العودة إلى بيته
بقلم: بثينة الناصري
حين أتذكر الفرح
الذي كنت احسه وأنا اغادر (المركاز هاكليتا) * حاملا اسما جديدا ومفتاح بيت وحقيبة
صغيرة ، تتبعني يائيل (امرأتي) موردة الخدين، التفت اليها فأرى اللهفة في وجهها
تغطي تعب تلك السنوات. كنت ادعك في كفي خريطة المدينة. اقف بين حين وآخر. اضع
الحقيبة على الارض وأفتح الخريطة . تأتي يائيل قربي. هذا شارع بن يهودا. من هنا
شارع فرعي. لم نخطيء اذن وأطوي الخريطة
”اخيرا بيتنا
!“
حين اتذكر لحظة
وقوفنا مسمرين أمام الباب الخشبية المقوسة والشعور الذي لم نكن نستطيع ان نفصح عنه
. لا اصدق ان ذلك حدث لي (انا دان بن شمت مهندس مدني ومواطن اسرائيلي) بل لشخص آخر
لم أعد أعرفه. ربما يكون اسمه كارل وربما يكون مهاجرا من ألمانيا. كان المفتاح
الذي أخفوه بحرص تحت ثيابي مسودا من القدم . حملته خائفا الى الباب.
انفتح الباب على
ممر مظلم يفوح برائحة غامضة . سرنا متوجسين وهبطنا بضع درجات الى باحة تحيط بها
ابواب مغلقة. طافت برأسي حكايات الجن والبيوت المسكونة . ارتخت ركبتاي وجلست على
الدكة فيما ركضت يائيل نحو الابواب، وقبل ان انتبه كانت قد دفعتها جميعا. لم يكن
خلفها سوى فراغات مظلمة . كان البيت خاليا. رمت يائيل ذراعيها حولي وهي تهتف ”بيتنا“. وبعد ان هدأت مشاعر الفرح والمفاجأة ،
استطعت ان ألم شتات نفسي وانظر حولي – بعين مهندس – كان البيت مغرقا في شرقيته.
ولكن لو وضعنا سورا من الحديد المزخرف حول الباحة . نقطع التينة المزروعة في الوسط
. نوسع المطبخ . ستارة هنا . اصيص لنبات صناعي هناك . كان كل شيء سيمر على مايرام
لو لم أسمع ومامضى اسبوع واحد ، صوت يائيل يناديني من غرفة الجلوس .
- كارل ..اسرع
فحدست أن في الامر شيئا ، اذ كانت يائيل قد تعلمت طوال ستة اشهر قضيناها في المركاز هاكليتا ان تنسى اسمي القديم.
هتفت حين رأتني
وهي تشير الى احد الجدران
-انظر ماذا وجدت !
قربت عيني من
الحائط . كان منقوشا برسوم وخربشات محفورة باصرار وقوة .
سألتها :
- كيف لم نرها من قبل ؟
- كان بعضه مخفيا بظهر الاريكة.
وجه مدور لطفلة
تسبح ظفيرتاها ويداها ورجلاها في الفضاء . كتابة عربية ايضا . شجرة ما . جذورها
اطول من اغصانها ، واسهم معوجة واشارات .. وكتابة عربية ايضا
في البار القريب رآني جاري أضم الى صدري علبة الطلاء ، فحمل كأسه واقترب مني وسألني مشيرا الى العلبة ولما حكيت له القصة قال انه اضطر الى لصق بوسترات دعاية على حيطان بيته .
- فكرة رائعة. ولكن الرسوم عندي في مكان
لايصلح لتعليق بوستر.
وانهمكنا ذلك
المساء في طلاء الحائط . كان السائل الازرق يغرق في الشقوق المحفورة عميقا. تأملت
عملي من بعيد لما انتهيت ثم ناولت يائيل العلبة والفرشاة :
- مارأيك
؟
ردت مرتابة :
- لابأس !
- انتظري حتى تجف .
وفي اليوم
التالي حين بدت الرسوم اكثر وضوحا ونظافة ، قالت يائيل
- لا ادري .. ولكن يبدو لي ان فكرة البوسترات أحسن وأرخص.
قلت باصرار :
نضع طبقة اخرى من الطلاء .
بوستر جنب بوستر
.. (تعال الى اسرائيل .. ارض الاحلام) .. (تطوع في جيش الدفاع الاسرائيلي ) ..
(تريد مزيدا من السعادة ؟ اشرب براندي )
- ايفا !
صرخت وأنا اخلع
بنطلوني في غرفة النوم . جاءني صوتها ممتعضا :
- اسمي يائيل .
- يائيل تعالي. في غرفة النوم ايضا ..
طائرات وصواريخ هذه المرة.
هرعت الي :
- اين؟
اشرت الى الجدار .. طائرات قتال وشموس وكتابات وانقاض . تهاوت ذراعاها بيأس :
- آه .. المخرب !
حلمت تلك الليلة
ان غرفة النوم صارت ساحة حرب . كنت اختبيء خلف الستارة ارقب فزعا طائرات ورقية
تلقي قنابل حارقة بين السرير والارض . لم تكن يائيل معي لكن صراخها كان يملأني
رعبا . وفجأة ..اتجهت احدى الطائرات نحوي . انقضت سريعا على الستارة . كان ذيلها
الورقي يهتز بعنف . اندلعت النار بالستارة فركضت قافزا بين الحفر وانقاض السرير.
وجدت زوجتي مطروحة على الارض . الطائرة تزوم خلفي . لم يكن عندي وقت لانقاذ يائيل
. خرجت من الغرفة باقصى سرعة . أدخل دهليزا طويلا مظلما يملأه هدير طائرات ضخمة .
اركض حتى اهلك . اتكيء على الجدران فتغرق اصابعي في اخاديد محفورة كتابات وخرابيش.
أخيرا ...يلوح
بصيص ضوء من كوة بعيدة . اتحامل على نفسي نحوه.. قبل أن .. اصله .. رأيت ما جمد
الدم في عروقي . لا ادري لم فزعت مع انه كان .. مجرد غلام صغير ، خبيث العينين ،
ينظر الي ويبتسم ابتسامة غامضة .
كان يهبط ببطء .
ظل يهبط
..
حانت التفاتة
مني الى يديه . كان يشد حول اصابعه خيوط طائرات ورقية. أطلقت صرخة رن لها الدهليز
ورجعت على عقبي سريعا .أحسه ورائي يسرع الخطى..
أقع .. انهض ..
اركض .. اتعثر
..
انه خلفي تماما
.. اسمعه يتنفس .. يغمى علي !
- انت تهذي !
- لا .. يائيل .. لا .. هل تسمعين ؟
انصتي ! خطوات خفيفة على السلم .
- لا اسمع شيئا .
- ها ! انها تقترب ..يائيل .. تقترب.
تصعد السلم ..
تهبط السلم
تقترب .. تصل .
ثم حفيف طائرات
ورقية يجول في غرفة النوم .. ولكن أسوأها .. كان صرير قلم خشبي يحفر في الحيطان
صورا وكتابة ، فقد كنت اسمعه في كل الاوقات . في اي مكان من البيت .. حتى سمعته
يائيل ايضا . ولم نجد ايما فائدة في صم آذاننا ، لذا تعلمنا الكلام صراخا لنغطي
على ضجة ااصرير . وأخذنا نقرأ الشعر والمنشورات بأعلى صوت. لكننا في آخر الليل كنا
نحشو آذاننا قطنا وندفن رأسينا بين المخدة والغطاء . والصرير يعلو .. يعلو .. يعلو ..
- دان .. دعنا نغادر البيت .
- إش ش .. اخفضي صوتك !!
- دعنا نغادر يا دان.
- ولكن هذه خيانة. سأفقد عملي وربما ماهو اسوأ .
ولكني كنت سأفقد
عملي على اية حال . فقد جاءني رئيس القسم اليوم ووضع ذراعه على كتفي وقال :
- دان .. لماذا لا تحاول أخذ اجازة ؟
- وماذا افعل بها ؟
- واضح انك في حاجة اليها. عملك لم يعد كما كان والتصاميم التي كنت تبدعها .. صارت .. ماذا اقول ؟ اشبه بخربشات اطفال . بل اني انصحك ان ترى طبيبا . يا دان بن شمت .. ان واجبك كمواطن في الدولة الاسرائيلية ان تحافظ على نفسك .. لن نسمح أن نفقد رجلا صالحا قبل الحرب .
أخذت الاجازة ..
حسنا .. لعلهم يحسبونني مجنونا؟ اسمع اشياء لا وجود لها ؟ ولكن يائيل تسمع ايضا .
لم اقل لهم ذلك طبعا وانسحبت اجر كبريائي. على اية حال .. فعلت ما يجب على كل
اسرائيلي مخلص ان يفعله .. ذهبت مع يائيل الى الطبيب. وفي جلسات متعاقبة .. روينا
ذكريات الطفولة هناك في كولون .. المشاكل الصغيرة . الاحلام .. الكوابيس .أعطانا
حبوبا مهدئة وقال انها مشكلة التاقلم في محيط جديد ، كما اكد لنا ان كل البيوت
القديمة تحدث مثل هذه الاصوات الغامضة .. وانه حتى في بيته يسمع احيانا.
قالت ايفا حين
خرجنا من عنده آخر مرة :
- كارل .. دعنا نتمشى قليلا . لا اريد
العودة الى ذلك البيت الان
دخلنا حديقة صغيرة . انفلت عنها .
- اين ذهبت ياكارل .
عدت اليها :
- كنت ابحث عن وردة .. آسف ياعزيزتي . لم اجد واحدة . هل تذكرين اول يوم رأيتك فيه ؟
- لا بأس .. يكفي انك فكرت في ذلك .. كانت زنبقة بيضاء والحارس هل تذكره ؟ أوه يا كارل ..
- كيف تجرؤ ياسيد ان تقطف زهرة ؟
ضحكت ايفا ضحكة خجولة لم اسمعها من زمن بعيد
- قلت له : انظر ياسيدي الحارس . اما تستأهل حبيبتي ايفا زنبقة صغيرة ؟
التصقت بي ايفا :
- ونظر اليك بجد وقال : بل باقة ورد !
عادت ايفا تضحك
فضممتها قائلا
:
- احب ان أراك تضحكين .
- لكني كنت خائفة حقا .. اعني ذلك اليوم ..
جلنا في الحديقة
صامتين . ثم قالت ايفا :
- لاشك ان فراو شنايدر قد رجعت من السوق
الان
- أوه ايفا .. ما الذي ذكرك بها ؟
- كان هذا وقت رجوعنا من السوق. اتمنى الان لو كنت كتبت لها كما وعدتها . اذكر لحظة الوداع. كانت واقفة على العتبة يحيط بها ترودي وماكس .
ضحكت حين تراءى
لي وجه ماكس الشقي الذي لم نعرف لون عينيه اذ كان شعره الاشقر يغطيها ابدا .
- كانت تضم الى صدرها كلبنا فيكي وآخر
ماقالته "سأسقي الورد دائما ولا تشغلي بالك من ناحية فيكي " هل ترى
ياكارل ؟ قالتها وكأننا سنرجع يوما .
امسكت ذراعها
وقلت بحزم
:
- يجب الا نفكر بهذا الشكل . وحسنا فعلت
انك لم تكتبي لها . اننا نبدأ من جديد .
- لكني لا استطيع ياكارل. لم اقل لك من
قبل .. لكني اشتاق كثيرا .. اشتاق اليهم جميعا . ترودي ..ماكس .. غوستاف القصاب ،
موزع الحليب ، ساعي البريد، فيكي ، حتى قبر أمي .. واسفلت الشارع والبيت الذي
نستطيع ان ندعوه بيتنا .. الورق الاصفر الذي يغطي جدرانه ..
- كفى !
- حتى جرس الباب والمرآة الصغيرة التي
كنت ارى فيها نفسي قبل ان افتح الباب .
- كفى !
- كان بيتنا. لماذا لا نستطيع ان نعود ؟
صفعتها بقوة :
- يائيل اخرسي ..دعينا نرجع الى البيت .
- ذلك البيت !
قالتها بحقد .
انفتح الباب على
الممر المظلم .. فسرنا متوجسين . كان البيت هادئا على غير العادة . انتظرنا .. لكن
الصمت كان ثقيلا هذه المرة .تبادلنا النظرات .. وابتسمنا بارتباك . ثم ذهبت يائيل
الى المطبخ لتعد طعام العشاء فيما جلست في الصالة اقرأ بصمت كتابا. لم اشعر
بالحاجة الى القراءة صراخا فقد كان كل شيء حولي ساكنا . سمعت يائيل تدندن بصوت حذر
. اقترب صوتها ودخلت الغرفة حاملة شرائح اللحم البارد وقطع خبز وقدحي نبيذ . جلسنا
متقابلين ، ولاول مرة احسست بالراحة وكأني ازحت ثقلا كنت احمله .
هتفت يائيل
ضاحكة
:
- آسفة على مابدر مني في الطريق. كنت
سخيفة
.
- لا عليك .. ماذا سماه الطبيب ؟ صعوبة
التأقلم في محيط جديد؟
- أعدك ان أبذل كل جهدي .. أني لا أسمع شيئا الان .
- ولا أنا !
- اني سعيدة يا كارل .
- دان !
- يالغبائي .. آسفة .. دان !
رفعنا كأسينا :
- في صحتنا .
لكن يد يائيل
توقفت في منتصف الطريق الى فمها ونظرت خلف ظهري جازعة ..
- كارل .. أني ارى ..
وسقط الكأس من
يدها
..
التفت سريعا الى
حيث اشارت ..ومنذ تلك اللحظة لم نعد نسمع شيئا .
بدأنا نرى ...!
فحدست أن في الامر شيئا ، اذ كانت يائيل قد تعلمت طوال ستة اشهر قضيناها في المركاز هاكليتا ان تنسى اسمي القديم.
-انظر ماذا وجدت !
- كان بعضه مخفيا بظهر الاريكة.
في البار القريب رآني جاري أضم الى صدري علبة الطلاء ، فحمل كأسه واقترب مني وسألني مشيرا الى العلبة ولما حكيت له القصة قال انه اضطر الى لصق بوسترات دعاية على حيطان بيته .
ردت مرتابة :
- لا ادري .. ولكن يبدو لي ان فكرة البوسترات أحسن وأرخص.
- ايفا !
اشرت الى الجدار .. طائرات قتال وشموس وكتابات وانقاض . تهاوت ذراعاها بيأس :
تقترب .. تصل .
- وماذا افعل بها ؟
- واضح انك في حاجة اليها. عملك لم يعد كما كان والتصاميم التي كنت تبدعها .. صارت .. ماذا اقول ؟ اشبه بخربشات اطفال . بل اني انصحك ان ترى طبيبا . يا دان بن شمت .. ان واجبك كمواطن في الدولة الاسرائيلية ان تحافظ على نفسك .. لن نسمح أن نفقد رجلا صالحا قبل الحرب .
دخلنا حديقة صغيرة . انفلت عنها .
- كنت ابحث عن وردة .. آسف ياعزيزتي . لم اجد واحدة . هل تذكرين اول يوم رأيتك فيه ؟
- لا بأس .. يكفي انك فكرت في ذلك .. كانت زنبقة بيضاء والحارس هل تذكره ؟ أوه يا كارل ..
ضحكت ايفا ضحكة خجولة لم اسمعها من زمن بعيد
- قلت له : انظر ياسيدي الحارس . اما تستأهل حبيبتي ايفا زنبقة صغيرة ؟
التصقت بي ايفا :
- أوه ايفا .. ما الذي ذكرك بها ؟
- كان هذا وقت رجوعنا من السوق. اتمنى الان لو كنت كتبت لها كما وعدتها . اذكر لحظة الوداع. كانت واقفة على العتبة يحيط بها ترودي وماكس .
- كان بيتنا. لماذا لا نستطيع ان نعود ؟
صفعتها بقوة :
- أعدك ان أبذل كل جهدي .. أني لا أسمع شيئا الان .
**
نشرت في مجموعة
(موت إله البحر) – القاهرة – 1977
(*) المركاز هاكليتا – مركز الاستقبال (الاستيعاب) التي يقيم فيها المهاجرون الجدد الى (اسرائيل) حيث يتعلمون اللغة العبرية وشيئا عن تاريخ وجغرافية فلسطين وأساطيرهم ، باختصار مثل مركز لغسيل الدماغ.
لدينا في العراق امثالها كثير في الجنوب والشمال والغرب والشرق
ردحذف