كتب باء
انتهى الكلام .. ومازالت نادية في وجدان كل عربي.
حوار أجرته بثينة الناصري ونشرته مجلة
(ألف باء) العراقية في 14 تشرين الأول/اكتوبر 1992
القاهرة - حين طرقت بابها مساء متأخرة ربع
ساعة عن موعدنا .. وفتحت وهي ترحب وتعرب عن قلقها من التأخير وكأنها تستقبل صديقة قديمة،
لم أكن قد أعددت اسئلة مسبقة. كانت تحدوني الرغبة فقط في أن أعرف الإنسان داخل الفنانة
التي طالما عشنا معها على الشاشة الكبيرة. ولم أكن قد هيأت نفسي لسهرة تمتد لأ كثر
من ثلاث ساعات تحدثنا فيها بشكل متواصل في التاريخ والجغرافية والسياسة والفن والمرأة
والحب وفي أشياء تقال وأشياء لا تقال.
وحين انتزعت نفسي على غير رغبة مني وقد
قاربت الساعة الحادية عشرة مساء، خرجت وأنا مأخوذة تماما.
قالت لي معلقة على ملاحظة حول حقيقة اسمها:
- اعتبر نفسي من المحظوظين
لأن الناس لايختارون اسماءهم في حي أنني اخترت اسمي بمزاجي. في الوقت الذي قدمني فيه
رمسيس نجيب الى السينما كان هناك نهضة انتاجية وكان هناك تنافس من ابرز بيوتات الانتاج
في حينها. كان هناك : رمسيس نجيب - شركة دولار - الشرق - جبور - ماري كويني - اسيا
- مصر الجديدة، وغيرها. وكان عندما يظهر وجه جديد كان المنتج يستشير لجنة كبيرة من
النقاد والمصورين والكتاب. وقد وجدوا أن اسمي (بولا محمد شفيق) غير مناسب واقترحوا
اسم (سميحة حسين) ولكني لم اكن اتصور ان يكون اسمي سميحة فقد كنت احب من الاسماء ليلى
ونادية ، وكنت اقرأ في ذلك الوقت قصة احسان عبد القدوس (لا أنام) فاخترت اسم بطلتها
(نادية لطفي) ولكن حين ظهر اسمي هذا قام احسان عبد القدوس برفع قضية على رمسيس وطالبه
فيها بتعويض.
+ بأي الإسمين يناديك
أصدقاؤك ؟ بولا أم نادية؟ ولأي منهما ترتاحين؟
- أصدقاء البيت والدراسة
ينادونني باسم بولا، واصدقاء السينما باسم نادية او بولا. لقد اعتدت على تلبية النداء
بكلا الاسمين ولكني ارتاح لطريقة النداء بالاسم .أحس ذلك بذبذبات الصوت. ذبذبة الصوت
تؤثر فيّ أكثر من العين.
كنا نجلس في صالون بيتها الذي يغلب عليه
طابع التاريخ. قطع أثاث متوارثة مطعمة بالصدف. على منضدة تراصت آنيات فضية عتيقة. على
منضدة أخرى انتيكات خشبية غريبة الشكل . على بوفيه طويل اصطفت أوان من الكريستال ينتصب
بينها حذاء وردي اللون رشيق بكعب عال. لما تأملته مذعورة وجدت إنه في الحقيقة تليفون.
على منضدة منخفضة اخرى وضعت نباتات الظل في زهريات مختلفة الاشكال.
- أنا أحب حقا الأشياء
المصنوعة من القش أو الخشب أو الفخار. لا أحب الكريستال والفضة او البلاستك أو أي شيء
صناعي.
على الجدران علقت لوحات فنية مختلفة للفنانين
جورج بهجوري وايهاب ويوسف فرنسيس ورسامين من لبنان والمغرب. ابرزها لوحة كبيرة ليوسف
فرنسيس تمثل امرأة شاحبة الوجه ترتدي رداء أبيض وتزحف على وجهها حشرتان . المرأة محصورة
داخل ألواح خشبية بارزة قد تكون قضبان سجن أو ألواح تابوت.
قالت بولا :
+ هذه اللوحة تمثل العدم. هل ترين الشعر
الذهبي الذي يحيط وجه المرأة ثم انظري الى شحوب وجهها والحشرات وهي تزحف عليها. اللوحة
كما أراها تقول أن كل شيء فان.. الموت هو الحقيقة الوحيدة. وقد اعترض اصدقائي على وضع
هذه اللوحة في الصالون فقد كانوا يرون ان مكانها المناسب هو مركز او متحف.
سألتها وأنا أتلفت حولي:
+ إني لا أرى صورة
واحدة لك بين هذا الكم من اللوحات والصور. أليس هذا شيئا غريبا من فنانة جميلة؟
ضحكت وقالت باستغراب:
- انك تسأليني عن شيء
لم أفكر به من قبل. وأنا فعلا لم يخطر ببالي يوما أن أضع صورتي.
+هل أسأل السؤال التقليدي:
لماذا توقفت منذ مايقارب ست سنوات عن تمثيل أفلام جديدة؟
- الفن انعكاس. مثل
اللبن غير المغشوش تتكون له قشطة. لما اللبن يخلط بالماء يطفو عليه الماء. الفن الآن
مخلوط بالماء والسينما مرآة صادقة للمجتمع فإذا تدهور المجتمع تدهور الفن.
+ ولكن هناك افلام
جيدة أيضا.
- لأن الحياة لابد
أن تستمر والانهيارات أيضا تستمر . الموجود الآن لا هو فن ولا يمت للفن بصلة. أنا امرأة
هاوية وابحث عن الحقيقة من خلال القيمة. لم أقرر التوقف. قلت انتظر الجيد ولكن التدهور
استمر.
وهناك رؤيتي.. لما دخلت حصار بيروت كانت
الأحداث أكبر من أي فن. فما حدث كان سقوط الجغرافية العربية. والفن أمل وحب وحلم. وأنا
لا استطيع أن اضحك على نفسي أو أدع احدا يضحك علي. هل اعمل أمجاد ياعرب أمجاد؟ هل أعمل
بطولات زائفة وأقول كلاما غير متواجد اطلاقا؟ الأفضل أن اجلس في بيتي أعيد قراءة الأيام.
الفن الآن مشهيات لحشرات حقيرة أخرى . هناك
قحط فكري وأدبي والكلمة انطمست . الحروف العربية انطمست. هناك محاولة للاستيلاء عليها.
**
+من في رأيك السبب
في أزمة الثقافة؟
- عندما تذهبين الى
معبد الكرنك في أسوان سترينه مقاما على أعمدة. لم يكن معبدا فقط وإنما كان مركزا لتجمع
العلماء والمريدين. وقد بنت الملكة حتشبسوت مسلة من ذهب ترى من على بعد. في إحدى غزوات
التاريخ هدم أحد الأعمدة فمال. فإذا لم يرمم سيأخذ معه كل الأعمدة ويهبط بها. هناك
الآن خلل في الهندسة العربية في الشرق الأوسط. لقد أخذت في التداعي. انظري الى الجغرافية
لقد تفتت وانشطرت والفأر الصهيوني ملأها بالثقوب مثل قطعة الجبن.
+ أنا معجبة جدا بالتعابير
والتشبيهات البسيطة والدقيقة التي تستخدمينها في كلامك. هل جربت الكتابة؟
- كنت اكتب خواطر وأنا
صغيرة.. ولكني لم استمر. لقد ساعد عملي السينمائي في فك عقدة لساني. عيني كامرة تلتقط
بسرعة ماحولها. إن أية جملة أراها صورة أولا ولكن هذه الصورة أسرع من أن اكتبها. إن
أمتع شيء لدي هو الحوار بصوت عال . عندئذ تنهال الأفكار والصور.
+والقراءة.. هل السبب
في وفرة معلوماتك وتنوعها هو القراءة المستمرة؟
- أحب أن أقرأ كل شيء واستخلصه واعمل فيه
تقريرا داخل رأسي. والتقرير أو التحليل الذي أتوصل اليه لا يجانب الصواب. ويدهش بعض
الذين أحاورهم من صدق تحليلاتي وتوقعاتي وربما السبب أنني انظر للمواضيع من الخارج
.. على بعد وأفضل أن أفكر بكل شي على مساحة واسعة.
أخذت تتحدث عن رغبة الولايات المتحدة فرض
سيطرتها على منابع النفط في الشرق الأوسط من اجل إحكام السيطرة الاقتصادية على اليابان
والصين وأوربا الموحدة. وقد انهت حديثها قائلة وهي تضحك:
- بيني وبينك أنا سعيدة
بعاصفة اندرو وكأنها أمر رباني ليرى المتجبر مايمكن ان يفعله به. لقد غيرت اسم الكلب
الذي اقتنيه الى اندرو واتمنى ان يظل اندرو ضاريا في هجومه مثل الكلب الولف.
+ مارأيك في لم الشمل
العربي وهل يستطيع المثقفون ان يصلوا مايقطع؟
- أقول للعرب أوقفوا
الخلافات حتى تروا من أين جاءت الطلقة . أما المثقفون فإنهم لايستطيعون ان يفعلوا شيئا
لأنهم مصنفون، والثابتون على مبادئهم غير مؤثرين . إن عامة الشعوب أرقى مستوى من المثقفين.
فالرجل البسيط الأمي في رأيه بكارة الصدق
ولكن يأتي المثقف فيصنفه حسب رؤياه. ويقفل عنه الميكرفون ويتحدث بدله. الفلاحة تقول
كلاما موجزا مفيدا في جملتين ولكن الصوت مقفل عنها . المثقفون يدخلون في تفاصيل رخيصة.
وحلقة الفكر والرؤية تضيق يوما بعد يوم في حين يدخل المثقف معارك هامشية على صفحة الحياة
التي تتطلب أن يكون قائدا فيها.
(ملاحظة راهنة: ما
كان أصدقك يانادية ومازالت الحلقة تضيق يوما بعد يوم)
+ هل تريدين ان تقولي
شيئا للشعب العراقي ؟ (كان سؤالي حينها والعراقيون يعانون من حصار اممي بعد حرب
1991 المدمرة)
- لا أؤمن بالكلام
ولا أؤمن بالندوات والمؤتمرات التي قد توحي بأن الانقاذ قادم. أقول للشعب العراقي يجب
ان تتمسك بإيمانك بالمبدأ لا تتزعزع عنه.
+ لقد وضع اسمك على
القائمة التي سربها مجلس التعاون الخليجي والتي احتوت على 47 اسما لمثقفين وفنانين
وأدباء مصريين بغية مصادرتهم لتأييدهم العراق. ماكان رد فعلك؟
- أقول لشيوخ النفط ولمجلس التعاون الخليجي
: أتحداكم اذا عرفتم ان تصادروني من وجدان 100 مليون عربي.
عندما دق جرس التليفون ونهضت لترد عليه.
اخذت أجوس خلال صالونها أتفرج على مقتنياتها. على الجدار وجدت رسائل مؤطرة مكتوبة بطريقة
غريبة.. الورق مرسوم عليه كتابات ورموز فرعونية يتوسطها نص مكتوب بالقلم الجاف باسلوب
فرعوني (انقل لكم النص بالحرف)
خطاب الى نادية
..(الممجدة بإسمها تاي وهي الملكة )
ما أروع حضورك في هيكلنا الأرضي
أي تاي الجميلة يامنبع السعادة
عندما تجليت في شوارعنا ملأت كل البلاد
ببهائك
جميلة انت وعظيمة تتلألئين كالشمس
فوق كل البقاع وأشعتك تعانق
كل البلاد وانت تخترقين الدنيا من أقصاها
الى أقصاها
ومع أنك بعيدة عنا فنورك يملأ الأرض
(شادو رع الشهير بشادي عبد السلام)
في فيلم (المومياء) للمخرج شادي عبد السلام |
المخرج الراحل شادي عبد السلام |
وعندما عادت سألتها عن شادي عبد السلام
(المخرج) فحدثتني عن اسلوبه في كتابة الرسائل اليها وقالت عنه:
- شادي فتح صفحة فيها البصمة المصرية الحضارية بكل
تاريخ مصر,. شادي تميز بأنه مثل المعلم الذي كتب معاني الرقي والسلوك على لحم وجدان
المحيطين به، فهو ربّى وأرسى قواعد. كان فيه خفة الظل وبساطة رجل الشارع ورقي العالم
المثقف. ومن ضمن الأشياء التي كسرتني هو غياب شادي.
+ سمعت ان هناك نية لإنتاج فيلم اخناتون الذي منع
الموت شادي عبد السلام من اكماله؟
- أنا ضد انتاج اخناتون شادي لأنه لابد
أن يظل متحفا وعبرة للفنان الذي لا يفلسف الاشياء بتفسير مادي . من يعمله الآن سيكون
كمن ينهش في قبره لأن ارادة ورؤية شادي لاينفذها غير شادي فلا بديل له. كان الوحيد
الذي قدم العلم والثقافة من خلال الفن.
كانت ترتدي عباءة سوداء فضفاضة مطرزة بألوان
هادئة وعلى وجهها الجميل زينة بسيطة وتتوج شعرها الذهبي القصير نظارة طبية.
كانت تحدثني عن الانطباع الأول الذي يتركه
أي شخص عليها:
- الإنطباع الأول مهم. أول مشهد أعمله هو الأحلى
. لو كررته يقل لحد مايصبح حديدة صماء.
قلت لها :
+ تأثير الإنطباع الأول واضح عند الأطفال فإنك ترينهم
يحبون أو يكرهون الأشخاص لدى رؤيتهم لأول وهلة. واعتقد وجود هذه الغريزة الطفولية لديك
مهم لعملك كفنانة.
- أعتقد أن هذا يرجع لاشعاعات كهربية تشع حول جسم
اي انسان والطفل يتأثر بها لأن جمجمته مازالت طرية ناعمة مثل الجيلي، وتستقبل الأحاسيس
بسرعة ، والممثل يكون أسرع للالتقاط والتأثر لأنه دائم الخروج والدخول في شخصيات مختلفة.
الفنان يكون عنده شيء روحاني لا يمكن معرفة كنهه.
+ ألا يجرنا الحديث عن الإنطباع الأول الى الحديث
عن الحب؟
- قد تدهشين إذا عرفت انني أؤمن بالحب من أول نظرة .
+ولماذا ادهش؟
- لأنك ستقولين كيف تؤمن بالحب من أول نظرة من تفكر
وتتحسب وتحلل؟
+ لا .. لأن للحب منطقه الخاص.
- بالضبط. إنه لا يخضع للحسابات المادية وليس له قواعد.
إنه لمسة إلهية لاتضاهيها متعة في العالم.
+ ورأيك في الزواج؟
- الزواج توافق وتكافؤ العطاء والأخذ. أحيانا يكون
الزواج أحلى من الحب لأن السلوك ينشأ من تربية، وترويض. احترام متاع الآخر تربية
.. احترام غياب الآخر تربية.
+ هل أنت من انصار المساواة بين الجنسين؟
- أنا من المطالبين بحقوق المرأة ولكن يجب أن تفهمي
أي نوع من الحرية . ليس إباحة الجنس. التساوي .. الحقوق .. المرأة كتلة (بازلت) ذات
اكتفاء ذاتي فيها الخصوبة والقدرة على خلق حياة وكأن الله تعالى أعطاها جزءا منه. فلماذا
تترك موقعها لتأخذ موقع الرجل؟ لابد ان نزهو بنون النسوة . المرأة الشرقية مثل البلاد
التي تحررت من الاستعمار قريبا، غير قادرة على ان تدير الأمور إدارة ديمقراطية . أحيانا
تستعمل أساليب غير نابعة من ذاتها فتحصل فجوات ويفشل ما تسعى اليه.
+ أذكر لك دورا رائعا لا أعرف كيف عملتِه؟
ضحكت وقالت :
- أجل أجل .. أعرف أي دور تقصدين. (زوبة العالمة)
في فيلم قصر الشوق وهو من غير غرور لم يعمل مثله أحد.
دور زوبة العالمة في (قصر الشوق) |
+ كيف عملتِه إذن؟
- الرغبة في المعرفة وراء الإجادة. كنت أريد أن اعرف
ماوراء الدور، فقمت بدراسات عميقة للشخصية. أنا نفسي لا أعرف الان كيف عملته في حينه
ولا أتصور نفسي أستطيع أن اقوم به بنفس الإتقان مرة أخرى.
**
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق