الجمعة، 25 يونيو 2021

فتى السردين المعلب

كتب باء

قصة قصيرة 

بثينة الناصري

حين دفع الرجل الضئيل باب المطعم طرفت عيناه لشدة الضياء فى الداخل وكاد بياض الموائد وبريق الاقداح يعشى بصره فجمد حائرا موزع النفس وفيما هوعلى تلك الحال راى النادل الانيق يتقدم منه بخطوات ثابتة فدب فيه خوف والتفت صوب الباب يغمره احساس بأنه قادر بوثبه سريعة واحدة أن يصل إليها قبل أن يدفعه الرجل دفعا وكان هذا ما يزال يتقدم منه لكنه فى اللحظه التالية تذكر أنه يرتدى البدلة الجديدة التى أشتراها عصر اليوم وانه قد حلق ذقنه ومسد شعره ثم هناك ومد يده بسرعة إلى جيب الستره الداخلى وجس للمرة ألالف حزمة النقود.
 وقف النادل فجأة فتراجع الرجل خطوات لكنه تسمر فى مكانه حين  رأى النادل يفحصه مليا
ثم يبتسم بأدب ويشير إلى مائدة قريبة، أسرع الرجل إليها وارتمى على الكرسى بلهفة وكأنه يخشى أن يبدل احدهم رأيه،  ثم كان يحس بشكل ما،  أنه لو جلس واختفى نصف جسمه على  الأنظار لما ارتاب احد فى أنتمائه إلى مثل  هذه الأمكنه. والأمر يختلف حين تكون واقفا والعيون الفاحصة تعريك من بدلتك الجديدة وقد تنفذ إلى ثيابك الداخلية المقطعة.
ولأول وهلة حار أين يضع يديه وبعد تردد طويل ارتأى أن يسند اليمنى على طرف الكرسى والأخرى يمس بها  ركبته. ومن جلسته المسترخية المتوترة تلك استطاع ان يدير رأسه حوله  ويألف النظر فى الوجوه دون أن يحمر وجهه .
رأى  بضع ياقات منشاة واربطة حريرية  وستر تحيط ابدان اصحابها مثل الخاتم بالاصبع ، ثم نظر الى نفسه : اى شىء فيه يختلف ؟ بل يكاد يقسم انه يحمل من النقود  ومست اصابعه جيب السترة -  اكثر مما لدى اى واحد منهم ... ربما صفرة الوجه تفضحه؟
لكن من يحدس ان الجوع كان السبب؟
وحين وصل الى هذا الحد من التفكير تنفس بارتياح وارخى ساقيه مد يده فى احد جيوبه واختار بمهارة احسن اعقاب السجائر الموجودة فيه لكن ما ان رفعه الى شفتيه حتى انتبه فجأة للعقب المطفأ بين اصابعه فرماه  الى الارض بسرعة  وكأن نارا لذعته .
اخرج من جيب اخر علبة السجائر الاجنبية وكان قد اشتراها لتوه  مزق السيلوفين بهدوء وتناول سيجارة مترفة وضعها بين شفتيه ، وفيما  كان ينفث الدخان بمتعة لم يشعر بها من قبل ، لاحظ لأول مرة ان اللونين الاخضر والبرتقالي يشيعان بإلحاح وأناقة في جدران واثاث المطعم .... حتى منفضة السجاير على مائدته كانت برتقالية وعلى المائدة المجاورة خضراء ....   لابد ان صاحب المطعم قد اختار اسما ملائما لمحله ... ولو كان الاختيار له لسماه الخضرة والبرتقال او ربما شيئا اكثر شاعرية مثل العشب والشمس؟
قطع خياله حضور غريب الى جانبه . رفع رأسه ... كان النادل ينحنى على المائدة يمسك قلما ودفترا ، فاُخذ الرجل على حين غرة ، ولم يدر ما يفعل سوى ان يطفىء السيجارة ويرمى عقبها فى جيبه ....   ولم ينتبه للمعة الغريبة التى انسلت الى عينى النادل ولا ابتسامة الهزء التى ارتسمت على وجهه ولا النبرة الوقحة التي قال بها :
- طلباتك
اذ رد دون اكراث :
-         قائمة الطعام .... من فضلك :
وحين قذفت القائمة امام وجهه شمر عن كمية وفتحها ... طالعته اسماء اجنبية لم تطرق سمعه من قبل وخشى  من السؤال ان يفضحه كما قدر انه لن يستطيع لفظ الكلمات صحيحا .....
وحتى يكون فى الامان وضع القائمة تحت انف النادل واشار الى الاسماء المكتوب امامها أعلى الاسعار.
تردد النادل فى كتابة الطلب وسأل الزبون :
- تريد هذا ... وهذا ؟
واتقلت الحيرة للرجل :
- اه .. اى شىء تقترح انت ؟
- سمك ؟
صرخ الرجل :
- سمك ؟ لا !
واضاف بغضب :
-         يسبب لى حساسية : اتينى بما طلبته.
  اى قدر وضع هذه الكلمة فى فم النادل ؟ اى عذاب ؟ وكان قد عزم اثر ضربة الحظ الاخيرة ان يحذف الكلمة من حياته بعد ان ظل طوال الشهرين الاخيرين لا ياكل غير وجبه واحدة فى اليوم من السردين .... مرة تكون غذاء ومرة عشاء.
وكان ترفا ان يحصل على صنف مغاير لما اكله فى اليوم السابق
ومن رحمه الله ان هناك اصنافا متعددة من السردين بالزيت ، بالطماطم ، بالليمون، بالفلفل وكانت ثيابه القديمة تفوح دوما برائحة السمك حنى عرفته جوقة كلاب الحى  وصار عليه ان يبذل الكثير  لصدها عن السباق للقياه او التعلق باطراف سترته او السير خلفه مسافات طويلة حتى ينال منها التعب او اليأس.
وكم كان ثأره منها اليوم شديدا حين طرق الحى لابسا بدلته الجديدة وما ان هرعت الكلاب لاستقباله كالعادة حتى رمى اليها بثيابه القديمة فهوت عليها نهشا لكنها ما وجدت  غير بقع الزيت تلحسها وفتاحة العلب التى اثارت معركة ضاربة انتهت بعواء حاد وبضعة اسنان مكسورة، وضحكة عميقة لم يستطع ان يكتمها الان وهو يرى اطباقا عامرة توضع فوق مائدته وكالمأخوذ تناول الشوكة والسكين ثم اعادهما  الى المائدة وجلس ينظر حالما مدهوشا.
فى احد الاطباق كانت ثمه قطعة لحم سمينة محمرة يزين حواشيها قضبان من ذهب اصفر
مد اصبعا حذرة ولمسها : كانت ساخنة هشة .......   هل يمكن ان تكون بطاطس؟
لطع اصبعه والتهمت عيناه الطبق الاخر كانت تغطيه شريحة لحم رقيقة ينتشر عليها رذاذ اسمر مع كومة قضبان البطاطس الذهبية ايضا ..... وصحن ثالث مستطيل تطرزه ورود حمراء وخضراء وبيضاء وكم كانت دهشته عظيمة حين تعرف على ورقة خس صغيرة وقطعة خيار وشريحة طماطة ....   وحبات زيتون.
رفع يده ..... حرام ان يختل هذا التشكيل الجميل .... وفى وسط كل هذا تنهض القارورة حملها والرهبة تملا جوانبه... قربها من الكأس فاندلقت حمرة الشفق فيه .
احتوى الكأس بين راحتيه كان مثل كرة بلور ساحرة.
راح يتأمل فيها ايامه فرأى باب الجنه يفتح  ينحنى رضوان ويشير الى اريكة قريبة.
يدخل بين اكوام من الذهب الساخن الهش ترى تحته انهار كوثر.. لاسمك يسبح فيها وانما قطع من اللحم يقطر منها السمن وافخاذ فراخ مشوية .
اعاد البلور الى موضعه فارتجت شمس الغروب فيه .
اطال بصره فى المائدة ثم نادى النادل الذى كان يقف على كثب يترصده:
- اين الحلوى التى طلبتها ؟
- بعد الاكل؟
- اريدها الان .
خففة ناعسة من الكريم والشيكولاتة كانت الحلوى يزينها نثار فستق وكرات من العقيق الاحمر .
دفع كرسيه الى الخلف وامال رأسه وهو يتأمل المائدة بنظرة حالمة عبثت يداه بالشوكة والسكين ثم تركهما تسقطان الى جانبه .
ادرك الان انه لن يستطيع ان يأكل !
غمر رأسه دوار خفيف وخوف لاحد له وهو يحس بقطعة حامضة تطفر من جوفه الى بلعومة اغمض عينيه اذ كان مرأى الاطباق يزيد من غثيانه .
هل هذا ممكن ؟ احس بالرعب يتنامى فى داخله .
دفع طبق اللحم بكوعة وافسح لرأسه مكانا على المائدة.
وحين زكمت رائحة الشواء أنفه عرف انه وصل قمة البؤس وان لاشىء بعد هذا، فانفجر باكيا . وعلا نحيبه ، واهتزاز جسمه حين ادرك بغريزة لا تخطىء انه يوشك ان يصرخ بالنادل ويطلب ... سردينا  .

 ----

* نشرت في مجموعة "موت إله البحر" القاهرة - 1977

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما