الخميس، 17 مارس 2016

مغامرتي الكورية: بين التوبوكي والقمجي

كتب باء
بقلم: بثينة  الناصري
من يذهب إلى كوريا الجنوبية في هذا الوقت المتأزم (كان العام 2007)؟ رأيت  الإجابة واضحة فقد كنت العربية /الأجنبية الوحيدة على طائرة كل ركابها كوريون.
كانت قد وصلت دعوة من جامعة للبنات للمشاركة في حلقة دراسية حول المرأة والانترنيت.، وكانت ورقتي بعنوان (المرأة العربية أونلاين) ويصعب أن ترد دعوة مثل هذه، إذا كانت هي فرصتك لرؤية هذه المنطقة من العالم.

ونحن جالسون في صالة انتظار الطائرة الكورية، كانت أذناي تلقطان ما يخيل الي انها كلمة او جملة عراقية وإن كانت غير واضحة، أتلفت فإذا الكوريون يتحدثون.. نفس الحروف أحيانا ونفس اللكنة. 

كان جلوسي في الطائرة إلى جانب (لي جن سيوك) وهو شاب يعمل في شركة  سياحة وكان يرأس جولة سياحية إلى مصر، قبل أن يوضح هذا كنت قد سألته إذا كان طالبا.. تعرفون أن هؤلاء الاسيويين لايكبرون. وحين أراني أمه وكانت هي وأبوه معه ضمن الفوج السياحي، صدمت، فقد كانت تبدو مثل اخته الصغيرة.
تورط (لي جن) معي، ولهذا بعد الإستراحة في مطار دبي، غيّر مقعده ولا ألومه، فقد أمضيت الجزء الأول من الرحلة أسأله عن كوريا الجنوبية.. علاقة الشعب بالأمريكان.. الفقر .. ماذا عملت لهم القواعد العسكرية الأمريكية. وهل يطمحون إلى الإتحاد مع كوريا الشمالية؟ بالتأكيد لا ألومه على الإنتقال إلى مقعد آخر، فربما ظن أن أحدهم سلط عليه مخبرا.
ولكن إلى جانب كلام السياسة، أفادني كثيرا، فقد أعطاني – بناء على طلبي- دورة مكثفة سريعة في اللغة الكورية، وحفظت الأساسيات (العد بالأرقام) و (الحروف الثابتة وحروف العلة) وربط الأصوات لتتحول إلى كلمات. وتأثير اللغة الصينية على الكورية التي تكتب أحيانا بحروف صينية.
سالته عن جامعة البنات الداعية لي، فقال أن هناك أربع جامعات للبنات وأن سبب ذلك أن الشعب الكوري محافظ.
وحين قدم طاقم الطائرة طعام الإفطار الصباحي، كان يتكون من شوربة ذات رائحة لا تطاق (شوربة أعشاب البحر) ورز أبيض وطبق يجمع لحما مفروما الى جانب أنواع من الخضار (أعشاب بحرية و لا أدري ماذا) وطريقة الأكل انك تخلط الرز مع هذه العناصر ثم تضع عليه زيت السمسم (ويستخدم عندهم حتى في السلطة) وتضع على الخليط صلصة طماطم حريفة المذاق.
خيل إلي أن الطبق يشبه (الكشري المصري) ولكن بمذاق آخر.
قال "لي جن" أن شوربة أعشاب البحر يطعمونها للأم بعد الولادة، ويقدمونها للضيوف في أعياد ميلاد الطفل التالية.
وقد شرب حساءه بشغف من الوعاء مباشرة في حين أني وضعته جانبا لا أقوى حتى على النظر إليه.
مازال أمامنا 8 ساعات طيران من مطار دبي.
قال جاري في الطائرة حين سألته إذا كان هذا طعام إفطار أم غداء فالساعة مازالت العاشرة صباحا "عندنا الطعام نفسه في الإفطار والغداء والعشاء،لا يتغير".
زمن الرحلة 14 ساعة أو أكثر، وهذه أول مرة أسافر كل هذا الوقت. أليس أسهل أن نسافر عن طريق الإنترنيت؟ في ضغطة (فأرة) لاتستغرق سوى ثوان ، لنذهب إلى أقصى بلاد العالم.
تقلبت على مقعدين ضيقين. حاولت النوم بكل أشكاله..على ظهري، على جنبي، وأنا جالسة، ورأسي معلقة على ذراع الكرسي المعدني، أو مستندة على ظهر الكرسي .

نمت وأنا جالسة، ثم لما أحسست برأسي تنود إلى الأمام، أفقت مذعورة. ثم مالت رأسي مرة أخرى ومع كل ميل، أصحو فجأة وأتلفت حولي.أعوذ بالله. هل بدأت أنام وأنا جالسة كما كانت تفعل أمي؟ وهي وسط مجلس ضيوف أو أمام التلفزيون؟ كنا دائما نقول لها بلطف" إنك تغفين. إذهبي الى سريرك" ولكن أين سريري؟ وكم تبقى لدي من الوقت؟
فاحت رائحة زيت السمسم بين طرقات الطائرة، وقد عرفت  الآن أنها الرائحة المميزة لطعامهم. ولابد أنها سوف تطالعني في شوارعهم الخلفية. وهي ليست منفرة ولكنها غريبة عليّ.
كل بلد له رائحته الخاصة: مصر مثلا لها راحة (التقلية) وهي مزيج  الثوم والكزبرة والخل يقلى في الزبدة (الفلاحي) أو (النباتية).
العراق؟ رائحة البهارات : الكاري – الهيل – الكركم.
انتبهت الآن إلى أن الركاب جميعا من البالغين. ليس هناك طفل واحد من أي عمر، رغم وجود عائلات كاملة.
ربما السبب أنهم إما كوريون أو سواح مقتدرون يفضلون أن يسافروا بعيدا عن الأطفال أو أنهم رجال أعمال وتجار.

لم تتوقف المضيفات الكوريات عن الحركة. هؤلاء الرشيقات الجميلات يرفرن بين المقاعد وهن يحملن أباريق الشاي أو يدفعن عربة النبيذ أو الطعام، ويسألن الركاب بلكنة عجيبة. إنهن ينغمن أسئلتهن عما يطلبه المسافرون، أو هذا ماتناهى إلى سمعي. كنّ يحرّكن العربة وهنّ يعرضن البضاعة: قهوة؟ شاي؟ نبيذ؟ شاي أخضر؟ قهوة باللبن أو بدونه؟ كل هذا بمط الكلمة وكأنها لازمة موسيقية.
الطائرة تخترق الليل، ولا أدري كم بقي لنا حتى نصل.
جاءت المضيفة الآن بكعكة شاي مما نسميه (الكيك الانجليزي) وهو كما يبدو مخبوزا بالعسل. وقبل الظهر وزعوا (فول سوداني) مسكرا بالعسل، ولكنك لا تجد فيهم بدينا مع أنهم شعب يحب الرز والعسل وزيت السمسم والأعشاب البحرية (لاتذكروني بها) . كان في طعمها (زفارة السمك) فهي ليست عشبا وإن كان شكلها الشريطي الأخضر يوحي بذلك ولكنها بالتأكيد كائن بحري.
مازال أمامنا 3 ساعات.
***
بضربة صاعقة قنصت بعوضة كورية جنوبية، فالتصقت بجدار مكتبة صغيرة في غرفتي بسكن الطالبات أو (الضيوف) في القسم الدولي بجامعة البنات.
الغرفة فيها كل الأساسيات المطلوبة (ثلاجة – تكييف – تليفون) ولكن .. لا تلفزيون.
الصمت يغلف كل شيء. تكسو الأرضية والجدران مواد مانعة للصوت. حتى التكييف لا تعرف – إلا من نور أخضر صغير – إن كان يعمل أم لا.
ليس في الغرفة فقط، الشوارع صامتة. لا صوت ناس ولا سيارات، مع أنهم جميعا يزحمون الشوارع.
لايمكن أن يكون السبب إنغلاق أذني من ضغط الطائرة لأني أسمع من تكلمني بصوت منخفض.
ولكن المدينة صامتة.
في المبنى السكني: العاملون لا يتحدثون الإنجليزية وقد بذلت جهدي لأسألهم أين أغسل ملابسي، حتى قادوني إلى غرفة الغسالة الأوتوماتيكية، حيث عليّ أن أغسل ملابسي بنفسي، وجاءوا لي بمكوى مع منضدته.
إلى الآن كل شيء تمام.
عند الظهر، جاءت (مترجمتي) وهي طالبة تُكلَف أو تتطوع لمساعدة زوار الجامعة للترجمة. فتاة صغيرة مبهجة تدرس الإنجليزية وعلم الأحياء والإجتماع والفرنسية أيضا. قالت أنها تعلمت الإنجليزية في سنتين قضتهما للدراسة في نيوزيلاندة. إسمها (چن هيْ كيونج) ولكن للسهولة مع  الأجانب (مثل حالتي) سمت نفسها (إيلّا) وأخرى زميلة لها تسمي نفسها (إميلي) واسمها الحقيقي (چا يون كيونج) . لماذا غيرت اسمها؟ لأنها تعتقد أن  الأجانب لن يستطيعوا نطق إسمها. (بالضبط كما فعل المترجمون العراقيون في معسكرات الغزاة الأمريكان حيث استخدموا بدلا من أسمائهم : جون ومايك وريتا وليزا ودونالد الخ.) الإنسلاخ عن الإسم!! لماذا لا يتعب الأجانب أنفسهم في تعلم نطق أسماء الناس في البلاد الأخرى؟
تمشينا خارج المبنى السكني، وهي شوارع صاعدة نازلة ذكرتني بعمان وتركيا. كل شيء كان قريبا: البنك لتغيير العملة، والمطاعم بكل أشكالها: السريعة والتراثية والحديثة. باعة الفاكهة والخضروات، مكتبات، قهوة سريعة ومثلجات.. ملابس.
هذا هو الشارع الممتد بين سكني ومبنى الجامعة الرئيسي.
دخلنا مطعما للوجبات السريعة (الكورية). قالت (چن هيْ) أنها مطاعم الجيل الجديد التي لايرضى عنها الآباء لأنها لا تقدم غذاء متكاملا.
طلبنا (توبوكي) وربما يلفظ ايضا (تيوكبوكي) وليتنا ماطلبناه. قالت أنه (فطيرة الرز) وأشياء أخرى أشكالها جذابة ولكنها أيضا أنواع من أشياء محشوة بالإرز أو إرز محشو بأشياء.
التوبوكي
التوبوكي هو قطع مثل الأصابع يبدو أنها مصنوعة من (عجينة الرز) ومسلوقة ثم توضع في صلصة حارة. مشكلتها أني لم أعرف كيف أبلعها. كانت مثل علكة، تمضغها فتبقى في فمك. ولا أدري كيف التهمت مترجمتي طبقها بسرعة وأنا لما أنهي ربعه بعد. ويقدم مع هذه الوجبة شرائح أناناس مخللة.
إذن الهنود يصنعون من المانجو طرشي، والكوريون يفعلون ذلك بالأناناس.
والله أهل (چن هيْ) على حق حين يرفضون هذا الأكل
**
أجمل مافي المبنى الذي أسكنه: قاعة الإنترنيت. تعمل من الساعة 8 صباحا حتى 9 مساء مجانا.
حين عدت إلى غرفتي في المساء وجدت رسالة من واحدة اسمها ربيكا وتضع بعده بين قوسين (بروفيسور) تدرّس (إدارة أعمال) وتريد من (بروفيسور بثينة) أن تلقي محاضرة على طلابها غدا في الساعة 12 ظهرا.
أولا ياسيدتي أنا لست (بروفيسور) ولا أعتقد أني أحب أن أضع أي لقب فخيم قبل أو بعد إسمي، ثم ماذا ألقي على طلاب إدارة أعمال وكل الأعمال التجارية التي حاولت أن أمارسها في حياتي فشلت فشلا ذريعا؟
هاتفتها وسألتها بماذا تريدني أن أتحدث؟ وسألت بدورها عن مجال اهتماماتي . كدت أن أقول لها (كل شيء: سياسة – أدب – انترنيت – حياة- فن ..) ولكن بدا أنها تفضل الإختصاص الوحيد الذي لا أجيده: المرأة.
على أية حال سأقابلها غدا قبل موعد المحاضرة وسنرى.
++
ربيكا أمبو من الكاميرون، تدرس إدارة الاعمال في جامعة البنات ومتزوجة من أمريكي، وتعيش هنا منذ خمس سنوات.
جاءت في الموعد إلى مقر سكني، وما أن رأيتها حتى أحسست أني كنت أعرفها من قبل. وجهها من تلك الوجوه الأليفة التي تمنحك ذلك الإحساس.
قبل لقائها بساعة، وقع حادث سوّد أو لنقل (شوش) الدنيا في عيني. فقدت نظارتي الطبية. كنت جالسة في قاعة الإنترنيت، وحين لملمت حاجاتي للمغادرة، لم أجد نظارتي التي أضعها عادة إلى جانبي حين أجلس إلى الكومبيوتر.
كنت قد انتقلت من جهاز إلى آخر، وهكذا بحثت عنها وسألت البنات الموجودات بدون طائل. ها قد وقعت الواقعة والمؤتمر لما يبدأ. وهكذا كانت تلك اول معلومة أذكرها أمام ربيكا، وسألتها إن كانت تعرف طبيبا أو مستشفى للعيون؟ قالت (وهي نفسها تضع نظارة طبية) أن هناك محل نظارات في آخر الشارع، وأنهم يمكن أن يجروا فحصا ويصنعوا لي نظارة.
أسرعنا الى المحل. أجرى الرجل الكشف، وقال أن النظارة ستكون جاهزة في خلال ساعة.
عظيم! هكذا طارت النقود التي أوصاني إبني ان اشتري له بها هدية من كوريا.
++
بعد ذلك مضينا الى الجامعة، سألتها عما تريد أن اتحدث لطالباتها؟
قالت ربيكا:"أي شيء تريدين الحديث عنه. إن طالباتي لا يعرفن شيئا عن العالم الخارجي وأريد توسيع مداركهن."
كان مجموع الطالبات صغيرا. لايزدن عن العشرين. ورأيت أن أفضل مدخل أبدأ فيه كلامي هو أن أتحدث عن "المدونات" كوسيلة لتحرر البنت العربية من رقابة الأهل والمجتمع والسلطة. وقرأت عليهن إحصائية المدونات في موقع (مكتوب) ثم سألتهن إن كان لبعضهن مدونات؟ رفعت 5 منهن أيديهن، فطلبت من كل واحدة أن تتحدث عما تكتبه في مدونتها. 3 منهن قلن أنهن يكتبن عن الفن: الموسيقى والأفلام. وإثنتان قالتا أنهما يكتبن عن نفسيهما.
كانت تلك بداية طيبة للخلاص من  الحديث، ثم أني بطبيعتي أحب أن أستمع أكثر مما أتكلم. حين أستمع أتعلم شيئا جديدا. ومن الممتع الإستماع للأجيال الجديدة  لأنهم يرون العالم بعيون غير عيونناـ ويرون أحيانا ما لا نرى (مع أن نظارتي جديدة).
بعد عدة جمل عن علاقة المرأة بالإنترنيت. طلبت منهن أن يطرحن أي سؤال- وكما هو متوقع كانت أسئلتهن خارج موضوع (المحاضرة) .
كان أول سؤال عن الرئيس صدام حسين. وتوالت الأسئلة : الإحتلال الأمريكي وحالنا بعده. هل المرأة تحررت بالإحتلال كما وعد بوش؟ كيف سنعوض نهب متاحفنا وآثارنا وتدمير مكتباتنا؟
وهنا بدأت (محاضرتي) الحقيقية.
بعد الإنتهاء ونحن نتناول الغداء قالت ربيكا أنها تشعر بالدهشة لتفاعل طالباتها لأنهن عادة لا يتجاوبن . ماذا أقول لها؟ ربما لم تعرف كيف تحرك فيهن الرغبة في الحديث؟ ربما كانت تملي عليهن المعلومات دون أن تحاول أن تتعلم منهن؟
بعد أيام سلمتني ربيكا ورقة فيها  كلمات ملونة للطالبات يعبرن فيها عن سعادتهن باللقاء. كتبن سطورهن بألوان براقة مختلفة من الأصفر الذي لا يقرأ إلى الأحمر والأزرق وكل ألوان قوس قزح.
++
في اليوم التالي ، كان افتتاح الحلقة الدراسية. قاعة كبيرة وجمهور قليل ولكن نوعي. رئيسة الجامعة، ورجل يمثل وزارة  اسمها بالكوري (المرأة والأسرة) واسمها المترجم الى الانجليزية Ministry of Equality of Gender and Family
سألته بعد أن أنهينا قراءة أوراقنا عن سر عدم تطابق الإسمين (بل بعدهما في المعنى) ففي حين أن المرأة والاسرة اسم تقليدي لايعني بالضرورة مساواة المرأة ، فإن الإسم الانجليزي يرضي دعاة (تحرير المرأة ) الذين ابتدعوا مصطلح الجندر . قالت استاذة كورية إلى جانبي (برافو أنك قلت له هذا) . ضحك الرجل وأوضح أن اسم (المرأة والأسرة) هو ما أقرته الحكومة.
وبيني وبين نفسي فهمت أن الإسم الإنجليزي من قبيل الدعاية والإعلان فالمرأة الكورية بالتأكيد غير متساوية مع الرجل، وإلى جانب وجود جامعات خاصة للبنات فإن المجتمع الكوري يفضل الرجال حتى أن المرأة الحامل إذا عرفت بالطرق العلمية من طبيبها أن المولود أنثى أجهضته. وقيل لي أنه صدر قانون يمنع الطبيب من إعلام الحوامل بنوع المولود مسبقا. ولكن بعض الأطباء يلبي عادات مجتمعه، لكنه - تقيدا بالقانون - لا يصرح بشكل واضح لئلا يتحمل المسؤولية، وإنما قد يقول للأم: عليك ان تشتري الملابس الوردية  (إذا كان الجنين انثى) أو الملابس الزرقاء (إذا كان ذكرا)
++
في اليوم التالي لانتهاء المؤتمر، كنا على موعد لرحلة إلى الحدود بين كوريا الجنوبية والشمالية وتسمى DMZ أي المنطقة منزوعة السلاح.
كان المرشد السياحي في الحافلة التي أقلتنا من ساحة الجامعة، شابا (أتضح فيما بعد أن عمره 42 ) يتكلم الانجليزية جيدا. ظل طوال الرحلة يتحدث عن نفسه بزهو ومرح. وكأن الرحلة كانت للترويج عنه:
"إسمي سي كي CK هذا ما كانوا ينادونني به في هاواي وهو اختصار اسمي چون كيم. انتم معي في أيد أمينة. استطيع أن أفعل أي شيء. إسألوا سي كي فقط. من حسن حظكم أني معكم .."
ثم أتضح طبعا أنه لا يستطيع أن يحقق ما وعدنا به من تجاوز اللوائح. مثلا قال (ممنوع تصوير الضباط والجنود.. ولكن طالما سي كي معكم فسوف يمكنكم من ذلك)
ولكن في الموقع قال لنا (اطلبوا من ذلك الجندي أن تتصوروا معه إذا أردتم. إذا طلبت أنا منه سوف يتضايق ولكنه لن يرفض طلبا للنساء)
وعلى هذا النمط، ظل سي كي يحشو أسماعنا بهذره اللطيف، ولكن حين بدأ يتلو علينا بروباغندا كوريا الجنوبية ضد الشمالية، انصرفت عن سماعه.
وقد تبين أن الرحلة ذاتها من أولها إلى آخرها نوع من الدعاية السياسية الأمريكية ضد كوريا الشمالية. أن نسمع من جانب واحد كما من  الحكايات التي ما أنزل الله بها من سلطان.. مثلا كان ضمن الجولة دخول نفق محفور بين  الكوريتين. وقيل لنا أن هذا ثالث أو رابع نفق وأن كوريا الشمالية استخدمت سجناء لحفره من أجل التسلل إلى كوريا الجنوبية، ثم حين دخلنا النفق الطويل، وجدنا جدرانه سوداء. قال المرشد: ضعوا أيديكم على الجدران سوف ترونها تصطبغ باللون الأسود. هذا فحم لطخ به الكوريون الشماليون جدران  النفق للإيحاء بأنهم كانوا ينقبون عن الفحم!!
ولماذا لا يكون ذلك صحيحا؟
النفق بين الكوريتين في المنطقة منزوعة السلاح
من ناحيتها، تنفي كوريا الشمالية أنها حفرت الأنفاق وتقول العكس أي أن كوريا الجنوبية هي التي حفرته.
كانت المنطقة تشمل بانوراما، ومتحفا ومرصدا تستطيع عبره أن ترى بالتلسكوب قرية حديثة جميلة مبنية في كوريا الشمالية، ولكن المرشد وكتب الإرشاد الكورية  الجنوبية تسمي هذه القرية (قرية البروباغندا) أي أن كوريا الشمالية تجشمت عناء بناء قرية طويلة عريضة من أجل خداع الناظرين في المرصد. يقولون ان القرية خالية من السكان.
القرية في كوريا الشمالية كما نراها من مرصد في كوريا الجنوبية
ومن ضمن الجولة، آخر محطة سكة حديد كانت تجري بين الكوريتين، وهي اليوم أشبه بمتحف، يقدمون لك فيه بطاقات سفر (فخرية) للذكرى، على أن تستخدمها بعد دمج الكوريتين، كما يمكنك أن تحصل على ختم السكة الحديدية إذا شئت على جواز سفرك.

آخر قطار عبر الحدود وهو الآن مثل أثر تاريخي
اشترت لي إحدى المترجمتين الموكلتين بي بطاقات سفر قائلة "ربما تستخدمينها يوما ما"
محطة القطار المتحف في المنطقة منزوعة السلاح
 
شيء عجيب .. كل هذا التوق (الرسمي) لتوحيد الكوريتين في حين أن الأجيال التي أعقبت الحرب الكورية لديها رأي آخر.
مثلا سي كي وهو في اوائل الأربعين يقول أن دمج الكوريتين سيأتي بكوارث اقتصادية لن تطيقها كوريا الجنوبية، كما حدث في ألمانيا بعد سقوط جدار برلين.  ويتطابق رأيه مع رأي جيل الشباب مثل الطالبتين المتطوعتين للترجمة، حيث قالت إحداهن "إننا في الحقيقة لا نفكر بكوريا الشمالية، ولا نعرفها. لأننا لم نعش الحرب وافتراق العائلات. وبلادنا هي كوريا هذه.
++
حتى تتعرف على بلد جديد حق المعرفة ، عليك أن تضيع فيه.
بعيدا عن الجولات المبرمجة وبعيدا عن منظمي المؤتمرات. خذ خارطة وابدأ مغامرتك. اركب قطار الأنفاق أو إركب قدميك. عرج على الأزقة والأسواق الشعبية وإجلس على حافات البحيرات واخترق الغابات.
لابأس أن تضيع. كلما تهت، اكتشفت عوالم أخرى.
ما أن انتهى المؤتمر وجولته المبرمجة مع سي كي، تنفست الصعداء.
قالت جارتي الفرنسية فلورانس "أذهب معك في جولتك غدا"
ولكنها في اليوم التالي وأنا أقودها الى قطار الأنفاق القريب من السكن، أصابها الذعر وقالت "لنأخذ سيارة أجرة وأنا أدفع أجرتها"
لم أمانع ولكن يبدو أن فلورانس لم تجرب الضياع في بلاد الغربة.
قالت أنها فعلا، لم تتعود إلا السفر مع المجموعات السياحية حيث يتم ترتيب كل شيء مسبقا.
كان مقصدنا سوق إنسادونج Insadong وهو سوق كبير يتألف من شارع رئيسي تقطعه عدة أزقة عتيقة حافلة بمعارض الفن الكوري الحديث والمصنوعات التراثية من الخزف والحرير المطرز والخشب المحفور والصدف والورق.
سوق انسادونج في العاصمة سيؤل
قبل أن ندلف الى السوق، عينت على الخارطة، معبدا بوذيا قريبا. لم نستطع دخول مبنى المعبد ذاته ولكن كانت الساحة المحيطة به مزدحمة بالنساء والرجال الكوريين والأجانب وهم جالسون على حصران على الأرض يستمعون لخطبة الكاهن البوذي الذي لم نره، وإنما كانت هناك شاشة كبيرة تصور الخطبة، وفي أرجاء الساحة، أماكن لإشعال الشمع وعيدان البخور. وهناك نصب أمامه تمثال صغير لبوذا والناس تضع قرابين وعطايا عبارة عن أكياس صغيرة لا أدري ما بداخلها وإن كنت أخمن أن يكون إرزا. كما أن بعضهم قد وضع زجاجات ماء معدنية وعلب بيبسي وكوكاكولا (!!)
 
معبد جوكيسا قرب سوق انسادونج. تمثال بوذا في مقدمة الصورة حيث توضع حوله النذور
وهناك متجر يبيع كل هذه الأشياء.
اشتريت شمعتين أعطيت أحداهما لفلورانس وقلت لها "تعالي نتمنى أمنية"
اقتبسنا نار شمعة تحترق، وثبتنا  الشمعتين وسط الشموع الملونة.
++
في طائرة العودة الى القاهرة، ما أن صعد الركاب الكوريون (سواح أو تجار أو دبلوماسيون) حتى فاحت رائحة مميزة في جنبات الطائرة. اكتشفت أن كل راكب كوري (إمرأة أو رجل) يحمل في حقيبة السفر اليدوية وعاء مليئا بالكمجي (دعوني أسميه القمجي) وهو طرشي أو مايشبهه يصنع من الخضروات مثل اللهانة (الكرمب) أو الخيار أو غيرهما والتي تكبس طوال الموسم في براميل، وتخمر في الشمس، مع كمية كبيرة من البهارات الحريفة الخاصة. وهو لا غنى عنه في أي مائدة كورية لفتح الشهية.
الكمجي

وبالتأكيد لم يكن ليجد الكوريون الكمجي في القاهرة، فلابد من حمله معهم. هل يذكرك ذلك بعادتنا كلنا من حمل أطيب مأكولاتنا مع كل رحلة الى بلاد برة؟
----
* ملاحظة: الصور المرفقة من الانترنيت وليست من كاميرتي الخاصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما