..

سأله الجندي وهما يغذان الخطى باتجاه البيوت البعيده:"ماذا كنت تلعب؟"

- لعبة الحرب

 - نستطيع اذن ان نقول ايها الصغير  ان الرصاص اخطأنا هذه المرة.. واننا..انا و انت رجعنا من الحرب سالمين   

التقت عيونهما .. و ابتسما  

ابتدأت البيوت تقترب ولاحت تفاصيلها في دفق من اللون البرتقالي للشمس الغاربة في حضن سعف النخيل.. كان الولد يمشي بخطوات عسكريه ثابته و سريعة و الرجل يعرج محاولا اللحاق به حتى احتواهما شعاع الشمس وتداعت اولى نسيمات المساء بصوت الجندي يأتي من بعيد "هل امك في انتظارك؟"

**  
القصة منشورة في مجموعة (وطن آخر) 

الخميس، 14 يناير 2021

عازف الطبلة الصغير

كتب باء
قصة قصيرة

بثينة الناصري


حدق الطبيب بوجه الفتى الذي كان ينظر غير مبال الى الطاولة التي أمامه ، ويحرك اصابعه فوقها بنقرات صامتة     

لم يرد الفتى . كان مشغولا بالنظر الى أصابعه.

-      نبيل

أعاد الطبيب نداءه. قالت الأم:

-        هذا حاله. طول عمره لايستجيب لاسمه

سألها الطبيب عن سنه ، قالت "عشر سنوات"

مد الطبيب يده ولمس أصابع  الفتى، فجذب هذا يده بشدة دون ان يرفع بصره.

ضرب الطبيب بشدة على الطاولة . رفع نبيل عينيه الى يد الطبيب، ثم عاد الى انشغاله ناقرا  بأصابع صامتة.

تأمله الطبيب. ثم خاطب الأم:

-        يسمع لكنه لا يتكلم؟

-        نعم

-        ولا كلمة ماما أو بابا

-        أبدا.

أضافت بصوت حزين هامس:

-        لم اسمعها منه، ولا استطيع ان احتضنه، يتفلت مني بسرعة، لا استطيع لمسه. لا ينظر إلي ، لا يبتسم. اظن  انه لا يعرف الفرح ولا الحزن.

ظل الطبيب يتأمله بتمعن، ثم فجأة بدأ الطبيب ينقر على الطاولة بإيقاع منغم، دوم – دوم- تك . دوم – دوم – تك. دوم -تك – تك- دوم.

توقفت أصابع الفتى عن الحركة وتابع بعينيه ايقاعات الطبيب. ثم شيئا فشيئا حرك  اصابعه بنفس الايقاع حتى تناغم الصوتان وكأن الأصابع تحاور بعضها.

اعتدل الطبيب وقال للأم:

-        اشتري له طبلة يا سيدتي. سوف تعيد الموسيقى تواصله مع العالم.

وقفت الأم وهي تقول حائرة ومحبطة:

-        هذا كل ما هناك؟ لا دواء؟

-        هذا كل ما لديّ. طبلة.

خرجت الأم ووراءها يتقافز ابنها، وهي تلتفت اليه بين حين وآخر ، وحين وصلت تقاطع الطريق، حاولت امساك يده، لتعبر به  الشارع المزدحم بالسيارات، لكنه جذب يده بعنف. وقفت أمامه وقالت بغضب "تعال نعبر الشارع. هل تريد ان تموت؟ ماذا تريد؟"

وقف أمامها صلبا وهو ينظر الى الأرض ثم الى السماء متحاشيا النظر اليها، وفجأة سمعت صوتا يخرج من فمه:

-        ط..ط..ب..لة

ذهلت الأم ، وابتسمت ابتسامة واسعة، وتلفتت حولها لترى إذا كان الناس قد سمعوا مثلها:

-        نبيل ، انت تتكلم. ماذا قلت؟

-        ط..ب..لة

 * *

تتناثر خصلات شعره الأسود على جبهته وهو ينطوي على طبلته يقرعها بنقرات رتيبة. تأتي أمه كل يوم ، تجلس أمامه وتضرب على سطح مقعد خشبي  ضربات منغمة، فيرد عليها بنقراته الرتيبة، لكنه بدأ يرفع عينيه الى وجهها وهو ينتظر أن تنتهي من النقر ليرد عليها.

عندما يحين وقت الطعام، كانت الأم تضع الأطباق على مائدة الطعام في الغرفة المجاورة وتضرب على سطح المائدة .. دوم – دوم- تك وتنتظر، فيدخل الغرفة ليجلس في مكانه ، ثم ينظر اليها. تنقر مرة اخرى .. دوم – دوم – تك ويبدآن في تناول الطعام.

عند الانتهاء، يسرع الى غرفته ليختفي فيها ولا تسمع أمه في الساعات التالية سوى القرع العشوائي للطبلة.

ثم خطرت لها فكرة ، وما  أكثر الافكار التي تراودها حين تنهمك في غسل الاطباق وجليها في حوض المطبخ. تساءلت "لماذا لا نربط الكلمات بالنقر على الطبلة؟"

جففت يديها بسرعة ودخلت غرفته. جلست الى طاولة صغيرة أمامه ونقرت "دوم-دوم-ماما-تك-تك -نبيل" أعادتها أكثر من مرة . كرر الفتى النقرات بدون النطق بكلمة.

أعادت عليه "دوم-دوم- ماما" واشارت الى نفسها "تك تك نبيل" مشيرة اليه.

بعد عدة محاولات ، يئست من ان يستجيب لها باللفظ، تنهدت وتركته عائدة الى المطبخ. كان عليها ان تنتهي قبل المساء لتتفرغ لمحنة جر ابنها الى  الحمام للاستحمام الاسبوعي.

تأخذ بيدها ملابس نظيفة مطوية وتدخل غرفته وهي تقول بصوت منغم "حمام.. حمام"

في اول الامر لا يعيرها انتباها فتقرع على باب الغرفة ايقاعا معينا. يرفع نظره اليها لحظة ثم يعود الى استغراقه في ذاته. تتقدم منه محاولة انهاضه من  السرير، فيقاوم يديها ثم يقفز الى الارض ليهرول في ارجاء الغرفة ، فتلحق به وتمسكه بذراعين قويتين محاولة جره خارج الغرفة، واثناء ذلك تتساقط الملابس النظيفة بإهمال الى الأرض. يطلق صراخا مخنوقا محاولا انتزاع نفسه من قبضتها، يدير رأسه ويعض يدها بكل قوته.

تفلته وتخرج صارخة وتصفق الباب بعنف وراءها.

يمسك طبلته ويصرخ مهتاجا ويضربها بكل قسوة دوم – دوم ثم يصرخ "ماما" "دوم-دوم "ماما" وتزداد يده لطما لجلد الطبلة حتى ينشرخ ويحس بيده تهبط الى فراغ الجوف.

يهدأ ويتأمل الشرخ صامتا. ينقر على الجلد المقطوع، فلا يسمع له صوتا. يرمي الطبلة من يده بعنف الى السرير. يحدق بها قليلا ثم يزحف الى جانبها وتسقط دمعة تسيل الى هوة الجوف .

يفتح الفتى يده ويفرد اصابعه ثم يشير الى صدره بسبابته "ن..بـ..يـ..ل"

**

مرت أكثر من ساعة، وقد ران الصمت على البيت. سارت الأم بهدوء الى غرفته. نقرت على الباب. لم تسمع صوتا. واربت الباب قليلا. مدت رأسها.

كان منكبا على الطبلة يحتضنها وينود بجسمه معها بحركة رتيبة.

نقرت الأم على الباب النقرات المنغمة المعهودة. استمر الفتى ينود مع الطبلة. وقفت قريبة منه ترقبه وحين لم يشعر بوجودها منشغلا بما هو فيه، خرجت من الغرفة.

بدأ الليل يتسلل الى النوافذ بصمت حالك. قبل ان تخلد الى النوم، ذهبت اليه مرة أخرى. فتحت بابه وأطلت منه. كان وجهه يظهر من تحت الغطاء غائبا في النوم ، فاغرا فمه، والى جانبه رأس الطبلة المشروخ . خيل اليها انهما يصرخان صامتين.

**

تفزع الأم من نومها على صوت الباب الخارجي يفتح. تزيح الغطاء وتهرع الى الصالة فتجد الباب مفتوحا على مصراعيه وضوء الصباح يغشي البصر.

كان الفتى يركض محتضنا طبلته. تناولت الام شالا من  المشجب لفت به رأسها، وانتعلت حذاءها وانطلقت وراءه حتى اقتربت منه وهي تصيح:

-      نبيل !

لكنه لم يتوقف، بل استمر بالسير مسرعا وهي تحاول اللحاق به.

-      نبيل . انتظر . أين تذهب؟

وصلا التقاطع ولم يتوقف. حاذته وحاولت ان تمسك يده لعبور الشارع لكنه كان يلف ذراعيه حول الطبلة حتى انتهيا بسلامة الى الرصيف، فتنفست الصعداء وابطأ وجيب قلبها. سألته وهي تغذ الخطى خلفه:

-      أين تذهب يا نبيل؟

لم يلتفت  اليها. توقف عند السلم الذي يفضي الى عيادة الطبيب.

**

نظر الطبيب الى الطبلة الموضوعة على سرير الكشف، ورفع عينيه الى المرأة التي حاولت مداراة ابتسامتها المحرجة، ثم التقت عيناه بعيني نبيل.

-      ماهذا يا نبيل؟

جاهد الفتى ليخرج الكلمات :

-      ط-ب-ل-ة ، ط-ب-ل-ة ، ط-ب-ل-ة

وظل يردد الكلمة . قلبها الطبيب بيديه وسأل:

-      كيف تمزقت؟

ردد نبيل:

-      ط-ب-ل-ة

قالت الأم:

-      ضربها بشدة. كان غاضبا

قال الطبيب موجها الكلام للفتى ومشيرا الى نفسه:

-      أنا طبيب نبيل .. طبيب ماما. طبلة .. لا.

ثم التفت الى  الأم:

-      خذي الطبلة الى محل شرائها.

سألت الأم بقلق:

-      وهل يمكن إصلاحها؟

-      بسيطة . يمكن تغيير الجلد، أو  اشتري واحدة جديدة.

أشارت الأم الى  ابنها:

-      تعال نروح لطبيب الطبلة

أطاعها محتضنا طبلته. أوقفت سيارة أجرة.

في محل الالات الموسيقية ، قال البائع هو يشير الى الخرق:

-      أنا بائع ولست صانع هذه الالات. هناك مختصون بالتصليح. ولكن بدلا من التعب، اشتري واحدة جديدة.

وأشار الى رف عليه أنواع الطبل . التقط واحدة :

-      هذه شبيهة بطبلتكم لكن جلدها أقوى.

اختطف نبيل طبلته واحتضنها بشدة. ولم ينظر الى اي من الطبلات التي أنزلها البائع من الرف بألوانها المختلفة وزيناتها الجميلة. وكلما عرض البائع طبلة أخرى، ازداد الفتى تمسكا بطبلته المشروخة، ولما ازدحمت منضدة العرض بطبلات من كل الأحجام، بان الفزع على وجه الفتى واستدار يهرول متشبثا بطبلته باتجاه الباب، وأمه تحاول اللحاق به.

**

في ذلك النهار، تأخرت الأم في تحضير طعام الغداء، وحين  انتهت من إعداده كانت الشمس على وشك الغروب.

وضعت الأطباق على المائدة وضربت عليها مثل كل يوم "دوم-دوم- أكل" "دوم-دوم- نبيل".

رد عليها الصمت ، ولكن بعد عدة ضربات اخرى، انفتح باب غرفته فجأة وخرج الفتى وقد وضع فوهة الطبلة على فمه مثل بوق.

سمعت الأم صوتا يأتي عميقا كأنه ينبعث من غور سحيق:

"ماما.. نبيل.. أكل"

وضع الطبلة على كرسي الى جانبه، ونظر الى أمه وهي تبتسم في وجهه مذهولة.

زم شفتيه، ثم حركهما عدة حركات في كل الاتجاهات، ثم تمطت شفتاه بابتسامة عريضة.

**

كتبت في يناير 2021


الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما