بثينة الناصري
حدق الطبيب بوجه الفتى الذي كان ينظر غير مبال الى الطاولة التي أمامه ، ويحرك اصابعه فوقها بنقرات صامتة
لم يرد الفتى .
كان مشغولا بالنظر الى أصابعه.
- نبيل
أعاد الطبيب
نداءه. قالت الأم:
- هذا حاله. طول عمره لايستجيب لاسمه
سألها الطبيب عن
سنه ، قالت "عشر سنوات"
مد الطبيب يده
ولمس أصابع الفتى، فجذب هذا يده بشدة دون
ان يرفع بصره.
ضرب الطبيب بشدة
على الطاولة . رفع نبيل عينيه الى يد الطبيب، ثم عاد الى انشغاله ناقرا بأصابع صامتة.
تأمله الطبيب.
ثم خاطب الأم:
- يسمع لكنه لا يتكلم؟
- نعم
- ولا كلمة ماما أو بابا
- أبدا.
أضافت بصوت حزين
هامس:
- لم اسمعها منه، ولا استطيع ان احتضنه،
يتفلت مني بسرعة، لا استطيع لمسه. لا ينظر إلي ، لا يبتسم. اظن انه لا يعرف الفرح ولا الحزن.
ظل الطبيب
يتأمله بتمعن، ثم فجأة بدأ الطبيب ينقر على الطاولة بإيقاع منغم، دوم – دوم- تك .
دوم – دوم – تك. دوم -تك – تك- دوم.
توقفت أصابع
الفتى عن الحركة وتابع بعينيه ايقاعات الطبيب. ثم شيئا فشيئا حرك اصابعه بنفس الايقاع حتى تناغم الصوتان وكأن
الأصابع تحاور بعضها.
اعتدل الطبيب
وقال للأم:
- اشتري له طبلة يا سيدتي. سوف تعيد
الموسيقى تواصله مع العالم.
وقفت الأم وهي
تقول حائرة ومحبطة:
- هذا كل ما هناك؟ لا دواء؟
- هذا كل ما لديّ. طبلة.
خرجت الأم
ووراءها يتقافز ابنها، وهي تلتفت اليه بين حين وآخر ، وحين وصلت تقاطع الطريق،
حاولت امساك يده، لتعبر به الشارع المزدحم
بالسيارات، لكنه جذب يده بعنف. وقفت أمامه وقالت بغضب "تعال نعبر الشارع. هل
تريد ان تموت؟ ماذا تريد؟"
وقف أمامها صلبا
وهو ينظر الى الأرض ثم الى السماء متحاشيا النظر اليها، وفجأة سمعت صوتا يخرج من
فمه:
- ط..ط..ب..لة
ذهلت الأم ،
وابتسمت ابتسامة واسعة، وتلفتت حولها لترى إذا كان الناس قد سمعوا مثلها:
- نبيل ، انت تتكلم. ماذا قلت؟
- ط..ب..لة
* *
تتناثر خصلات شعره الأسود على جبهته وهو ينطوي على طبلته يقرعها
بنقرات رتيبة. تأتي أمه كل يوم ، تجلس أمامه وتضرب على سطح مقعد خشبي ضربات منغمة، فيرد عليها بنقراته الرتيبة، لكنه
بدأ يرفع عينيه الى وجهها وهو ينتظر أن تنتهي من النقر ليرد عليها.
عندما يحين وقت الطعام، كانت الأم تضع الأطباق على مائدة الطعام في
الغرفة المجاورة وتضرب على سطح المائدة .. دوم – دوم- تك وتنتظر، فيدخل الغرفة
ليجلس في مكانه ، ثم ينظر اليها. تنقر مرة اخرى .. دوم – دوم – تك ويبدآن في تناول
الطعام.
عند الانتهاء، يسرع الى غرفته ليختفي فيها ولا تسمع أمه في الساعات
التالية سوى القرع العشوائي للطبلة.
ثم خطرت لها فكرة ، وما أكثر
الافكار التي تراودها حين تنهمك في غسل الاطباق وجليها في حوض المطبخ. تساءلت
"لماذا لا نربط الكلمات بالنقر على الطبلة؟"
جففت يديها بسرعة ودخلت غرفته. جلست الى طاولة صغيرة أمامه ونقرت
"دوم-دوم-ماما-تك-تك -نبيل" أعادتها أكثر من مرة . كرر الفتى النقرات
بدون النطق بكلمة.
أعادت عليه "دوم-دوم- ماما" واشارت الى نفسها "تك تك
نبيل" مشيرة اليه.
بعد عدة محاولات ، يئست من ان يستجيب لها باللفظ، تنهدت وتركته عائدة
الى المطبخ. كان عليها ان تنتهي قبل المساء لتتفرغ لمحنة جر ابنها الى الحمام للاستحمام الاسبوعي.
تأخذ بيدها ملابس نظيفة مطوية وتدخل غرفته وهي تقول بصوت منغم
"حمام.. حمام"
في اول الامر لا يعيرها انتباها فتقرع على باب الغرفة ايقاعا معينا.
يرفع نظره اليها لحظة ثم يعود الى استغراقه في ذاته. تتقدم منه محاولة انهاضه
من السرير، فيقاوم يديها ثم يقفز الى
الارض ليهرول في ارجاء الغرفة ، فتلحق به وتمسكه بذراعين قويتين محاولة جره خارج
الغرفة، واثناء ذلك تتساقط الملابس النظيفة بإهمال الى الأرض. يطلق صراخا مخنوقا
محاولا انتزاع نفسه من قبضتها، يدير رأسه ويعض يدها بكل قوته.
تفلته وتخرج صارخة وتصفق الباب بعنف وراءها.
يمسك طبلته ويصرخ مهتاجا ويضربها بكل قسوة دوم – دوم ثم يصرخ
"ماما" "دوم-دوم "ماما" وتزداد يده لطما لجلد الطبلة حتى
ينشرخ ويحس بيده تهبط الى فراغ الجوف.
يهدأ ويتأمل الشرخ صامتا. ينقر على الجلد المقطوع، فلا يسمع له صوتا.
يرمي الطبلة من يده بعنف الى السرير. يحدق بها قليلا ثم يزحف الى جانبها وتسقط
دمعة تسيل الى هوة الجوف .
يفتح الفتى يده ويفرد اصابعه ثم يشير الى صدره بسبابته
"ن..بـ..يـ..ل"
**
مرت أكثر من ساعة، وقد ران الصمت على البيت. سارت الأم بهدوء الى
غرفته. نقرت على الباب. لم تسمع صوتا. واربت الباب قليلا. مدت رأسها.
كان منكبا على الطبلة يحتضنها وينود بجسمه معها بحركة رتيبة.
نقرت الأم على الباب النقرات المنغمة المعهودة. استمر الفتى ينود مع
الطبلة. وقفت قريبة منه ترقبه وحين لم يشعر بوجودها منشغلا بما هو فيه، خرجت من
الغرفة.
بدأ الليل يتسلل الى النوافذ بصمت حالك. قبل ان تخلد الى النوم، ذهبت
اليه مرة أخرى. فتحت بابه وأطلت منه. كان وجهه يظهر من تحت الغطاء غائبا في النوم
، فاغرا فمه، والى جانبه رأس الطبلة المشروخ . خيل اليها انهما يصرخان صامتين.
**
تفزع الأم من نومها على صوت الباب الخارجي يفتح. تزيح الغطاء وتهرع
الى الصالة فتجد الباب مفتوحا على مصراعيه وضوء الصباح يغشي البصر.
كان الفتى يركض محتضنا طبلته. تناولت الام شالا من المشجب لفت به رأسها، وانتعلت حذاءها وانطلقت
وراءه حتى اقتربت منه وهي تصيح:
-
نبيل !
لكنه لم يتوقف، بل استمر بالسير مسرعا وهي تحاول اللحاق به.
-
نبيل .
انتظر . أين تذهب؟
وصلا التقاطع ولم يتوقف. حاذته وحاولت ان تمسك يده لعبور الشارع لكنه
كان يلف ذراعيه حول الطبلة حتى انتهيا بسلامة الى الرصيف، فتنفست الصعداء وابطأ
وجيب قلبها. سألته وهي تغذ الخطى خلفه:
-
أين
تذهب يا نبيل؟
لم يلتفت اليها. توقف عند
السلم الذي يفضي الى عيادة الطبيب.
**
نظر الطبيب الى الطبلة الموضوعة على سرير الكشف، ورفع عينيه الى
المرأة التي حاولت مداراة ابتسامتها المحرجة، ثم التقت عيناه بعيني نبيل.
-
ماهذا
يا نبيل؟
جاهد الفتى ليخرج الكلمات :
-
ط-ب-ل-ة
، ط-ب-ل-ة ، ط-ب-ل-ة
وظل يردد الكلمة . قلبها الطبيب بيديه وسأل:
-
كيف
تمزقت؟
ردد نبيل:
-
ط-ب-ل-ة
قالت الأم:
-
ضربها
بشدة. كان غاضبا
قال الطبيب موجها الكلام للفتى ومشيرا الى نفسه:
-
أنا
طبيب نبيل .. طبيب ماما. طبلة .. لا.
ثم التفت الى الأم:
-
خذي
الطبلة الى محل شرائها.
سألت الأم بقلق:
-
وهل
يمكن إصلاحها؟
-
بسيطة
. يمكن تغيير الجلد، أو اشتري واحدة
جديدة.
أشارت الأم الى ابنها:
-
تعال
نروح لطبيب الطبلة
أطاعها محتضنا طبلته. أوقفت سيارة أجرة.
في محل الالات الموسيقية ، قال البائع هو يشير الى الخرق:
-
أنا
بائع ولست صانع هذه الالات. هناك مختصون بالتصليح. ولكن بدلا من التعب، اشتري
واحدة جديدة.
وأشار الى رف عليه أنواع الطبل . التقط واحدة :
-
هذه
شبيهة بطبلتكم لكن جلدها أقوى.
اختطف نبيل طبلته واحتضنها بشدة. ولم ينظر الى اي من الطبلات التي
أنزلها البائع من الرف بألوانها المختلفة وزيناتها الجميلة. وكلما عرض البائع طبلة
أخرى، ازداد الفتى تمسكا بطبلته المشروخة، ولما ازدحمت منضدة العرض بطبلات من كل الأحجام، بان الفزع على وجه الفتى واستدار يهرول متشبثا بطبلته باتجاه الباب، وأمه
تحاول اللحاق به.
**
في ذلك النهار، تأخرت الأم في تحضير طعام الغداء، وحين انتهت من إعداده كانت الشمس على وشك الغروب.
وضعت الأطباق على المائدة وضربت عليها مثل كل يوم "دوم-دوم-
أكل" "دوم-دوم- نبيل".
رد عليها الصمت ، ولكن بعد عدة ضربات اخرى، انفتح باب غرفته فجأة وخرج
الفتى وقد وضع فوهة الطبلة على فمه مثل بوق.
سمعت الأم صوتا يأتي عميقا كأنه ينبعث من غور سحيق:
"ماما.. نبيل.. أكل"
وضع الطبلة على كرسي الى جانبه، ونظر الى أمه وهي تبتسم في وجهه
مذهولة.
زم شفتيه، ثم حركهما عدة حركات في كل الاتجاهات، ثم تمطت شفتاه
بابتسامة عريضة.
**
كتبت في يناير 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق