في وقت واحد وصل الارض البور عند مشارف القرية، جندي راجع لتوه من الحرب متأبطا بندقيته في طريقه الى منزله، وطفل في السابعة من عمره انطلق هاربا من
بيته ساحبا وراءه كلبا مشعثا مربوطا بقطعه حبل. لبد الولد و كلبه في الاثل الذي
يبدأ حيث تنتهي الارض السبخة ولهذا لم يرهما الجندي وهو يرنو الى البيوت البعيدة
التي كانت سطوحها وذرى اشجار النخيل المحيطه بها تسطع عند الافق بأشعه شمس شباط.
ودّ لو مدّ ذراعه ليلمس الباب ويرتمي في حضن ظل
السدرة التي تتوسط حوش البيت، لكن تورم قدميه الموجع داخل البسطال العسكري ذكره
بالمسافه الهائله التي قطعها على قدميه حتى يصل اطراف القرية
من بين اغصان شجرة الدفلى اختلس الولد النظر الى
الجندي الذي يقف يظلل حاجبيه بكفه وينظر باتجاه البيوت المتلاشية في الافق .احتوى
الولد البندقية بعينيه والجندي يطوحها الى الارض قبل ان يتكوم متعبا الى جانبها
وهو يسند ظهره الى تلة صغيرة من الصخر والتراب.... وبحركة سريعة ضم الولد اصابعه ورفع سبابته وابهامه نحو
الجندي وهمس وهو يقلد صوت مدفع رشاش"تي..تي.تي..تي"
اراح الجندي رأسه الى التلة واخذ يتخيل لحظه
طرقه باب البيت .. تفتح امه وتعقل المفاجأة و الفرحة لسانها فيحتضنها ويدور بها
وهو يصرخ "انا رجعت يا امي" وربما تستطيع عندئذ ان تنطق "الحمد
لله"... او يدق الباب فتفتح امه وتهتف باسمه غير مصدقة فيقول لها
باستسلام"انا رجعت يا امي " كما كان يفعل حينما كان يافعا كلما ذهب الى
الارض السبخة النائية ليلعب مع اصحابه فتؤنبه امه لدى عودته "ذهبت مره
اخرى؟"
فيقول"كنت العب.." فتنهره بحدة
" "قلت لك الا تذهب هناك
" "ولكن لماذا يا امي ؟ انها ارض مثل كل
الارض
"لا.. ليست
مثل كل الارض. فيها ثعابين وعقارب ويمكن
ذئاب ايضا"
وكان يعرف ان امه لا تقول الحقيقة و انما تقصد
ان تخيفه من اللعب في الاماكن النائية بعيدا عن عينيها.. ويدخل الدار.. ينضو عنه
ملابسه المتربة .. يتربع داخل الطشت حاملا في يده صابونة زيت الزيتون يدعك بها
شعره عدة مرات.. فيما تصب امه الماء الساخن على راسه.
"اتسلل
بهدوء.. ازحف علي بطني " كان الولد خلف الاثل يحدث نفسه "واصل اليه دون ان يشعر .. اسحب
البندقية" وبحث حوله علي الارض حتى وجد عصا صغيرة فحملها بين كفيه
"واصوبها هكذا الى الاعداء الذين يتقدمون نحوي .. عشرون واحدا..لا..ثلاثون..قفوا..اصرخ
بهم ..لا يقفون.." وجه العصا نحو كلبه الذي افترش الارض نائما "اقف في
وجوههم.. يضربوني .. اقع .. ثم انهض ثانية تي..تي..تي.." ويسقط الاعداء واحدا
اثر اخر..
يصفر له رفاقه "هات الكرة وتعال معنا الى الملعب" ويخطف الكرة ويجري وراء
الرفاق يلحقه صوت امه "لا توسخ الدشداشة النظيفه بالتراب" . صديقه الذي
كان يصر على ان يقف حارسا للمرمى، كان معه في خندق واحد وقد اصر على ان يقود شاحنة
جنود ليلة الانسحاب وعندما اصابت الشاحنه قذيفة لاهبة لم يستطع احد ان يفصله عن
المقود ..صار هو والمقود قطعة مصهورة واحدة.
"ز..ز..ز.."تزوم الطائرات فيما يقف
الولد على سطح البيت "ارفع الرشاشة طك..طك واصيب طائرة.. تتفجر في الجو..
ويسقط الطيار العدو.. انتظره على السطح.. وهو يهبط.. استعد.
كان عليه ان يمشي .. ولا شيء غير ذلك بعد ان دمرت المعابر والجسور.. وكان
عليه ان يستنفد كل فطنته الفطرية لتفادي الوقوع في الاسر.. اخذ يتخفي نهارا ويسير
حالما ينشر الظلام.. ظل يسير حتى تورمت قدماه وتشقق البسطال. "كم مشيت؟ لابد
اني قطعت ارض الجنوب كلها" لا يدري كم من الليالي مضين لم يذق فيهن طعم النوم
و الراحة.
دعك الجندي ركبيته ثم مد ساقيه واغمض عينيه
ولكنه .. كان يحس بقلق ما.. اخترق ضوء الشمس التي توشك على الغروب جفنيه المغمضين
وظل يري نقطا حمراء وسوداء تتحرك بسرعة .. تقف برهة ثم تختفي خلف الستار المنسدل
على عينيه ثم تظهر ثانية .. فجأه ادرك ما كان يقض راحته.. النهار لم ينته بعد..وهو
جالس في منطقة مكشوفة جرداء، ماذا لو كان الاعداء قد تسللوا الى هنا ايضا؟ ان البيوت
على البعد لا تنبيء بشئ . ماذا لو كانوا يختبئون - وتلفت حوله - هناك في الاثل
يرصدون حركاته؟ وقد يكون هناك طيار منهم سقط بعيدا عن طائرته واختفى خلف الاثل
متحينا فرصة ما .. التقط بندقيته.
فوق سطح البيت اضع يدي علي الزناد . وانتظره وهو يهبط .. عندما يصل
الى مرمى البصر .. "طاخ ..طاخ " وبحركة عنيفة يلط الولد الكلب بالعصا
فيطلق الكلب دمدمة خافته .. يسمعها الجندي
فيهب .. يستدير نحو الاثل .. ويضغط الزناد
صرخة
صغيرة عميقة .. اقتحمت الارض الفضاء وتردد رنينها طويلا.. صرخة لاصفة لها .. صوت
انتزع من اعماق روح ما غير محددة. صرخة موت ..
تسمر الجندي في مكانه لحظات ثم سار نحو الاثل بتوجس.. فرّق اغصان الدفلى
فرآه .. وجها شاحبا اذهلته المفاجاة وعينين تنطقان برعب اخرس،هبطت نظرات الجندي
الى الارض تحت قدمي الولد فرأي الدم يغطيهما حيث يرتمي كلب مثقوب البطن.
تنفس الجندي الصعداء، لكنه لم يستطيع الا ان يغضب
"ماذا تفعل
هنا؟"
قال الولد بصوت ضعيف:
" "كنت ألعب.. واجهش بالبكاء
قال الجندي بخشونة:
""ولماذا
تلعب هنا بعيدا عن البيت ؟
قال الولد بين شهقاته:
" "اني العب هنا كل يوم ..معه
واشار الى الكلب الميت دون ان ينظر اليه
قال الجندي بصوت خيل اليه انه ليس صوته:
- "ولكن
الا تعرف ان في هذه الارض ثعابين وعقارب ويمكن ذئاب ايضا؟ هل هذا كلبك؟"
أومأ الولد برأسه وانكفا على ركبيته وهو ينشج.
مد الجندي يده ولمس الولد الذي انكمش بعيدا. فأوقد الاحساس بالذنب غضبه مرة اخرى.
- احمد ربك لان
الرصاصة اصابت الكلب ولم تكن انت
رفع الولد وجهه وصاح بتحد: "ولكني احبه
اكثر من اي شئ اخر"
- انها غلطتك.
لماذا كنت تختبئ بين الاشجار؟
- لم اكن اختبئ..
كنت العب
تامل الجندي وجه الطفل .. حك ذقنه الناتئة وقال
بهدوء:
- انهض واذهب الى
بيتك.. ما فائدة ان تجلس هنا وتبكي مثل الاطفال؟
قال الولد باستسلام وهو يشير الى الكلب:
- لن اتركه وحده
- وما معنى ان
تاخذه معك ؟ لقد مات.. ألا تفهم ؟ اسمع.. عندي فكرة هل تريد ان تدفنه؟
تساءل الولد:
-كما يفعلون مع
الناس ؟
اجل .. كما يفعلون مع
الناس -
وانهمك الجندي والولد في حفر قبر صغير قرب التلة
.. كان رأساهما يتقاربان والايدي تتلامس وتبتعد وتصطدم ببعضها وهي تنبش التراب
وتزيحه حتى اذا صار حجم القبر مناسبا قال الجندي :"هيا..هاته"
هز الولد رأسه قائلا:
- لا استطيع
قال الجندي بسرعه:
- لا تستطيع حمله؟
اسحبه على الارض
ققال الولد
"لا..لا اريد
ان ألمسه"
سال الجندي: "لماذا ؟ انه ميت لن يعضك
!"
اجاب الولد وهويهز رأسه بشدة: " لا
اريد"
- انت خائف؟
طأطأ الولد صامتا.
قال الجندي :"الموت لا يخيف .. انه تحول من
حالة الى حالة .. لقد رايت الكثير من اصحابي يموتون حولي في الحرب. في لحظة يكلمك صاحبك وفي اللحظة الثانية يتفجر
شظايا.. حتى لم يكن هناك وقت لدفنهم.. وعندما تعتاد على رؤية الموت كل ساعه وكل
يوم وفي كل اشكاله وحالاته، يصبح شيئا عاديا ولكن بدلا من ان تحزن فانك ترى الامور
يشكل اخر.. يمكن ان تقول لنفسك: لقد احياني الله ثانية لانه ما زال لدي الكثير
لاعمله و اذا كان صاحبي قد افتداني فذلك لان الوطن يحتاجني ولابد ان انجز الان عمل
شخصين او ثلاثة او اربعة.... بقدر الذين ماتوا من حولي . هل تفهم؟ هيا هات
كلبك"
كان الولد يستمع اليه مدهوشا وعندما فرغ من
كلامه لم يحرك الولد ساكنا مما اغضب الجندي فصاح به :"لماذا لا تطيع؟ اليس هو
كلبك؟ قال الولد باستعطاف "تعال
معي"
فذهب معه الى شجرة الدفلى حيث وقف الولد متسمرا
امام كلبه دون ان يمد اليه اصبعا .
ثم امسك كف الجندي بيد وتسللت اليد الاخرى بخوف
وتردد فلمست صدر الكلب.
مسح عليه باصابعه التي مررها خلال شعره حتى طال
رأس الكلب فربت عليه. انحنى الجندي على الكلب وحمله فيما سار الطفل وراءه حتى وصلا
القبر الذي اسجي فيه الميت .. و اهال الاثنان عليه التراب . كان رأساهما يتقاربان
والايادي تتلامس وتبتعد وتصطدم ببعضها وهي تردم القبر.
نهض الجندي وتطلع الى الافق ثم حدق في وجه
الصغير وقال:"آن وقت الرجوع"
وحمل بندقيته على كتفيه وامسك بكف الصغير الذي
سرعان ما تحول الى اليد الاخرى البعيدة عن البندقية ..
سأله الجندي وهما يغذان الخطى باتجاه البيوت
البعيده:"ماذا كنت تلعب؟"
- لعبة الحرب
- نستطيع اذن ان نقول ايها الصغير ان الرصاص اخطأنا هذه المرة.. واننا..انا و انت
رجعنا من الحرب سالمين
التقت عيونهما .. و ابتسما
ابتدأت البيوت تقترب ولاحت تفاصيلها في دفق من
اللون البرتقالي للشمس الغاربة في حضن سعف النخيل.. كان الولد يمشي بخطوات عسكريه
ثابته و سريعة و الرجل يعرج محاولا اللحاق به حتى احتواهما شعاع الشمس وتداعت اولى
نسيمات المساء بصوت الجندي يأتي من بعيد "هل امك في انتظارك؟"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق