الأحد، 17 أكتوبر 2021

تقرير يومي

قصة قصيرة 

 بثينة الناصري 

لمدة ثلاثة شهور، قبل تقاعدي، كُلِفت بمهمة مراقبة مشاغب سياسي، وكتابة تقارير يومية عن حركاته، وسكناته، وهي من المهام التي طالما قمت بها، طوال حياتي الوظيفية، خير قيام ولم يكن في الأفق ما يوحي، ولا كان يخطرعلى البال بأن هذا التكليف الأخير سيكون مختلفا عما سبقه.

تقرير أول

(إنه في الساعة الثامنة، من صباح يوم السبت 8/11/1995 إستلمت واجبي لمراقبة منزل المدعو حميد عبد الحق، الكائن في 4 شارع النصر. وقد نزل المذكور في الساعة التاسعة والنصف، وتمشى مسافة 200 متر باتجاه الشارع الرئيسي، ثم استقل سيارة اجرة. تبعته بأخرى، حتى توقف امام مبنى صحيفة (الحضارة)، وهبط وهبطت وراءه، وانتظرته خمس ساعات بالتمام، خرج بعدها مع إثنين من الشباب. أحدهما يضع نظارة طبية، والآخر له شارب كث. وقف الثلاثة يتحدثون حديثا لم أستطع الإقتراب، لأسمعه ثم ابتعد الشابان، ومشى المذكور باتجاه السوق، حيث توقف عند بائع فاكهة، واشترى تفاحا ثم أشار إلى سيارة اجرة، واستقلها وكنت وراءه حتى وصلنا البيت.

في تمام الساعة الخامسة مساء، جاء الشاب الذي يضع نظارات طبية، وتم ذكره آنفا، وهو يحمل حقيبة أوراق، ودخل المنزل، وخرج منه بعد 45 دقيقة. ولم يحدث شيء، حتى الساعة العاشرة مساء، حيث خرج المذكور، وهو يرتدي ملابس رياضية، وأخذ يمشي بسرعة، وأنا وراءه، حتى وصل الشارع الخلفي، فأخذ يعدوعدوا خفيفا، وأنا وراءه، من أول الشارع إلى آخره، ثم اجتاز عدة شوارع جانبية، حتى رجع إلى شارع النصر، ودخل المنزل، ولم يخرج منه بعد ذلك.)

كان صوت لهاثه يلفح اذني، وهو يجري أمامي، وأنا امشي بخطوة خفيفة سريعة، أكاد أكتم أنفاسي المتلاحقة، خشية أن يكتشف وجودي، حتى إذا ابتعد مسافة طويلة، وكاد يغيب عن نظري، في عطفة شارع جانبي، حثثت السير، وهرولت قليلا،على اطراف اصابعي، لئلا يحدث حذائي الحكومي، جلبة في هدأة الليل. وسرنا على هذا المنوال، خمسة أيام قبل أن تطرأ على ذهني فكرة. ضبطت الوقت الذي تستغرقه هرولة الساعة العاشرة اليومية فإذا هو 30 دقيقة. في الليلة التالية حينما غادر المنزل مساء، مرتديا ملابسه الرياضية، لبدتُ في مكاني الخفي، وعيني على ساعتي، وكما توقعت، ما أن مرت الدقيقة الثلاثون، حتى رأيته عائدا، متقطع الانفاس، فابتسمت وأنا اشكر الرجل في سري، على إلتزامه التام بروتينه اليومي. وفي تقارير الايام التالية، كنت أذكر خط مشوار الرجل الليلي، وكأني أتبعه أقرب اليه من ظله، حتى جاء يوم مَرّ فيه الوقت المحدد، دون أن يعود.

رفعت رأسي منتبها، وتلفت حولي مذعورا ونقرت ساعتي عدة مرات، لئلا تكون اختلت، ولكن مرت ساعة، ثم اقتربنا من منتصف الليل، وإذا به راجع، بطيء الخطو، هاديء النفس، يحمل رزمة، لم أتبينها، تحت إبطه. وَجمت في مكاني، حتى إني لم أتحسب لاحتمال أن يراني. أين كان خلال هاتين الساعتين؟ و ما الذي أتى به يحمله؟ كيف لي أن أعرف؟ وماذا سأكتب في تقرير ذلك اليوم؟

أخيرا لم أجد بدا من إغفال هذه السقطة، في التقرير، ولكني من يومها ماعدتُ أدعه يغيب عن ناظري لحظة واحدة.

كان المدعو حميد عبد الحق، طويل القامة، نحيف البنية، خفيف شعر مقدم الرأس، وفي عينيه الضيقتين، يلوح مكر ودهاء، ويغطي فمه الباسم دوما، شارب انيق، يختلط السواد فيه بالبياض.

تقرير

(إنه في الساعة التاسعة، من صباح يوم الجمعة 22/12/1995 وبعد استلامي واجبي بساعة، أطل موضوع المراقبة من نافذة علوية، ونادى فتحي البواب الذي انطلق داخل المبنى بسرعة، وبعد قليل، خرج وهو يقبض على بعض العملات النقدية ومشى باتجاه السوق. وعندما عاد قطعت الطريق عليه، وسألته سؤالا عابرا، وأنا أتفحص مايحمله. كيس يضم خمس بيضات، وكيس آخر، ملوث بآثار دهن طعام، وكان يتأبط جريدة لم أتبين إسمها ثم تركني، ودخل مسرعا.  قبل صلاة الجمعة وحين كان بعض شباب الحي يلعبون كرة القدم، في الشارع تحت المنزل رقم 4، كما هي عادتهم كل يوم جمعة، نزل المدعو حميد عبد الحق بملابسه الرياضية، وعندما سلم بصوت جهوري على الشباب، إلتفوا حوله، كان يطبطب على أكتافهم وهو يحدثهم حديثا طويلا دون أن أستطيع الإقتراب والإستماع. ثم فجأة إنقسم الشباب فريقين. إنضم المذكور إلى أحدهما، ولعب بخفة ومهارة، حتى أنه سجل خمسة أهداف قوية، وكان الشباب من كلا الفريقين، يهللون مع كل هدف، ويصفقون)

أخذتني قدماي إلى حيث يتحلق المتفرجون حول الملعب .. وجدتني أصفق بحماسة، لكل هدف يسجله حميد عبد الحق .. بل إني كنت أتلفت، وأنظر في العيون، وكأني أشهد الناس على ما يربطني به من صلة وثيقة .. وقد كان حقا يستحق الإعجاب بمهارته، وحيويته التي فاقت شبابا أصغر منه سنا. وكدتُ مرة أو مرتين، أبوح لجيراني المتفرجين بسرّ لياقته التي طالما أنهكتني الهرولة وراءه، كل مساء. بعد الهدف الأخير، رفع حميد ذراعيه وأعلن إعتزاله اللعب، وغادر راكضا نحو البيت.

لم أكن في عجلة من أمري . كنت أعرف إنه لا يخرج صباح الجمعة للصلاة أو أي مكان آخر وأني قد أنتظر، حتى هبوط الليل، قبل أن يطرأ جديد.

كان قد مر أكثر من شهر على مراقبتي إياه، حتى صرت أعرف كل تفاصيل حياته .. أصحابه ومريدوه ، طعامه وشرابه ..أعرف مثلا أنه يعيش وحيدا بلا أسرة، لكنه يعيش حياة إجتماعية حافلة .. يزور ويزار. أصدقاؤه من كل الاعمار .. غالبا ما يضع كفه على كتف الشاب منهم وهو يحدثه حديثا وديا. كان يقف على باب البيت دقائق طوالا، وهو يتحدث أو يستمع لرفيقه قبل أن يحييه، ويدلف إلى البيت. كان يتصرف، وكأنه يمتلك كل الوقت. فلم أره متعجلا سوى ساعة ذهابه إلى المكتب صباحا.

في أحيان كثيرة، كنت أسائل نفسي، إذا كان قد أحس بوجودي. ولكن إن كان قد فعل، فلم يبد عليه ذلك، ولم يغير شيئا من عاداته. وقد كان هذا يعذبني بشكل ما. كنت أتمنى لو إنه يراني ويعمل على مراوغتي .. هكذا يكون إعترافا منه بوجودي. ولكن أن يتصرف وكأني كائن غير مرئي، لايُحسب له حساب؟ لقد كان ذلك شيء أكثر مما يُحتمل. لقد راودتني نفسي أن أرتكب عمدا غلطة ما، لأعلن عن وجودي، وأحيانا أخرى، كنت أبكّت النفس لتهافتي، وأعجب كيف – بعد كل سنوات العمل الطويلة - تكون مشاعري بهذه الرخاوة! هل هو أثر التقدم في العمر؟ أم بسبب حقيقة أن هذه المهمة، هي الأخيرة قبل إحالتي على التقاعد؟ لا أدري ماذا حدث وكيف حدث.

لكن يُرضي ضميري أن تقاريري، كانت شاملة، وافية، لا تشوبها شائبة، أو نقصان، وإنْ وجدتُ أنه كلما ازدادت تقاريري اليومية تفصيلا، زاد تعلقي بالرجل – وكنت أرى في هذا غرابة لا تفسير لها، لاسيما وإنني حين استلمت المهمة، كنت قد حُذرت بحزم أن موضوع المراقبة شديد المكر والحيطة.

تقرير

(إنه في يوم 31/12/1995 الذي مر عاديا طوال الصباح، ولكن بعد صلاة العصر، كانت هناك حركة غير طبيعية في البيت رقم 4 شارع النصر. راح البواب وجاء اكثر من مرة محملا بالاطعمة والفاكهة – وقبل المغرب بقليل، هبط حميد عبد الحق، حاملا حقيبة جلدية، ومشى ناحية شارع جانبي، وتوقف عند احد البيوت المعروفة ببيع الخمور، بعيدا عن انظار الحكومة. دخل البيت، وخرج بعد قليل، مثقلا بقناني الخمر، كما يبدو واضحا من إنبعاج وإنتفاخ جلد الحقيبة، في اكثر من موضع.

في حوالي الساعة العاشرة مساء، تقاطرعلى البيت الكثير من الاشخاص .. وجوه كنت أعرف بعضها، وجاء بعضهم، برفقة نساء يرتدين ملابس سهرة)

تذكرت فجأة، أنه في هذه الليلة، يحتفل الناس بنهاية عام، وطلّة عام جديد. كان البرد شديدا. إلتففت بمعطفي الخفيف، ونفخت أنفاسا حارة في باطن كفي .. وأخذت أروح وأجيء لأبعث الدفء في أوصالي. إقتربت من النار التي أوقدها الحارس الليلي. حييته ووقفت أتدفأ. رد تحيتي باقتضاب ولم يسألني شيئا. كان قد تقبل وجودي، طوال الليالي الماضية، ويخيل إلي أنه كان يحدس مهمتي، واذ لم يجرؤ على سؤالي، فلابد أنه أدرك جهة عملي فآثر السلامة. تبادلنا حديثا قصيرا حول برودة الطقس، والمشاكل المتوقعة التي يمكن ان يثيرها السهارى، والسكارى هذه الليلة. حانت مني إلتفاتة إلى النافذة العلوية للبيت، فرأيت ظلال أشخاص تتحرك، عبر الضياء المنبعث من الثريا الكبيرة التي كنت أستطيع رؤيتها من مكاني. ولا أدري كيف راحت افكاري، لبيتي القابع في ذلك الحي الفقير. بيتنا الذي لا ينيره غير فانوس نفطي .. تراءت لي إمرأتي تغط في نومها بين أجساد أولادنا الخمسة، غائبة عما يحدث من سنة تمضي، وسنة تجيء. فالسنوات في بيتنا واحدة، بل حتى نهارنا يشبه ليلنا، لأن نور الله الذي يشع كل صباح على الخلق، لا يدخل البيت الغارق أبدا بالظلمة.

قطعت أفكاري انفجار ضحكات نسائية. رفعت رأسي إلى النافذة المضاءة، وابتسمت. كنت أحس بشكل غامض، أني جزء من هذا العالم الذي أضعه صوب أنظاري، ليلا ونهارا .. هذا العالم الذي صرت أعرف كل تفاصيله، كما أعرف مسام جلدي. فركتُ كفي في لهب نار الحارس الليلي، ثم حييته، وأنا أغادره إلى مكاني المعهود. كنت أريد أن أختلي بنفسي، وأنا أحدق، بكل جوارحي، في النافذة العليا. هل أرى حقيقة أم أنه خداع نظر؟ خيل إلي أني أرى ظلالا تتمايل على صوت الموسيقى الصادحة عبر الزجاج والجدران.

وفيما كانت عيناي تتسلقان النافذة في محاولة لاستجلاء مايحدث، إنطفأ النور، وساد ظلام عدة ثوان، ثم زعق الضوء مع هتافات، وتهليل، حتى غطى على صوت الموسيقى. تفحصت ساعتي. كانت الثانية عشرة. شعرت بالبهجة تغمرني. إذن هكذا ماتت السنة القديمة راحت بشرها وخيرها في طيّ الظلام، ومع انبلاج النور، ولدت سنة جديدة .. سنة خير إن شاء الله . كانت هذه هي المرة الاولى التي أكون فيها جزءا من هذا الحدث. وجدت نفسي أضحك ساخرا، وأنا أتذكر أم الأولاد التي تغفو الآن، غافلة عن الدنيا، ومايجري فيها.

ثم طرأ على ذهني أنه لا شيء تغير حقا فيها. أنا مازلت في موقعي تحت البيت رقم 4 .. كتبت عنه صحائف من التقارير في السنة التي ماتت، وسأكتب من الغد، مع بداية السنة الوليدة، تقارير اخرى. فما الذي تغير بالنسبة لي، أو بالنسبة لحميد عبد الحق؟ فإني موجود في لوح قدره، عبر سنة فاتت، وسنة قادمة .. ما أشد السخرية: أن يضحك الرجل، ويمرح هذه الليلة دون أن يعرف أن هناك رقيبا يحصي عليه أنفاسه! تراءى لي وجهه الباسم دوما، رغم عينيه الماكرتين .. شعرت بفيض من الألفة نحوه، وشيء من الأسى، وسمعت نفسي اتمتم:

"كل سنة وانت طيب. ياحميد يابن عبد الحق "

ولكن الأيام التي تلت كانت تحمل أكثر من جديد، فما أن مر اسبوعان، حتى بُلغت بانتهاء مهمتي. لم  أدر لحظتها، هل كان ذلك يعني رفع المراقبة؟ أم أن شخصا آخر قد حل محلي؟ لم يكن لي أن أسأل أكثر مما ينبغي. ولم توكل إلي مهمة اخرى، بل كان علي أن اقضي الأيام الباقية حتى تسوية راتبي التقاعدي بين جدران المديرية. في أول يوم بعيدا عن حميد عبد الحق، شعرتُ بافتقاد روتينه الذي صار نهج حياتي، لمدة ثلاثة شهور.

وقد قضيت ذلك اليوم، وأنا أكتب في خيالي تقارير وهمية .. الآن خرج إلى المكتب .. الآن عاد. هل إشترى اليوم تفاحا؟ لابد إنه يتهيأ الآن لرياضته اليومية. وأرى ابتسامته الهادئة، وهو يضع يده على كتف محدثه. وكان إحساسي بالضياع في الأيام التالية أشد حدة على غير المتوقع، فبدلا من الإنغماس مع جلبة العمل، داخل المديرية .. كان توقي إلى ذلك الروتين الذي غادرته مرغما يزداد شراسة.

وفي البيت سألتني إمرأتي:

- مالي أراك قلقا؟

- لاشيء. لكني غير معتاد على قضاء كل هذا الوقت في البيت.

- وماذا ستفعل إذن، لما تحال على التقاعد؟

تساءلتْ بنبرة ساخرة.

ولم يطل الوقت، حتى ألفيتني استيقظ ذات يوم، مع إدراك أن وقتا طويلا صار ملكي. بدأت أخرج إلى المقهى المجاور. كنت أجلس وأطلب شايا، وبعد قليل أشرع بالقلق وآخذ في استطلاع ساعتي، بين حين وآخر. لقد أزف موعد وصوله. وأظل أتململ على الكرسي، وأستعيذ بالله حتى أرغم نفسي على مغادرة المقهى إلى البيت.

ولكني في أحد الايام لم أطق صبرا. فعزمت أمرا. خرجت قبل الظهر بقليل، وعيني على الساعة. كان قد مضى أكثر من شهر على إنقطاعي عن ذلك البيت في شارع النصر، وكان علي أن ألحق ساعة رجوعه.

هبطت الشارع أخيرا، وكأني أعود إلى أهلي وناسي. تفرست في الوجوه التي أعرفها والتي مازالت كما عهدتها، وكأن شيئا لم يتغير. نظرت إلى الساعة. لم يبق إلا دقائق على وصوله، إذا كان مايزل ملتزما بنهجه. لم اشأ أن أتخفى في مكاني القديم. تمشيت على مهلي، ثم أعدت النظر إلى الساعة، ورفعت رأسي، فإذا بعيني تصطدمان بعينيه. كانت أول مرة تلتقي عيوننا. توقف كلانا ودون أن أدرك وجدتني أمد له يدي كما لو كان صديقا قديما :

- السلام عليكم. كيف الحال؟

صافحني باقتضاب، وهو يرد:

- وعليكم السلام.. وكيف حالك ياعم صالح؟

كانت المفاجأة حقيقية:

- الله؟ تعرفني وتعرف اسمي؟     

شملني بعينيه الماكرتين، وهو يقول:

- صالح عبد الصمد.. متزوج وعندك خمسة أولاد وأُحلت على التقاعد من إسبوع.

هتفت بدهشة:

- ولكن تعرف كل شيء عني؟

ضحك، وقال، وهو يضع يده على كتفي:

- لقد افتقدناك يارجل.. كيف الحال؟

**

نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) الصادرة في القاهرة وبغداد 1998


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما