ساعات الصفاء
فى الدرج الأعلى على يمين التسريحة، بحذاء سرير الزوجة الذى لم ينم فيه أحد منذ وفاتها قبل ثلاث سنوات، تصطف جوارب الأستاذ عزمى نظيفة، منسقة رغم أنها لم تعد جديدة تماما .. ففى بعضها ثقوب صغيرة وبعضها تهدل واتسع، وآخر ضاق وانكمش. وأغلبها أزواج غير متطابقة، إلا بدرجة متقاربة من اللون، ولكن بسبب ضعف نظر الأستاذ عزمى، مع كبر السن، والإنغماس فى عادة قراءة الصحف اليومية، لم يكن يميز الاختلاف، وغالبا ما كان يستل فردة جوارب سوداء وأخرى رمادية، ولكن ذلك لم يكن يحدث كثيرا، لأنه ما كان يغادر البيت سوى يوم الجمعه، للصلاة فى الجامع القريب، حيث يرتدى جلبابا اعتاد أن يضعه على الشماعة، داخل دولاب الملابس لهذه المناسبة .. وكانت زوجته - رحمها الله- إبّان حياتها وفى ساعات الصفاء، تمسحه بنظراتها الثاقبة، وهو يضع يده على أكرة باب البيت، وغالبا ما كانت تهتف به "رح غيّر الجلباب يا رجل! هل عميت عيناك عن كل هذه البقع والوساخة؟" وكم كان التوبيخ يسعده، ويدفىء فؤاده، معتبرا إياه بادرة حميمة من زوجته التى لم تكن لتعيره أى اهتمام في الأحوال الإعتيادية.
أما الآن، فلم يعد هناك من
يستوقفه عند الباب، بل كان يلتقط عصاه المعلقة على الكرسى خارج المطبخ،
ويتأكد للمرة العاشرة من وجود مفتاح البيت فى جيبه، ومن وجود القروش القليلة التى
اعتاد أن يدسها فى يد الشحاذ الضرير الذى يجلس، منذ سنوات لا حصر لها، عند
باب الجامع.
وكان الاستاذ عزمى، فى رحلة
الجمعة هذه، يصادف عنتا شديدا ..
فقد كان عليه أن يجر ساقيه،
متساندا على عصاه، هابطا السلالم، من الطابق الثانى فى العمارة، وإذا لم يجد
البواب، ليأخذ بيده لنزول الدرجات الخمس التى تؤدى إلى الحوش، كان عليه أن يتساند
على الدكة المنخفضة للسلالم، وهو محني الظهر، مما كان يسبب له إحراجا ينسيه آلام
ركبتية ... ثم يدب فى الحوش حتى يصل الشارع، فيمشى متباعدا عن السيارات الهادرة.
وفى أحيان كثيرة كان يرتد فزعا إلى الخلف متشبثا بعصاه، وهو يفاجَأ بسيارة اجرة لم
يسمعها، وهى تقف بمحاذاته لتلفظ راكبا أو تتلقف آخر.
وبرغم كل هذه المشاق، لم يكن الأستاذ يتكاسل عن صلاة الجمعة، فقد كان يؤمن أن كل خطوة صعبة يخطوها فى سبيل ذلك، تُحتسب له أجرا مضاعفا ينفعه فى آخرته.
حكاية كل يوم
فى الأيام الأخرى،
كان نمط حياته لا يتغير. فى الثامنة صباحا يرن جرس الباب فيعرف قبل أن يفتح، أنها
أمل إبنة البواب، تحمل له جريدة اليوم، وأرغفة الخبز، قبل ذهابها إلى المدرسة،
وكان يهتف .. حيثما يكون:
- نعم يا أمل ... أنا قادم.
تدخل أمل، وهى تحمل فى يد
حقيبة المدرسة، وفى يد أخرى أرغفة الخبز ملفوفة بالجريدة. يأخذها منها، فتجلس على
الكرسى القريب من المطبخ، ريثما يفتح الأستاذ الثلاجة، ويمد يده يتناول علبة الجبن
الابيض، ويقطع أحد الارغفة نصفين، فيمسح أحدهما بقليل من الجبن، ويلف الشطيرة
بعدئذ بقطعة من جريدة الأمس، ويقدمها لأمل قائلا مثل كل يوم:
- خذى نصيبك ... ها
... مبسوطة؟
وبعد أن يغلق الباب وراءها،
يرجع إلى المطبخ، فيضع إبريق الشاى على النار، ويجلس إلى المائدة الصغيرة، فى
المطبخ يتناول فص ثوم، ويقطعه بأناة عدة قطع، يبتلعها على الريق بالماء، ثم يملأ
نصف الرغيف بالجبن، ويصب الشاى، ثم يقطر فيه قطرتين من عصير أعشاب موصوف لشفاء
جميع الأمراض.
بعد أن يفرغ، يتحامل
على نفسه، ويذهب إلى غرفة الجلوس، حاملا معه الجريدة. يمد يده إلى الرف العلوى فى
المكتبة، ويأخذ النظارة الطبية، ثم يرتمي على المقعد الوثير الذى كانت الراحلة
زوجته تفضله على سواه، وكان إذا جلس عليه لحظات وأقبلت، ينتفض، ويخلى لها المكان،
وقد ظل بعد وفاتها، مدة طويلة، يجلس عليه قلقا، يحسبها، بين فينة واخرى، مقبلة،
فيتململ فى جلسته.
الآن يرتخى على المقعد،
واضعا ساقا على ساق، يثبت النظارة على عينيه، ويفتح الجريدة .. يقرأ آنا ويغفو آنا،
حتى إذا ما انزلقت الجريدة من بين اصابعه انتبه، وأكمل القراءة من حيث انتهى، حتى
يغالبه النعاس مرة اخرى، ويصحو على أذان الظهر .
في الساعة الثانية والنصف
بعد ظهر كل يوم، كان الأستاذ عزمى ينظر فى ساعة يده، فيعرف أنه قد حان وقت الغداء،
فينهض إلى الثلاجة، ليأخذ قِدرا صغيرا إلى المطبخ، ليغترف منه مقدارملعقتين من
الخضارالمطبوخ فى طبق معدني، يسخنه قليلا، ثم يفتت فيه قطعا من الخبز. وكان وهو
يأكل يفكر فيما يجب أن يطلب من فوزية إمرأة البواب أن تطهو له يوم الجمعة المقبل.
ما أن ينتهى، حتى يهرع إلى
غرفة النوم، شاعرا أن عظامه قد استحقت نوم القيلولة، فيتمدد هامدا على السرير. وفى
كل مرة يصحو، وقد انتشر الظلام فيجلس على السرير للحظات، وهو يحوقل ويبسمل، محاولا
أن يتبين إن كان عليه أن يصلى صلاة الفجر، أوالمغرب، فيكتشف، فى كل مرة، أن المؤذن
يدعو لصلاة العشاء، فينهض مترنحا ويدلف الى الحمام. يتوضأ ويذهب إلى غرفة الجلوس،
يفرش السجادة، ويصلى المغرب والعشاء معا، ويطيل السجود، والتهجد، ويدعو لأبيه وأمه
وزوجته ... ولأموات المسلمين وأحيائهم.
وبعد أن يتم واجبه نحو ربه، يقوم عن السجادة مرتاح الضمير، متلهفا على اللحظة التى كان ينتظرها طوال يوم.
يعدل جلسته على المقعد، واضعا جهازالتليفون فى حجره، يفتح دفتر أرقام هواتف أبنائه ومعارفه، على المنضدة المجاورة.
أي ريح طيبة؟
فى ذلك المساء
الخريفى وأثناء إنهماكه فى هذه العادة اليومية، حدث أن رن جرس التليفون رنينا
مفاجئا، وكان الصوت على الجانب الاخرغريبا:
- السلام عليكم .. الاستاذ
عزمى؟
- وعليكم السلام ورحمة الله
... نعم ... من؟
- أنا عباس .
- أهلا عباس ...
ثم استدرك:
- عباس من يا إبنى؟
- عباس كامل .. ألا تتذكرنى؟
مدرس التاريخ فى مدرسة نور العلم .
- لا اله إلا الله .. كيف
حالك أستاذ عباس؟ طبعا أتذكرك وأتذكر أيامنا الجميلة .. أين أنت الآن؟ كان اخر ما سمعته عنك، سفرك إلى بلد عربى.
- ورجعت منذ سنوات، وحاولت أن
أفتح سوبر ماركت، لكنى فشلت، والحمد لله على كل حال.
- أهلا ... أهلا .. عباس.
والله زمان ... ولكن أى ريح طيبة حملتك إلينا اليوم، كما كان يقول أجدادنا
العرب؟
- لا .. والله، أنت فى ذهنى
دائما، ولكنك تعرف مشاغل الحياة .. وبالأمس .. إبنى محمد هل تذكره؟ صار رجلا
ملء هدومه، يعمل محاسبا فى شركة، فاتحنى بفكرة إنشاء مدرسة خاصة، فقلت لن نجد خيرا
من أستاذنا وعمنا عزمى لإرشادنا، فهو من أوائل من أداروا المدارس الخاصة فى
القاهرة.
اتسعت إبتسامة الأستاذ عزمى،
كاشفة عن لثته العارية من الأسنان.
- الله يخليك .. وماذا فى
ذلك يا إبنى ... أنا فى الخدمة، تفضل فى أى وقت
جاء صوت عباس ناعما، مراوغا،
مفعما بالغواية:
- لا لا .. دعنا من
جلسات البيوت. أراك غدا صباحا فى مقهى الفردوس. أنت تذكره؟ ليس بعيدا عن مدرسة نور
العلم .. ما رأيك؟ موافق؟ نلتقى هناك إذن .. أعزمك على سحلب ونتكلم.
كان عزمى على وشك أن
يقول "ولكنى لا أخرج عادة من البيت"، وكان يمكنه أن يصرعلى حضور الآخر إلى
مسكنه، ولكن شيئا ما ألجمه، فقد كان للحديث وقع المفاجأة الحلوة. أن يرغب أحد ما،
بعد كل هذا العمر، فى الإستفادة من خبرته. أن يكون ما يزال ذا نفع .. ألا يستحق
هذا الإحساس أن يغير لأجله شيئا من عاداته اليومية؟
الأستاذ يغير عاداته
تلك الليلة لم ينم. ظل عدة
ساعات يتقلب ويتعوذ من الشيطان. كان سيل من الافكار ينثال على راسه، كإنثيال حبات
مطر خشنة، تتساقط بوقع رتيب سريع. فتح عينيه وحدق فى نور الشارع المنعكس على
النافذة المقابلة لسريره، وطفق يرتب الكلام الذى سيقوله لعباس غدا. لابد أن يجمع
في دفتيه عصارة خبرته .. سيحدثه عن الإنضباط .. إختيار المدرسين. الإشراف على كل
صغيرة وكبيرة .. سيبدأ حديثه هكذا "إدارة مدرسة خاصة مسؤولية يابنى تختلف
قطعا عن إدارة السوبر ماركت" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ما الذى جاء
بسيرة السوبر ماركت؟ ربما سيظن أنى أسخر منه، أو أشير إلى فشله فى مشروع السوبر ماركت!
وأعاد صياغة جمله، حتى استنفد كل ما أراد قوله، وبلغ به الإجهاد مبلغا كبيرا. تقلب
على جانبه اليمين الذى تعود أن ينام عليه. وحينئذ تذكر أنه فى غمرة انفعالاته هذا
المساء، نسي أن يبتلع فص ثوم قبل النوم .. وظلت هذه الهفوة تؤرقه حينا، ثم راح فى إغفاءة
قصيرة، رأى نفسه خلالها يجوس داخل مدرسة (نور العلم) .
وكان خفيفا، حتى عجب لنفسه،
وهو داخل الحلم، كيف استعاد شبابه وقوته بهذه السرعة. ثم لفت إنتباهه لغط يصدر من أحد
الفصول، فلما دفع الباب وجد عباس يحاول إسكات الطلاب دون فائدة، فضرب عزمى الباب
بخيزرانة قصيرة كانت فى يده، فران الصمت. وتقدم من عباس وسلمه العصا، وهو يقول "الانضباط
أولا".
وتلفت
عزمى حوله فرأى التلاميذ مرصوصين على أرفف وكأنهم قرنبيط فى سوبر ماركت. وكان عباس
يقول وهو يكاد يبكى "الله يجازيه ... إبنى السبب".
واطلقت رؤوس القرنبيط ضحكات
عالية، فيما سمع الأستاذ عزمى صوت شهقته وهو يفز يقظا.
جلس فى السرير يحاول أن
يخترق الظلام بعينيه، وهو يتمتم "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم إجعله
خيرا". وتمدد ثانية فى الفراش، حتى صاح المؤذن الله أكبر، فنهض يسحب ساقه
الموجوعة إلى الحمام، ثم أدى صلاة الفجر. ولم تطاوعه نفسه على النوم مرة
اخرى، فسحب علبة الصور القديمة من الدولاب، وأخذ يبحث عن عباس فى صورة زيارة مدير
التعليم الابتدائى لمدرسة نورالعلم، حيث توسط الضيف الجليل جموع المدرسين جالسا فى
الصف الاول، وحوله الأستاذ عزمى ووكيلا المدرسة، والمدرسون الأوائل، ثم يقف فى
الصف الثانى، بقية المدرسين وكان يفترش الارض، تحت أرجل الجالسين ، عدد من الطلاب
المثاليين وابناء المدرسين .
تفرس عزمى فى الصورة، لكنه
لم يستطع أن يتعرف على عباس "لا حول ولا قوة إلا بالله .العتب على النظر"
وبعد أن أطال النظر دون جدوى، أعاد الصورة إلى العلبة، وهو يحمد الله على كل حال .
وتناول من الدولاب ملابس
الخروج، وجعل ينفضها لعل غبارا لا يراه يغشاها، ثم وضعها على السرير استعدادا.
وتمشى نحو المطبخ . كان الوقت ما يزال مبكرا، لكنه لم يجد بدا من أن يملأ الإبريق
بالماء، ويضعه على النار. وكان على وشك أن يبلع فص ثوم، ثم تذكر أن عليه اليوم أن
يقابل صديقه. ولعل الرائحة تفضحه فأرجا تناول الثوم لما بعد العودة "اذا كان
لنا نصيب". أخذ قدح من الشاى وجلس فى الصالة المظلمة إلا من شعاع ضوء المطبخ
المترامي عبرها. إحتسى السائل الساخن، وهو شارد الفكر. لم يكن مرتاحا لفكرة الخروج
هذا اليوم ... لا يدرى لماذا ظلت ذكرى أمه تلح على ذهنه ... كانت أمه ماتفتأ تردد "لا
أدرى ما الذى دعاه للسفر ذلك اليوم الأسود ... توسلت إليه يا حاج لا تسافر .. قلبى
منقبض . طيب خذنى معك ... هذه أول مرة تسافر وحدك ... ولكنه ظل يقول لابد أن اسافر
.. هناك من ينتظرنى ... ولا أستطيع خذلانه .. وفعلا ياإبنى كان عزرائيل فى انتظاره
... آخر ما رأيت منه يده وهى تغلق الباب ... لن أنسى ما حييت هذا المنظر".
حقا ما الذى يجعل شخصا ما
يقدم على غير مألوف عادته؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... لماذا هذا التفكير؟
ولكن ... لماذا تذكرنى عباس فجأة؟ إنى حتى لم أتبينه في الصورة!
رشف عزمى الشاى ساهما،
فتناثرت قطرات منه على صدره ... لسعته فانتفض ... ودعك جلده بأصابعه. هل يكون هذا
تحذير من الرحمن؟
عدل من وضع نظارته، وفكر إنه
سيجن لو استمر فى إرهاق ذهنه بهذه الطريقة. "إما أذهب أو لا أذهب" طيب
.. لو ذهبت وحصل المقدر والمكتوب؟
سيقول الناس "مسكين عزمى ... أول مرة يخرج إلى المقهى
.. كان عزرائيل في إنتظاره" وماذا لو لم أذهب؟ ما أسهل ألا أذهب. ولكن هل أتخلى
عن متعة مجالسة عباس والحديث عن أيام زمان؟ والجلوس مرة اخرى على مقهى، والفرجة
على الدنيا. وربما يكون الرجل فى حاجة يائسة فعلا لمشورتى، فهل أحرمه منها بسبب
بعض الترهات والأوهام؟
تنهد الاستاذ عزمى تعبا ونهض،
وهو لم يحسم أمره بعد، ودب نحو غرفة النوم، وبدا وهو يخلع ملابس البيت، ويرتدى
ملابس الخروج، كأنه يفعل كل ذلك بدون إرادته. ومثل من يحمل، مجبرا، هما لا طاقة له
به، غادر الغرفة إلى الصالة. تفرس فى ساعة الحائط، ثم نظر إلى ساعة يده، وهز رأسه،
وهو يتجه إلى الشباك فيغلقه، وكذلك فعل بباب المطبخ النافذ إلى الصالة. إلتقط عصاه،
ووضع يده على باب الخروج، وقبل أن يغادر البيت، أدارعينيه بأرجاء المكان، وقد
استقر فى خاطره أنها المرة الاخيرة التى يحتضن بنظره الغرفة التى شهدت أفراحه وأتراحه
وياما لعب فيها أولاده، وخيل إليه أن زوجته الراحلة تجلس فى مقعدها الاثير، تشير إلى
ياقته وتعنفه قائلة "كيف تخرج بهذا القميص المبقع يارجل؟ أليس عندك عينان
تنظران هذي الوساخة؟" تندت عيناه بالدموع وابتسم بحنان، ثم نظر إلى يده وهى
تمسك بالباب وتذكر أمه "آخر ما رأيت منه، يده وهى تغلق الباب. لن أنسى ما حييت
هذا المنظر".
ومع أول إرتطام العصا ببسطة
السلم ردد "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. توكلت عليك يارب" .
فى حوش العمارة خف إليه
(سيد) البواب يخبّ فى جلبابه النظيف، متسائلا باستغراب وهو يأخذ بيده:
- إلى أين العزم يا عمى
الحاج؟
أجاب عزمى باقتضاب:
- مشوار
ثم أضاف:
- أوقف لى سيارة أجرة والنبى
يا سيد.
- حاضر .. إلى أين يا عمى
الحاج؟
- المنيرة.
- من عينى .
سبحان الله ... فكر عزمى ...
كل شىء متيسر وكأنه بترتيب من رب العالمين ... سيد هذا الذى لا نراه طوال اليوم ..
يبدو وكأنه كان ينتظر خروجى.
وقف سيد قلقا يشير للسيارات،
ويجرى وراءها دون طائل . نقل عزمى عصاه من يد إلى أخرى، ولكنه لم يحس بوطأة الإنتظار،
بل كان كلما طالت وقفته، إزداد اطمئنانا، وأخيرا
أشار لسيد أن تعال، ونفحه ربع جنية كاملا، وقال:
- شكرا ياسيد ... سأتمشى
قليلا.
- إلى المنيرة يا عمى الحاج؟
ضحك عزمي وربت على كتف سيد،
وهو يتحرك نحو الدرب الذي اعتاد السير فيه كل جمعة، ولكنه كان كمن يكتشفه لأول مرة.
كان شعورا بالخفة والرضى يطير بساقيه وعصاه، حتى وصل الجامع.. رأى المتسول الضرير
مقتعدا مكانه المعتاد .. فهتف به :
- كيف الحال ياحاج محمد؟
- من؟ عمي عزمي؟ ولكن هذا ليس يومك؟
ضحك عزمي، وهو يجيب بلا مبالاة:
- قلنا نغير العادة!
ثم خلع حذاءه، وتسور العتبة إلى المصلى.
**