يصدر قريبا عن المركز القومي للترجمة في القاهرة
مقدمة بقلم المترجمة: بثينة الناصريمن المفارقة التي تستدعي التأمل، أن نجد أن مؤلفيْ الكتاب استخدما في النص وصولا الى الاستنتاجات الأخيرة، تعبيرات عسكرية: الحرب – الصدمة والترويع – القصف – الصراع – القنبلة – الذخيرة وغيرها مما يستخدم في وصف قوة السلاح "الخشنة"، وصفا لقوة الإعلام "الناعمة" متمثلة على الأخص في "هوليوود".
أمريكا استخدمت ومازالت القوتين لصالح تحقيق مصالح الإمبراطورية : السلاح للسيطرة على الأرض وما فوقها وتحتها من موارد، والإعلام للسيطرة على العقول. واحتلال الأرض يبدأ من احتلال العقول، واحتلال العقول يبدأ من احتلال اللغة.
واحتلال اللغة (ليس المقصود به فقط تعميم لغة المحتل حيث انه من أول مهام الإحتلال نشر لغته لتكون لغة التعامل والوظائف والتعليم)، هو استخدام مفردات تؤدي الى تغيير المفاهيم وطرق التفكير، فأن تنتمي، مثلا، الى "الشرق ألأوسط" غير أن تنتمي الى "الوطن العربي". اللغة تعكس الفكر ولكنها تشكّله أيضا.
"هوليوود" باعتبارها – كما يقول الكتاب الذي بين يديك – أكبر منتج للصور في تاريخ العالم، ساهمت بالصورة في كتابة التاريخ الأمريكي والعالمي أيضا، فقد نشأت أجيال العالم التي وصلتها ألأفلام الأمريكية طوال القرن العشرين على اعتبار الهنود الحمر قبائل متوحشة، بدائية ، هوايتها القتل وسلخ رؤوس أعدائها، وأن الإنسان الأبيض الذي – في الواقع نهب أراضيها وعمل على إبادتها- قد جاء لتمدين هؤلاء المتوحشين. كنا ونحن نتابع افلام الغرب الأمريكي ، نتمنى كلنا أن ينتصر الأبيض الطيب النبيل الوسيم والظريف على الهندي الأحمر الشرير. بعدها، حين نضجنا وقرأنا وفهمنا وعشنا التجربة، اكتشفنا أننا كلنا – في الحقيقة- هنود حمر.
كذلك كتبت هوليوود وقائع الحروب العالمية ، والغزوات الأمريكية في آسيا وأمريكا اللاتينية، وأخيرا في بلاد العرب، كان الأمريكي دائما ذلك الشجاع النبيل في مواجهة أشرار يريدون إبادة الحضارة وطريقة الحياة الأمريكية (التي ينبغي أن تكون طريقة حياة جميع البشر كما تبشرنا هوليوود) ، احيانا يكون هؤلاء الاشرار صفر الوجوه، او خلاسيين، أو سودا، أو سمرا ، أو حتى من الأعراق البيضاء ولكنهم يسكنون في الكتلة الشرقية من اوربا، يشربون الفودكا ويرطنون بلغة غير الإنجليزية.
الصورة ، كما كان يقال لنا، بألف كلمة، فالصور لا تكذب. ولهذا كانت تعتبر دليلا حاسما في المحاكم وغيرها. ولكن في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين ، ومع تطور تقنيات الصور، اكتشفنا أنه أصبح من اليسير، تزييف الصور، وتركيبها، ومنتجتها، بالاضافة اليها او الحذف منها، أو خلق واقع لم يكن في الأصل. وطالما رأينا أبطال أفلام في مواقف يلتقون فيها مع شخصيات تاريخية حقيقية ولكنها مواقف مختلقة . أنصع مثال على ذلك ، ما رأيناه من الممثل توم هانكس في دور فوريست غمب وهو يسلم على ثلاثة رؤساء أمريكيين ويتبادل الحديث معهم في ثلاث مراحل من حياته وهم جون كنيدي، ولندون جونسون ، وريتشارد نيكسون، وهي بطبيعة حال لقاءات لم تحدث في الواقع. كل ذلك كان ممكنا بمساعدة تقنيات كومبيوترية مختلفة.
و أشد تأثير للتلاعب بالصور هو في إظهار القلة من الناس وكأنهم حشد كبير أو العكس، باختيار زوايا التصوير أو إعادة تصوير لقطات لمجموعة محددة من الناس ثم طباعة اللقطات معا، وبشيء من التمويه تبدو الصورة وكأنها لمئات الاشخاص. من أشهر أمثلة التلاعب بالمجاميع هي الصورة الشهيرة لإسقاط تمثال الرئيس صدام حسين في ساحة الفردوس في بغداد في يوم احتلالها في 9 أبريل 2003، وقد أرادت القوات الأمريكية إنتاج صورة رمز تظل في ذاكرة الشعوب، مثل صورة اسقاط جدار برلين وغيرها. الصورة كما ظهرت (في تصوير مباشر أو مسجل) كانت لجماهير غفيرة من العراقيين يتحلقون حول التمثال يحالون اسقاطه، وحين لم يتمكنوا (وربما كانت هذه من ضمن السيناريو) تقدمت دبابة أمريكية وأسقطت التمثال.
رأى العالم كله هذه الصورة، وسمع التعليق المصاحب والذي يعبر عن فرحة العراقيين وخروجهم بشكل (عفوي) الى الشارع لإسقاط التمثال.
ومن المعروف ان التمثال كان يقوم وسط ساحة تقع أمام الفندق الذي اتخذه الصحفيون والإعلاميون الأجانب المرافقون للاحتلال مقرا لهم، ولهذا كانت عملية اسقاط التمثال في مكانها المناسب.
لم تمض عدة أسابيع حتى عرف العالم أن الصورة كانت مفبركة. وأنها كانت سيناريو هوليوودي، وأن جموع الناس وحشد الجماهير لم يكن سوى الصحفيون ومجموعة من عراقيين معارضين كانوا قد نقلوا بالمروحيات الأمريكية من الناصرية (وصولا من الكويت) مع الغزو، وأن كل الموجودين لم يزد عددهم على 100 شخص. وأن الدبابات الأمريكية كانت تحيط بالساحة لحراستهم (مما لا يجرأ معها أي انسان عراقي عادي في ذلك اليوم غير العادي، أن يخترقها). ولكن لا شيء من هذا ظهر في الصورة وانما استخدمت زوايا الكاميرات بطريقة تظهر جموعا حاشدة.
إذن الصورة لم تعد انعكاسا حاسما للحقيقة. مع تطور التقنيات، تداخل الواقع بالإفتراضي، الحقيقة بالخيال، الصادق بالمزيف. كيف يمكن لإنسان القرن الواحد والعشرين ومابعده ، إذن ، أن يميز بين هذا وذاك؟
وبنفس الطريقة تداخلت أساليب القوة الخشنة مع أساليب القوة الناعمة، من أجل تحقيق السيطرة على الأرض و العقل معا.
نستطيع القول أن عملية غزو واحتلال العراق في معظمها أديرت بأساليب هوليوودية، الصور الضخمة المؤثرة (المتحركة والجامدة) والمقصود بها التأثير اولا على الشعب الأمريكي ، ثم الرأي العالمي ، ثم الشعب العراقي في آخر المطاف، هي التي أشرت لمراحل الحرب على العراق.
أول الصور كانت طابورا من الجنود العراقيين رافعي الأيدي مستسلمين للقوات الغازية ، كان ذلك في جنوب العراق. وقيل فيما بعد أن الصورة كانت مفبركة لأن قوات الإحتلال قد جوبهت بمقاومة من الجيش العراقي أخرته اسبوعين عن الوصول الى بغداد.
ثاني الصور كانت صورة المجندة الأمريكية جيسيكا التي قيل أن قوات امريكية انقذتها بطريقة اسطورية من مستشفى عراقي. ثم اتضح ان الأطباء العراقيين هم الذين طلبوا من الأمريكيين المجيء لاستلامها، ولم تكن العملية شجاعة رامبو.
ثالث الصور المهمة كانت اسقاط التمثال في ساحة الفردوس في بغداد. وقد تحدثت آنفا عن ملابساتها.
رابع الصور كانت صورة الرئيس جورج بوش على حاملة الطائرات ، مرتديا ملابس طيار مقاتل ، وخلفه لافتة تقول "انتهت المهمة" ، ملقيا خطابا حول انتهاء المهمة في العراق. كان ذلك في 1 مايو 2003. ونعلم ان (المهمة) لم تنته حتى الآن بعد سبع سنوات !
خامس الصور كانت صورة الرئيس صدام حسين مقبوضا عليه في حالة شعثاء خارجا من (حفرة) تحت الأرض. وقد عرف العالم فيما بعد أن طريقة الاعتقال لم تكن هكذا أبدا ولم تكن في ذلك المكان.
سادس الصور كانت صورة صدام ايضا وطبيب الاحتلال يفحص فمه. وهي عملية تجري عند استلام اي أسير، ولكن تصويرها كان من أجل تثبيت صورة جديدة لصدام "الخائف ، الخانع، المستسلم" وهي صورة تناقض ما ظهر عليها في المحكمة مثلا، أو في لحظة الإعدام .
سابع الصور كانت صور انتهاك المعتقلين في أبي غريب. ولا ندري إذا كان التسريب برغبة أمريكية من أجل بث الخوف في نفوس العراقيين ، أي عملية حرب النفسية، ولكن على أية حال، صارت الصور وبالا على صورة أمريكا (حامية حقوق الانسان والديمقراطية والحرية) في عيون الآخرين.
ثامن الصور كانت (الأصابع البنفسجية) والانتخابات الأولى في العراق، باعتبارها المظهر الأول للديمقراطية.
تاسع الصور كانت صورة ابي مصعب الزرقاوي قتيلا. لم يره أحد قبل ذلك حيا، ولكنه كان قد (دوخ) الأمريكيين والعراقيين بظهوره في وقت واحد في كل مدينة عراقية واختفائه على مسافة شعرة من اعتقاله. وبعض المراقبين الأمريكيين والمحللين الأجانب يعتقدون بأن الزرقاوي كان مجرد "اسطورة" من أساطير هوليوود.
عاشر الصور كانت لحظة إعدام الرئيس صدام حسين. وهي مثل صور أبي غريب، ربما سربت بقصد التأكيد على خروج الرئيس العراقي من مسرح الأحداث ولكن الصورة كانت وبالا أيضا على صورة الأمريكيين في عيون الرأي العام العالمي.
كانت آخر صورة في مسيرة الحرب على العراق وأول الصور في عهد الرئيس اوباما، هي صور (الإنسحاب) المفترض، للجنود والمعدات، ولكنها كانت صورا خادعة أيضا، لأن قوات الاحتلال لم تنسحب حقا وإنما غيرت تسمياتها فصار عنوان الجنود المقاتلين (مستشارين ومدربين) للجيش العراقي.
لم يقتصر خلط الواقع بخيال هوليوود على الصور المؤثرة فقط، وإنما كان أسماء العمليات العسكرية المهمة في العراق مستوحى من عناوين الأفلام الهوليوودية الشهيرة.
مثلا سميت عملية اعتقال الرئيس صدام حسين باسم (الفجر الأحمر) على اسم فيلم يدور في حقبة الحرب الباردة، بل أن الضابط الذي وقف يشرح لنا على الخارطة الأماكن التي فتشت باعتبارها مواقع اختباء محتملة سميت ايضا باسم Wolverines وهو الاسم الذي يتخذه أبطال الفيلم لاطلاقه على فرق مقاومة يشكلونها ضد غزو سوفيتي لأمريكا. كما سميت معارك اخرى في العراق باسم "كوكب اكس Planet X" اشارة الى فيلم "الرجل القادم من كوكب اكس" و "قاهر الوحوش BeastMaster" على اسم مسلسل شهير بهذا الإسم، و"حفلة الجوار Block Party" وطبعا "الفك المفترس Jaws".
يقول الملازم السابق جيمس دانلي أن وحدته العسكرية في العراق كانت تجد اسماء المعارك في الأفلام "حين تكون في العراق وليس لديك شيء تفعله، فإنك تقضي الكثير من وقت الراحة بين الدوريات بالبحث عن اسماء أفلام مناسبة" وهكذا سميت احدى المعارك "مواجهات قريبة Close Encounters" و "المجالد Gladiator" (المصدر)
يذهب الجندي الأمريكي الى الحرب متأثرا بصورة (الأمريكي) القوي الذي لا يقهر التي تروجها هوليوود: رامبو ذو العضلات والسلاح الجاهز، أو المدمر Terminator المنتقم الذي يعد المشاهدين والأشرار دائما بعودته I’ll be back وهي اللازمة التي يرددها شوارتزنجر في دور المدمر، وبسبب التهاب أحاسيس الشعب الأمريكي نفسه بالمشاهير وابطال الأفلام والميديا الآخرين، والذين يشكلون القدوة التي تكاد تكون الوحيدة للأمريكي العادي، فإن اختياراته للمرشحين للرئاسة أو الكونغرس تتأثر بصورة البطل الوسيم الشاب فارع الطول، ناهيك عن اختيار ممثلين حقيقيين لأدوار القادة السياسيين، وهكذا اختير الممثل ريغان للرئاسة واختير شوارتزنجر ليكون حاكم كاليفورنيا.
وفي داخل الإدارة الأمريكية ، يذكر مؤلفا الكتاب انه "مع وجود ممثل هوليوودي في البيت الأبيض – ريغان- استعارت السياسة بعض العناوين الهوليوودية. فقد اكتسب ريتشارد بيرل مستشار ريغان لقب (امير الظلام) وديك تشيني اسم دارث فادر (Darth Vader) وهي اسماء من سلسلة حرب النجوم . كان المحور الرئيسي في فترة ريغان الثانية في الرئاسة هي مبادرة الدفاع الستراتيجية التي اصبحت معروفة باسم (حرب النجوم) "- الفصل الرابع
في الحروب الأمريكية و بسبب الإمكانيات الهائلة لهوليوود والإعلام المرئي بشكل عام، كانت الميديا هي "فريق الرد السريع" وهذا التعبير ليس من عندي ولكنه كان أمرا حقيقيا، فقد أسند قسم الحرب النفسية في البنتاغون لشركة أمريكية اسمها SAIC قبل غزو العراق مهمة اعداد "فريق الرد الإعلامي السريع" ويتكون من خبراء أمريكيين في الإعلام وفي الحرب النفسية وبالاستعانة بمذيعين عراقيين يدينون بولائهم للجيش الأمريكي، من أجل تمهيد الأرض أمام قوات الغزو قبل 2003 وأثناءه وبعده. وكان الفريق هو الذي شكل بعد الاحتلال، نواة شبكة الاعلام العراقية التي حلت محل وزارة الإعلام التابعة للحكم السابق قبل الإحتلال. ويلاحظ من اسم الفريق "الرد السريع" الصبغة العسكرية ، فالحرب الإعلامية لا تقل أهمية عن الحرب العسكرية.
يقول جون بلجر الكاتب وصانع الأفلام البريطاني في مقالة نشرها في الجارديان بتاريخ 10 ديسمبر 2010 بعنوان (لماذا لا ينقل الإعلاميون الحقيقة عن الحرب؟)
(عن الدليل العسكري الاميركي لمكافحة التمرد يصف القائد الامريكي الجنرال ديفد بترايوس افغانستان على انها "حرب السيطرة على الوعي .. تدار باستمرار بالاستعانة بوسائل الاعلام الاخبارية". مايهم في الواقع ليس المعارك اليومية ضد طالبان وانما كيف بيعت المغامرة في امريكا حيث "تؤثر وسائل الاعلام مباشرة على رأي الجمهور المهم").
هذا هو المهم في نظر الإدارة الأمريكية : التأثير على الداخل الأمريكي حتى يستمر في تأييد الحرب. إذن كل التشويه أو التضليل الإعلامي موجه الى وعي الشعب الأمريكي وليس الرأي العام الخارجي.
ويضيف بلجر قائلا (في بداية فيلمي "الحرب التي لا تراها" هناك اشارة الى حديث خاص سابق لعصر وكيليكس، في كانون الاول 1917 بين ديفد لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الاولى و سي بي سكوت رئيس تحرير جارديان مانشستر . قال رئيس الوزراء "اذا علم الناس الحقيقة ، فسوف يوقفون الحرب غدا، ولكن بالطبع هم لا يعلمون ولا يستطيعون ان يعلموا")
مايضمن الا يعلم الشعب بما يجري في الحروب التي تقودها بلاده، هو دور المجمع الإعلامي-العسكري، حيث يترافق الصحفيون مع الجنود في نقل وجهة نظر واحدة. فالمذابح مثلا التي تصيب المدنيين لا تنقل صورها ويكون خبرها مقتضبا لايتصدر الصحفات الأولى من الصحف، وبطبيعة الحال: مالا يذاع ولا ينشر ، لم يحدث.
يستمر بلجر (أخبرني دان راذر مذيع الاخبار في سي بي اس لمدة 24 سنة قائلا" كان هناك خوف في كل غرفة اخبار في امريكا. الخوف من فقدان وظيفتك.. الخوف من ان توصف بوصف معين يلصق بك :غير وطني او ماشابه." يقول راذر ان الحرب صنعت "منا جميعا "مختزلين" (يكتبون مايملى عليهم) " ولو كان الصحفيون قد ناقشوا وشككوا في الخداع الذي قادنا الى حرب العراق بدلا من تضخيمه لما وقع الغزو. وهذا الرأي يشاركه الان فيه عدد من كبار الصحفيين الذين حاورتهم في الولايات المتحدة.)
الى جانب كل هذا الاندماج بين العسكري والإعلامي ، فهناك جانب ربما لم يذكره بلجر أو مؤلفا الكتاب الذي بين يديك ، وهو اختلاط التجسس بالمهنة الإعلامية ، فقد كانت أجهزة المخابرات البريطانية او الأمريكية إما تستعين بصحفيين يستطيعون الدخول الى أماكن لا تستطيع عناصرهم الدخول اليها، لمدهم بالمعلومات المطلوبة، وإما تنكر عناصرهم بهويات صحفية، وقد جرى مثل هذا في كل الحروب في القرن العشرين وخاصة في الحرب على يوغسلافيا وافغانستان والعراق. وليس من قبيل المصادفة أن الصحفيين هم الأكثر تعرضا في هذه المناطق للاختطاف والقتل، من قبل الجماعات المقاومة المسلحة التي تعتبرهم "جواسيس". لقد اختلط الحابل بالنابل، في عالم المعلومات.
لايرجع توقفي عند الحرب على العراق، الى اهتمامي الطبيعي بوطني، ولكن لأن مؤلفيْ الكتاب اعتبرا "العراق" حجر الزاوية في التغيير الذي أصاب عالم الميديا العالمية. فالكتاب على اية حال عنوانه الرئيسي بالانجليزية American Idol after Iraq (برنامج معبود الجماهير الأمريكي بعد العراق) ، والكتاب موجه الى الجمهور الأمريكي والى صانع السياسة الخارجية الأمريكي بشكل خاص، فحرب العراق في رأي المؤلفين ، كانت حربا غير شرعية وغير مبررة وقد نالت امريكا بسببها عداء أمم كثيرة، وأساءت الى صورتها مما يحتاج الى اتخاذ خطوات وإجراءات للاستفادة من هوليوود لتحسين الصورة.
أدرك مؤلفا الكتاب أهمية القوة "الناعمة" في كسب قلوب وعقول الناس في كل مكان وخاصة داخل أمريكا ذاتها. أما في خارج أمريكا فإن قراراتها السياسية هي التي تقرر الصورة التي تعكسها للرأي العام العالمي، فلايمكن لأي قوة ناعمة أن تلطف أجواء قرية قصفتها وقتلت أطفالها ونساءها وخيرة رجالها، طيارات امريكية بدون طيار، أو مروحيات أباتشي، أو صواريخ كروز وهي تنطلق من ظهور حاملات الطائرات في خلجان العالم.
ويلاحظ المؤلفان ظاهرة عجيبة: مهما ازداد نفور الشعوب من السياسة الخارجية الأمريكية فإن شباك التذاكر في كل مكان يسجل أكبر مشاهدة للأفلام الأمريكية . ماهو السرّ ياترى؟
ولكنهما في نفس الوقت يشعران بأنه مع تقدم تقنيات وسائط الإعلام وتقلص العالم الى قرية صغيرة بسبب العولمة ، فإن الشعوب تزداد تمسكا بهوياتها وتنوعها، وانها بدأت تنتج أفلامها وتروي قصصها على الشاشات والوسائط الأخرى، منافسة بذلك هوليوود. لم تعد القصة من جانب واحد (الجانب الأمريكي) هي الجديرة بالمشاهدة والانصات. ويقترح المؤلفان أن تسارع هوليوود – بالمقابل- بالانفتاح على روايات العالم لتستطيع الإحتفاظ بمشاهديها في عالم قادم متعدد الأقطاب. ويرسم المؤلفان خطة لاستعادة التأثير الأمريكي في العالم، او ما يطلقان عليه وصف "بريق أمريكا الآخذ في التلاشي"، ولعل أهم مافي هذه الخطة هو قولهما " بسبب انتشارها العالمي، فإن الثقافة الشعبية الأمريكية هي لاعب في الشئون الدولية بقدر المؤسسات الأمريكية للسياسة الخارجية" واقتراحهما تشكيل مجلس للعلاقات الثقافية الخارجية اسوة بمجلس العلاقات السياسية الخارجية، "يمكن تسميته - منتدى التبادل المعلوماتي والثقافي- ويكون هيئة مستقلة" الفرق الكبير هنا هو في هيكلة المنتدى التي ستكون مثل شارع ذي اتجاهين. "سوف تستمع أمريكا لقصص الآخرين كما سوف تروي قصتها – تطور للدبلوماسية العامة باتجاه تبادل ثقافي". ويدعو المؤلفان أمريكا الى التواضع والتخلي عن الغطرسة، والى التعاطف مع الآخرين والى الاستعداد لمنافسة شديدة مع الأفلام والمسلسلات الصاعدة من امريكا اللاتينية وآسيا خاصة الهند والصين واليابان وكوريا ايضا.
من المثير للانتباه في الكتاب ، التركيز الشديد على السينما الصينية، وليس الهندية مثلا (بوجود بوليوود ذات الانتاج الذي يتجاوز سنويا انتاج هوليوود) ، فهل كان هذا التركيز نابعا من التخوف من أن تتمكن الصين وهي تصعد (اقتصاديا وسياسيا كمركز قوة عالمية) من منافسة أمريكا في إسماع رسالتها وخطابها الى العالم؟
استقبل الكتاب استقبالا جيدا في الأوساط الفنية والسياسية والاعلامية الأمريكية التي اعتبرته يفتح بابا صريحا موضوعيا لمواجهة الذات، كما انه يقترح أفكارا ايجابية لاستعادة أمريكا مكانتها في معركة كسب القلوب والعقول بعد الكبوة في العراق. وأهمية الكتاب الى جانب ذلك، أن أحد مؤلفيه كاتب إعلامي وناقد فني هو نيثان غردلز، ويبدو لي أنه هو الذي كتب معظم الكتاب، فقد كانت الهوامش والإحالات تعود في معظمها الى مقالاته أو الى الدورية التي يرأس تحريرها The Perspectives Quarterly ، في حين أنه لم يكن هناك سوى هامش واحد للمؤلف المشارك مايك ميدافوي، لايشير الى شيء كتبه أو قاله وإنما الى رسالة جاءته عبر البريد الألكتروني من سائل. ولكن ميدافوي منتج معروف في هوليوود وقد رأس شركات سينمائية وساهم في انتاج أفلام رسمت علامات في تاريخ السينما الأمريكية ، وربما كانت خبرته وراء الكثير من المعلومات في الكتاب، فإذن هما يتحدثان بما يعرفانه ويبحثان عن طريق جديد وسط غابة يعرفان مسالكها جيدا. ولكنهما في نفس الوقت لا يخرجان عن إطار "المؤسسة" الرسمية، فالخطاب الذي يعتنقانه هو الخطاب السياسي الأمريكي ، كل الذي يسعيان اليه هو "تحسين" و"تجميل" ذلك الخطاب. فهما مثلا على يقين كامل لايقبل الشك بأن أحداث 11 سبتمبر هي من أعمال مسلمين عرب متطرفين وعلى ذلك يبنيان كل استنتاجاتهما اللاحقة، في حين أنه في داخل أمريكا، هناك تيار قوي الآن يشكك في أن تكون عملية تدمير البرجين في نيويورك قد جرت حسب الرواية الرسمية، والبعض مازال يطالب بتحقيق مستقل، واصما التحقيق الذي جرى بالناقص والموجه سياسيا.
كذلك هناك الإشارات التي تتعلق بالديانة الاسلامية والتي تبدو يقينا في وجدانيْ المؤلفين ، فرغم انهما يضعان صفة (المتطرفين) للتفريق بين المسلمين المعتدلين والمتشددين، ولكنهما من جانب آخر يصمان المسلمين جميعا بصفات مشتركة مثل : "اساءة معاملة النساء في الثقافات الاسلامية"، وكأن الثقافات الأخرى لا تسيء معاملة النساء، حتى أن أكبر نسبة جرائم ضد النساء، من اساءة معاملة عائلية الى الاغتصاب (من قبل افراد من العائلة او الغرباء) والقتل، موجودة في الولايات المتحدة. ويضاف الى هذا التعميم ، فكرة أن الديانة الاسلامية متجهمة ولا تقبل الانفراج او الانبساط او الفرح، وكأن المسلمين جميعا صغارا وكبارا لا يفعلون شيئا من أمور الحياة طوال 24 ساعة كل يوم سوى العبادة والأمر والنهي.
ومن هذا المنطلق كان تقبل المؤلفين لأقوال بعض الشخصيات اللبرالية القادمة من بيئة مسلمة وكأنها لا تقبل الدحض أو النقاش. مثلا ايرادهما قول أكبر أحمد وهو باحث باكستاني وسفير سابق الى بريطانيا من أن عقلية الحصار تجتاح العالم الإسلامي " مثلما حدث في 1258 حين تجمع المغول خارج بغداد لتحطيم أعظم امبراطورية عربية في التاريخ الى الأبد. ولكن في هذا الوقت، سيكون القرار نهائيا. إذا هزم الإسلام فلن يعود ثانية" . ولكن من وجهة نظر تاريخية حتى وليست منحازة ، يبدو أحمد أكبر جاهلا بالتاريخ العربي والإسلامي، لأن بغداد لم تكن في ذلك الوقت حاضرة العرب فحسب وانما عاصمة الحضارة الإسلامية أيضا وحين هزمت لم يهزم الإسلام وانما التاريخ يقول لنا ان المغول انفسهم اعتنقوا الإسلام .
من المآخذ على الكتاب أنه، كما قلت آنفا، موجه الى الجمهور الأمريكي على الأخص، ولهذا أورد المؤلفان بعض اسماء البرامج والأفلام المؤثرة وكأنها معلومة عامة يعلمها الجميع ولا تحتاج الى شرح ، فاسم الكتاب مثلا يقتبس (American Idol) وهو برنامج قد لا يكون كل من يقرأ الكتاب من خارج الولايات المتحدة قد شاهده أو تابعه أو حتى فهم مايرمز اليه. والبرنامج هذا، مسابقة لاختيار أفضل صوت غنائي (امرأة كانت أو رجلا) عبر تصفيات، ويشترك في الاختيار لجنة تحكيم والجمهور الذي تكون له الكلمة الفصل الأخيرة في التصويت لمعبود الجماهير الأمريكي القادم. البرنامج يمزج بين فخامة الانتاج والتقديم وصرعات الأزياء وتسريحات الشعر، والشعبية الكاسحة ، وهو يتنقل عبر الولايات الأمريكية لاختيار المرشحين. تأتي شعبية البرنامج من الثقافة السائدة في المجتمع الأمريكي المعاصر في الإقتداء بنجوم الفن والرياضة celebrities . وقد استنسخ العرب البرنامج في صورة برنامجي (شاعر المليون) و(أمير الشعراء)، وبرامج مماثلة أخرى ولكن أقلّ شهرة.
رغم نقاط الضعف هذه، فإن الكتاب إضافة مهمة لعالم الميديا، فهو، الى جانب توضيح مزايا القوة الناعمة في عالم يتنافس على الخطاب المؤثر، ووضع الحلول التي يراها المؤلفان ناجعة لاستعادة صورة أمريكا التي راودت حلم البشر يوما ما، رشيق الإسلوب والعبارة. وله طريقة في "تصوير" وصف الأشياء والأفعال. مثل القول "اندفاع الطوفان وتحطم الأبواب" كناية عن تدفق الميديا في عالمنا اليوم، وغيرها كثير.
مصطلحات الكتاب
في ترجمتي لهذا الكتاب، توقفت كثيرا عند محاولة تعريب كلمات مثل "ميديا Media " وهي جوهر الكتاب.
وهي كلمة خفيفة جميلة لا أكاد أجد لها كلمة واحدة عربية مقابلة . وقد تركتها في بعض الأماكن كما هي، ولكني في المجمل، ترجمتها بالمعنى الحقيقي، فالميديا، وتسمى ايضا mass media يقصد بها "وسائط الإعلام الجماهيرية" المنوعة مثل التلفزيون والاذاعة و الصحف والانترنيت والمستخدمة جميعا في نقل الاتصالات والمعلومات الى جماهير غفيرة، وايضا يشير المصطلح للشركات والهيئات التي تسيطر على هذه التقنيات.
ابتدأ مصطلح ميديا ينتشر في العشرينيات من القرن العشرين. قبل ذلك بقرون ، كان اختراع الطباعة في اواخر القرن الخامس عشر، بداية الأشكال الاولى من الاتصالات الجماهيرية، فقد مكنت الطباعة من نشر الكتب والصحف على نطاق اوسع مما كان سابقا.
تستخدم وسائط الاعلام الجماهيري في عدة اغراض منها :
- الدعاية لمهنة ما او قضايا اجتماعية وهذه تشمل الاعلانات والتسويق والبروباغندا والعلاقات العامة والاتصالات السياسية.
- الترفيه ، من خلال التمثيل والموسيقى والرياضة ومن اواخر القرن العشرين دخل على الخط الفيديو والعاب الكومبيوتر
التقنيات تشمل الميديا الالكترونية والورقية:
- البث الإذاعي : الراديو والتلفزيون
- انواع من الاسطوانات والشرائط وهذه تستخدم عادة للموسيقى والفيديو والكومبيوتر
- الافلام وهي غالبا للترفيه ولكن هناك ايضا الافلام الوثائقية
- الانترنيت مثل المدونات والمواقع والاذاعات وافلام يوتيوب
-الهواتف النقالة ، لإرسال الاخبار السريعة والمقاطع الترفيهية مثل النكات وابراج الحظ والاعلانات والالعاب والموسيقى والاعلانات
- النشر ويشمل النشر الورقي والالكتروني
- العاب الفيديو
يتميز الانترنيت من بين كل هذه الوسائط والتقنيات بأنه أحدث ثورة عالمية ، بل إنه غيّر وجه العالم اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. ولن تتضح نتائج هذه الثورة الا بعد حين، وإن بدأت بوادرها. فالانترنيت مكن الأفراد العاديين الذين لا يملكون الثروة أو الوسيلة لإقامة قنوات اذاعية او اصدار صحف أو انتاج أفلام، لفعل كل ذلك من خلال الانترنيت. ومكن الأفراد المعارضون لحكوماتهم والذين لايسمح لهم بالعمل داخل البلاد أو اصدار صحف وغير ذلك ، من الخروج الى الفضاء الافتراضي لقول ما يشاءون دون الخوف من هراوة الأنظمة. كما مكن الأخبار الحقيقية من الإنطلاق من مصادرها المتعددة والتي لا تخطر على بال، الاخبار التي يمكن ان يجري كتمانها او التعتيم عليها او تغييرها ، تراها بعد دقائق على الانترنيت. المعلومة التي كان الفرد يتجشم عناء الذهاب الى المكتبات العامة للحصول عليها، اصبح يستطيع بضغطة اصبع أن يفتح أعتى مكتبات العالم للاطلاع على مايشاء. الانترنيت أثر على الصحف حيث اصبح المواطن يفتح شاشة الكومبيوتر ويطلع على كل مايشاء من صحف، بكل لغات العالم ، والأفلام أيضا، والألعاب . باختصار كل وسائل الترفيه ، يتفرج عليها ويصنعها بنفسه ويتشارك بها مع ملايين الناس من كل بقاع الأرض. لم يعد ينفع أن تحاول حكومة ما اخفاء أمر على شعبها، لأنهم سيطلعون عليه في مواقع الانترنيت. لم يعد من الممكن ان يكذب سياسي ما على ناخبيه، لأن الكذبة سوف تفتضح بعد دقائق في أروقة العالم الإفتراضي.
هناك الآن الإعلام البديل على الانترنيت الذي يقدم لك الأخبار التي لا يمكن ان تسمعها أو تشاهدها في أجندة البث الحكومي او المؤسساتي، وهذا يجرنا الى المصطلح الآخر الشائع وهو : الميديا المؤسساتية corporate media
ويشير المصطلح الى انتاج اعلام جماهيري تسيطر عليه وتملكه وتموله شركات رأسمالية كبيرة تسعى الى الربح. واحيانا يطلق الاسم على نوع الميديا التي لا تخدم الصالح العام وانما تستخدم من قبل الاحزاب السياسية لتحقيق مصالحها، ويستخدم أحيانا بدلا منه مصطلح mainstream media
من المصطلحات التي وردت في الكتاب: mass culture وقد ترجمتها "الثقافة الجماهيرية" وهي الثقافة الشائعة والرائجة بين الجماهير والتي تصنع ثقافة مجتمع ما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق