الاثنين، 23 نوفمبر 2020

OnLine

 قصة قصيرة: بثينة  الناصري

كان "ألف" يقيم على مسافة 15 مترا مني ، أما ما بيني و"باء"  فقد كانت المسافة 20 مترا، و"جيم" يقيم على مبعدة 21 مترا . أعرف المسافات بدقة لأني قستها بنفسي قبل شراء الأسلاك التي تمتد بين غرفنا.

 سلك التليفون أسود اللون يمتد عبر شرفة غرفتي إلى الآلة القابعة على سطح مكتبي، ومن الموديم الذي غيرناه ثلاث مرات، تمتد أربع أسلاك رمادية سميكة، واحد منها يزحف على الأرض مخترقا صالة الاستقبال ملتفا حول باب المطبخ عبر ممر طويل حتى يصل الى "ألف" ، وسلكان يقطعان طريقا مختصرا يمر عبر الحمام الصغير المقابل لغرفتي وبمثابة حبل غسيل أعلق عليهما أحيانا اشيائي الصغيرة، ثم من خلال الشرفة الضيقة اللصيقة بالمطبخ والتي تحولت الى مخزن لما تكسر وتهرأ في حياتنا، من علب فارغة وقدور قديمة وألواح خشب قديمة ولعب أطفال مهشمة ، يحلق السلكان فوق ذكرياتنا القديمة هذه ثم يتفرعان الى فرعين يصب أحدهما في غرفة باء والآخر عند جيم. 

 كنا في أحيان نادرة نتمكن من الاجتماع معا في غرفة المعيشة التي تقع بين غرفة ألف وصالة الاستقبال مطلة على الممر الذي يتلوى على  امتداده سلك ألف، لمشاهدة مقاطع من فيلم أو أغنية ، أو اذا أصررت أنا على شريط إخباري لحين انتهاء كل منا من التهام مافي طبقه من طعام لم يتسع له سطح مكتبه.

 ولكن بعد أول أجر قبضه باء من تصميم فاصل إعلاني لاحدى الشركات، غادر غرفة معيشتنا إلى الأبد حيث اشترى شريحة لمشاهدة برامج التلفزيون على حاسوبه ولكن بسبب ذلك مد سلكا جديدا سميكا وصلبا من طبق الستلايت فوق سطح العمارة مخترقا شباك غرفة المعيشة زاحفا تحت الأرائك حتى باب الغرفة ثم متقاطعا مع سلك ألف في اتجاه باب باء.

 حاولت أول الأمر أن أغطي الأسلاك المتعرجة الممتدة على الأرض بقطع من السجاد ولكني سرعان مانبذت الفكرة حين اكتشفت أن النتوءات تحت السجاد قد تؤدي الى تعثرنا ونحن نجوس خلال المنزل في بعض شؤوننا. وهكذا ظلت  الأرض باردة في عريها.

 كانت غرفتي هي مركز هذا الكون، ففيها الأجهزة التي تديره، وأنا التي أصل وأقطع، وأنا التي أرد على جهاز الهاتف الوحيد في عالمنا .. ولكن على أية حال، أنا ربة هذا البيت.

 غرفتي الصغيرة تطل على شرفة أجلس فيها احيانا حين أشتاق للشمس، يغطي أحد جدرانها مكتبة شاهقة حتى السقف، ولم أستطع يوما أن أنجز ترتيب الكتب فيها وبقيت مكومة على بعضها يعلوها التراب. على الجدران الأخرى خارطة للعالم واخرى كبيرة للعراق .. إلى جانبها كولاج صور لآثار وأشخاص من بلادي. ويتوسط هذا العالم بالتأكيد المكتب الصغير وجهاز الحاسوب والهاتف الذي يشعرني أن هناك آخرين من لحم ودم وصوت.. خارج هذا الكون الإفتراضي الذي أدخل رحابه الفسيحة من شاشة 17 بوصة.

 التواصل مع الأصوات الآدمية عبر الهاتف لم يكن معضلة.. "ألف" غير موجود للجميع دائما، و"جيم" يضطر إلى مغادرة الغرفة إلى أقرب نقطة يستطيع أن يسمع فيها صوتي بوضوح . أما "باء" فإني أقول للمتصل "لحظة"، وأفتح المسنجر فأجده   offline  وهذا يعني إنه نائم أو في الحمام أو خارج المنزل .. أو لا يريد اتصالا.

 أنهض كل صباح، وقبل أن أعرج على الحمام الملاصق لغرفتي ، أضغط بأصبعي على مفتاح الجهاز فيملأ هديره الغرفة وتومض أنواره الخضراء على الشاشة ولوحة الكتابة والموديم، وتنبض الحياة في فأرتي الرقمية، فأحس أن كل شيء على مايرام في عالمي هذا، وبعد قليل سأدخل أكوانه الواسعة التي تأتمر بنقرات بناني.

 حتى نحل مشكلة "جيم" الذي يتوقع دائما إتصالا هاتفيا مهما من جهة ما، اتفقنا جميعا ونحن في إحدى لحظات لقائنا النادرة في غرفة المعيشة أن نستخدم وضع الغائب "offline" على المسنجر، طالما لا نريد اقلاق راحتنا بأي شكل، أما إذا كان أحدنا ينتظر اتصالا أو يكون في حالة ضجر أو إن كان سعيدا لسبب ما ويريد الحديث عن ذلك مع الآخرين ، فما عليه الا استخدام وضع موجود online،  لنكون على بينة من حالته. وهكذا لم أعد في حاجة للصراخ مرات منادية "جيم" ولم يعد هو في حاجة إلى الخروج من غرفته ليسمعني، كان يكفي أن ابعث له رسالة اذا كان وضعه "موجودا" أبلغه بوجود نداء هاتفي له.

كان كل شيء يسير على مايرام، والحياة في بيتنا جميلة ورائقة، لا حركة غير محسوبة، لا صوت، سوى أصوات الموسيقى المكتومة التي يستمع اليها الأولاد عبر الميكرفونات الملتصقة بآذانهم. حين يحين موعد الطعام، يكفي أن أنقر على الفأرة "الطعام جاهز لمن يريد ولمن موجود".

كنت أحيانا، من أجل الذائقة البصرية، أغير من وضع الأسلاك الممتدة كالثعابين بين الغرف، أرفعها بمسمار على الجدار، أو أمدها مخفية وراء مقاعد غرفة المعيشة، أو أرتبها متقاطعة بشكل مبهج. ولكن أيامنا لم تكن رتيبة او مملة، فهي حافلة بالمفاجآت .. وكل واحد منا لايكاد يصحو من غيبوبة النوم حتى يهرع إلى صندوقه السحري لينفذ منه إلى عالمه الضاج بالحياة والأحداث. حتى جاء هذا اليوم الذي صحوت فيه شاعرة بالاختن
اق، أفقت فيه من كابوس، غطست فيه تحت الماء وكنت أكافح بلا جدوى للطفو فوق السطح، ولكن أسلاكا متشابكة تثقل جسدي المنهك تلتف مثل اخطبوط حول ساقي وتشدني إلى القاع.

أفقت وأنا أختنق، لم استطع حتى رفع صوتي بالصراخ... وبين شهقاتي، تشبثت أصابعي بالكيبورد، أبحث مثل غريق عن "باء"؟ offline ، عن "ألف"؟ offline، عن "جيم" ؟ offline.

ماذا حدث لكم: نائمين؟ غائبين؟ مشغولين؟

ضربت على الكيبورد، ثم وأنا أغطس تحت الماء، وأطفو قليلا من أجل شهقة هواء، لاحت لي خاطرة أن وضعي الدائم في البيت كان online وهذا يعني أني موجودة وعلى مايرام ولا حاجة للسؤال أو البحث عني، ولن يفعلوا حتى أغيرها إلى offline . ولكني لم استطع تحريك إصبعي لأضغط على الفأرة. كان خدر غريب قد بدأ يسري في أطرافي...

+++

القاهرة - 2015

 

 

 


الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما