هذه وريقات من الفصل الأول من متتالية "بن يجوب العالم" للكاتبة البريطانية الأصل دوريس ليسنج، ترجمة بثينة الناصري.
**"كم عمرك" ؟
"ثمانية عشر"
لم ينطق بالجواب فورا، لأن بن كان يخشى ما يتوقع أن يحدث الان، وهو ان يضع الشاب خلف الزجاج الذي يحميه من الجمهور، قلمه الجاف على الاستمارة التي كان يملأها، ثم يتفحص زبونه بنظرة يعرفها بن جيدا. سمح الموظف لنفسه بلحظة لهو سريعة ولكن بدون استهزاء. رأى أمامه رجلا قصيرا ، بدينا او على الاقل ثقيل القوام - يرتدي سترة اكبر من مقاسه – قد يكون عمره في الأربعين على الاقل. ويالذلك الوجه! كان وجها عريضا، قوي الملامح. فم ممدود بابتسامة- هل هناك مايستدعي الضحك؟ انف عريض بمنخرين واسعين، عينان خضراوان ، بأهداب بلون الرمل، تحت حاجبين رمليين كثين. كانت له لحية قصيرة مرتبة لا تناسب الوجه. شعر اشقر يبدو – مثل ابتسامته- صادما ومزعجا ، طويلا يتهدل الى الامام مستقيما، وفي خصل ناشفة على الجانبين ، كما لو انها تقليد ساخر لقَصَة شعر رائجة. ومما يزيد الطين بلة، انه يتحدث بلكنة راقية ، هل يسخر؟ انغمس الموظف في هذا الفحص الدقيق لأنه كان منزعجا من بن الى حد الغضب. قال بنبرة محتدة " لا يمكن ان تكون في الثامنة عشرة . هيا .. ماهو عمرك الحقيقي؟"
كان بن صامتا، حذرا بكل ذرة في كيانه ، مدركا انه في خطر. تمنى لو لم يأت الى هذا المكان الذي يكاد يطبق بجدرانه عليه. كان يتصنت للاصوات من الخارج، ناشدا طمأنينة الحياة العادية. بعض اليمامات كن يتناغين على شجرة عادية على الرصيف ، وكان معهن ، يتأمل كيف جلسن متشبثات بالاغصان بمخالب وردية كان يشعر كأنها تضغط حول اصبعه، كانت اليمامات سعيدات بالشمس وهي تسطع على ظهورها. هنا في الداخل ، ثمة اصوات لم يكن يفهمها الا بعد ان يفصل احدها عن الاخر. في هذه الاثناء كان الشاب امامه ينتظر، يحرك بين أصابعه قلمه الجاف . رن جرس تليفون الى جانبه. حوله كان العديد من الشبان والشابات يجلسون خلف الزجاج. البعض منهم يستخدم ادوات تطقطق و تهتز ، وبعضهم يحدق في شاشات تظهر وتختفي عليها الكلمات . كان بن يعرف ان هذه الآلات الضاجة قد تخفي عداء له. تحرك الآن بخفة الى احد الجوانب ليتخلص من انعكساسات الزجاج التي كانت تزعجه، وتمنعه من رؤية هذا الشخص الغاضب منه، بوضوح.
قال:"نعم . انا في الثامنة عشرة"
كان متأكدا من هذا. حين ذهب للبحث عن امه – قبل ثلاثة شتاءات – ولم يطل المقام لأن اخاه المقيت بول كان قد جاء – كتبت له بكلمات كبيرة على قطعة ورق مقوى:
اسمك بن لوفات
اسم امك هاريت لوفات
اسم ابيك ديفد لوفات
لديك اربعة اخوة واخوات : لوك وهيلين ، وجين وبول. كلهم اكبر منك.
عمرك خمسة عشر عاما.
على الوجه الاخر للورقة كتبت :
- ولدت في ...
- عنوان بيتك هو ...
كانت هذه الورقة قد اصابت بن بعاصفة من الغضب اليائس حتى انه حين اخذها من امه ، وركض خارج المنزل، شخبط اولا على اسم بول ثم أسماء بقية اخوانه، ثم سقطت الورقة على الارض وحين التقطها شخبط على وجهها الاخر بقلمه الجاف الاسود طامسا كل الكلمات حتى لم يعد عليها سوى فوضى كبيرة من الخطوط المتشابكة.
ذلك الرقم ، خمسة عشر، ظل يقفز ردا على اسئلة – كان يشعر – انها تلقى امامه ."كم عمرك؟" وبإدراكه بأهمية الرقم ، ظل يتذكره، وحين كانت السنة تبدأ جديدة عند الكريسماس، وهو ما لا يمكن لأحد ان يخطئه، كان يضيف سنة الى عمره. الان انا في السادسة عشرة، الان في السابعة عشرة . الان ، لأن شتاءا آخر قد مر، انا في الثامنة عشرة.
"حسنا ، متى ولدت ؟"
في كل يوم منذ شخبط بذلك القلم الاسود الغاضب على كل الكلمات في الورقة المقوى ، بدأ يفهم اية غلطة ارتكبها. وكان قد اتلف الورقة كلها ، في نوبة غضب جامحة ، لأنها لم تعد ذات قيمة . كان يعرف اسمه ويعرف "هاريت" و "ديفد" ولم يكن يهتم بإخوانه وأخواته الذين كانوا يتمنون موته.
لا يتذكر متى ولد.
وهو يتصنت كما يفعل لكل صوت ، سمع الاصوات تعلو فجأة في المكتب ، كان يقف في طابور الناس المنتظرين خارج احد الواجهات الزجاجية ، بدأت إمراة في الصراخ على الموظف الذي كان يكتب لها استمارة، وبسبب هذا الغضب النافث في الهواء ، أخذت كل الطوابير تتحرك وتتداخل وكان أناس آخرون يتمتمون ثم بصوت أعلى يطلقون بما يشبه النباح، كلمات غاضبة قصيرة مثل "ابناء الحرام" و "اللعنة" – وهذه كلمات يعرفها بن جيدا ويخافها. شعر بقشعريرة خوف تنزلق من أعلى رقبته الى عموده الفقري.
أبدى الرجل الذي خلفه نفاد صبر قائلا" لا أملك اليوم كله اذا كنت تملكه"
"متى ولدت ؟ ماهو التاريخ؟"
قال بن"لا أعرف" .
وهنا وضع الموظف حدا لهذا ، مؤجلا المشكلة بقوله "اذهب وجد شهادة ميلادك . اذهب الى مكتب السجلات المدنية . هذا سوف ينهي المسألة . لا تعرف رب عملك السابق، لا تعرف عنوانك . لا تعرف تاريخ ميلادك"
بهذه الكلمات ، انتقلت عيناه عن وجه بن وأشار برأسه للرجل الواقف خلفه ليتقدم و يأخذ مكان بن الذي خرج من المكتب شاعرا بأن كل شعر جسده وشعر رأسه قد وقف ، كان محاصرا ومذعورا. في الخارج كان ثمة رصيف ، وناس ، شارع صغير مليء بالسيارات وتحت الشجرة العادية حيث تتحرك اليمامات ، هادلة ، راضية ، كان ثمة مصطبة. جلس على احد طرفيها وفي الطرف الثاني كانت أمرأة شابة ألقت عليه نظرة سريعة ثم اخرى ، عبست ، وغادرت المكان وهي تنظر وراء ظهرها اليه بتلك النظرة التي يعرفها بن ويتوقعها. لم تكن خائفة منه ولكنها سرعان ما ستكون كذلك . كان جسدها متعجلا و حذرا ، مثل من يهرب، دخلت احد المحلات وهي مازالت تلتفت اليه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق