قصة قصيرة
بثينة الناصري
السلم ، في النهار ، يشبه أي سلم آخر : مثلوم الدرجات ، مقشر الجدران ، لكنه في الليل يطفح بالرطوبة والعفونة اللاذعة والخوف .
امتدت الى برودة الحائط يد راعشة . كان يرتدي سترة فضفاضة وبنطلونا واسعا متهدلا . تأرجحت احدى القدمين في الهواء مترددة ثم هوت على الدرجة الاولى . اتكأ الرجل على الحائط فيما رفع قدمه الاخرى ، لكنها لم تلمس الارض .
وإذ ندت عنه صرخة المفاجأة وإحساس داهم بالخطر ، انزلقت رجله الى هوة .. وقبل ان تجد القاع لطّت حافة السلم ركبته ودوى في رأسه انفجار .. مسح يائسا الارض حوله .. انكسرت ؟
دلّته الرائحة وبرودة السائل الذي راح يسيح على الدرجات فتعثرت يده بكسرة زجاج. كان القعر سالما مايزال يحوي بقية العرق . ضمه اليه ونظر الى السلم . احتار في أن يصعد مجازفا بالخمرة الباقية او يحتسيها توا ؟ تلفت حوله زائغ العينين .. هل يتركونه حتى يشربها .؟
عبّ العرق ثم تناثرت الزجاجة وهي ترتطم بالجدار . لمّ سترته حول جسده فانخمش قلبه للحنان الذي احس به نحو نفسه. وفي غمرة الدفء لم يعد وحيدا . نظر الى فوق.. ماعاد السلم مضنيا .. صارت غرفته أقرب ، وبدا له انه يستطيع النجاة على أية حال.
حين يقترب من باب الغرفة يلقي بثقله عليه فينفتح .. يندفع الى الداخل.. يقف برهة يبحث بسرعة عن مخبأ .. تحت السرير كما اعتاد ان يفعل .. يقرفص هناك .. يسوي اطراف الغطاء ويبلع لهاثه . صار في فضاء معتم .. ينزوي في ركن من السرير كاتما انفاسه ، منصتا لوقع أقدام تصعد السلم .. تتبعه . تدخل الغرفة .. تقف عند السرير .
يكتم انفاسه .. ثم تنشق الظلمة فجأة عن وجه أمه .كان وجها غاضبا قبيحا في غضبه .. تمد يدها عليه .. يزحف بعيدا .. لكنها تمشي اليه على أربع وتنقض حتى يختفي وجهه الصغير تحتها .. ويحس بأسنانها تنغرز في كتفه . يكزّ على شفته لئلا يصرخ .. تغوص أسنانها في كتفه ، وشيئا فشيئا يتخدر لحمه كما يحدث دائما ويعرف عندئذ انه يستطيع ان يتحمل الالم الى مالانهاية.
وقفت المرأة الى جانب سريره . أحس بوجودها فجأة . رأته يحرك يده برخاوة . أراد أن يقول شيئا لكن لسانه كان حجارة ثقيلة .
رأها تجلس دون ان تعبأ به على كرسي قريب وتمد ساقيها الى حافة سريره . مطّت يدها الى المرآة المدورة التي يرى فيها وجهه احيانا.. وبدأت تصلح زينتها . لعقت اصبعا وسوت حاجبيها . كانت تثرثر بأخبار زبائنها ..نزلاء الفندق المستديمين الاخرين .. عرفهم جميعا من خلالها .
جاسم يضاجع مرتين في الزيارة الواحدة .. أبو علي مسافر الى البصرة .. غرفة رقم 2 بها زبون جديد، طالب من الارياف ..
كان ينظر
الى فمها يتحرك .. يفتح .. ويعوج .. اشار اليها بضعف ان تسكت وتتركه في حاله . أدار ظهره وكوّر نفسه في الفراش لاصقا ركبتيه بصدره . قامت اليه المرأة
، دثرته بالغطاء وربتت على مؤخرته وخرجت .
**
مؤخرته مدماة .. حاول ان يخفي ذلك عن امه لكنها صرخت على حين غرة ومزقت عنه الدشداشة واختلط عويلهما.
كانوا اربعة اولاد كبار يلعبون معه . ثم فجأة انقلبت سحناتهم واتحدوا ضده .. كان قد فعل شيئا ما . شتموه ودفعوه دفعا الى زاوية في البستان حيث يلعبون. رأهم يتقدمون نحوه صفا واحدا .. انحصر في الحائط الطيني وتلفت حوله . لم يكن ثمة من مهرب سوى ان ينفذ من بينهم بسرعة .. وكأنهم أحسوا بما نوى فوقفوا متماسكين حتى حجبوا عنه نور الشمس. وبدأ كل منهم يقترح نوع العذاب ولكن اكبرهم والذي مافتيء طوال الوقت يحرك يده داخل بنطلونه ضحك مهتاجا ولفظ كلمة .
وسرعان ماتحول الذين كان يعرفهم الى وحوش .. انتزعوه من الزاوية .. طرحوه أرضا وصلبوه تحت افخاذهم المتوترة . صرخ فكمّ احدهم فمه حتى اختنق ..
دفع اللحاف عن وجهه .. حاول ان ينهض لكنه سقط منهكا .
متى تركته المرأة ؟ نظر الى الباب بقلق . لماذا خرجت اليوم متعجلة على غير عادتها ؟ ربما لم تأت حقيقة ؟ قد يكون حلما آخر ؟ لكنها اعتادت ان تأتي كل اسبوع في اليوم نفسه .. أي يوم هذا ؟ لايمكن ان يكون الخميس لأن الحمام كان مغلقا . واعتادت ان تجعل منه محطة استراحة ريثما تعدل زينتها قبل ان تنتقل من زبون الى آخر .
هل تدبر أمرا ما؟ هل يمكن ان تكون واحدة منهم؟. حين استوعب عقله هذه الفكرة .. فتح عينيه بقوة وشعر ان عليه ان يبقيهما مفتوحتين مهما كلف الامر . كما ان عليه ان يصحو وينهض . هناك أمر يُبيت ضده في هذا الفندق . أحس بذلك منذ وطئت قدماه عتبته . ويجب ان يفعل شيئا قبل فوات الاوان . لم يكن وهما إذن . طالما تصنت في الليالي السابقة الى وقع اقدام خفية تروح وتجيء خارج غرفته .. ربما تتجه نحو بابه الليلة؟
تراخت جفونه قليلا فشدهما بيديه معتصرا صدغيه النابضين بهاجس حارق .. لهذا ارسلوا المرأة في غير موعدها لتتأكد من انه سكران ولا حول له .كم مضى على خروجها ياترى؟ ربما اوصلت النبأ الان .. ولم يبق غير لحظات .. ولكن هل جاءت حقيقة ؟
عذبته شهوة في ان يستسلم لمصيره الذي يتربص به منذ أمد بعيد . يغطي رأسه باللحاف ويهدأ وينتظر . تسارعت دقات قلبه . لكن .. لابد من حل عاجل لورطته لئلا يفاجأ وحيدا أعزلا . أول شيء أن يغادر الفراش . أن يصحو .. يصحو . مد يده الى دورق الماء الموضوع الى جانب السرير ودلق الماء على رأسه .
ساحت البرودة داخل أذنيه وعلى صدره وانسلت قطرات تجري على طول ظهره . كان يرقب بقبقات المطر في حوش الدار .. يحاول ان يجسها بإصبع حرة . يحس بفرح يمطر داخل جلده .. ينط واقفا ويدور حول نفسه رافعا رأسه وذراعيه الى المطر . تنتفخ الدشداشة بالهواء و هو يدور ويدور .. يرفرف بذراعيه كجناحين ويطير ويطير حتى ينقع المطر شعره وتلتصق ملابسه بجسمه الصغير مثل عصفور اغرق ريشه المطر .
وينتفض من لسعة برودة مفاجئة فيركض الى الغرفة .. يلبد قرب "البريمز"* يحتضن جسده المرتعش بذراعيه النحيلتين ورائحة شاي العصر تملأه بالدفء.
من الزاوية البعيدة التي قرفص فيها كان يرى ضوء الممر يترامى على عتبة باب غرفته خافتا تقطعه بين حين وحين ظلال تتحرك . تبطيء . تقف .. تقترب.. تجتمع الظلال .. وتتفرق .. ثم تقترب حتى تحجب ضوء الممر . انهم عند الباب.
استجمع قوته ودون أن يصدر أي صوت بدأ يحبو على أربع حتى وصل الى السرير، وخبطت يداه جيب سترته . أخرج مفكرته وقلمه . اقتطع بضع وريقات وخربش على كل منها كلمة حاول رغم الظلمة وارتعاش يده ان تكون واضحة قدر الامكان . زحف حتى النافذة .. فتحها بما يسمح ليده ان تفلت الاوراق ثم اغلقها بسرعة وانسل عائدا الى زاوية الغرفة .
تحركت أكرة الباب .. لابد ان الاوراق قد سقطت على الارض الان .. تخلخل الباب تحت اكتافهم .. استطاع ان يرى خطا من ضوء الممر على طول حافة الباب . ولكن هل من فرصة في ان تقع الاوراق بيد احد ما ؟
كم بقي من الليل ؟
خارج
النافذة تهاوت اوراق صغيرة لعب الهواء بها
.. بعضها علق في شجرة كاليبتوس وبعضها هبط على الرصيف لحظة مرور الخفير الليلي
الذي التقط الاوراق الساقطة ونظر
فيها وقلبها . ثم استند بظهره الى جدار ،
وأرخى البندقية الى جانبه .. وتفحص الاوراق مرة اخرى .. الكلمة نفسها على مايبدو .. ابتدأ يتهجى .. أ .. ن .. ق ..
ذ.. و .. و.. ني ..وكرر بصوت عال "
أنق ؟" "ذوني ؟" وتنهد وهو يكلم نفسه " كان يجب ان اتعلم
القراءة" ثم كور الاوراق ورماها الى جانب الحائط وامتشق بندقيته وواصل طريقه.
* البريمز –
التسمية العراقية للموقد الصغير النفطي ذي
الفتيلة . ويبدو ان كلمة بريمز كانت الاسم التجاري الاجنبي لهذا النوع من المواقد
وصار اسما معرفا لها .
** نشرت القصة في مجموعة (وطن آخر) القاهرة 1994
الصورة بكاميرتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق