الأربعاء، 6 يناير 2021

موتورسيكل

قصة قصيرة


بثينة الناصري

كنت أستقبل نسيم الليل البارد، بعيني، وأنفي، وشفتي المنفرجتين لهاثا من أثر مشيي الحثيث، حين جاء هذا الموتورسيكل.

منذ نصف ساعة، كنت أمشي بخطوات عسكرية، مفعمة بالحيوية، والقوة .. لم ألتفت يمينا أو يسارا. تجاوزتُ أجساما متلاحقة، متمهلة، مترددة، وأخرى متلاصقة على النواصي. كنت ألمح، في بعض العيون، حين أصطدم بها بشكل خاطف، لمعة سخرية، أو تعاطفا أو دهشة، وأحيانا تفلت جمل أسمع بداياتها، وتضيع نهاياتها، في الفضاء الذي أغادره خلفي، وأنا أغذّ السير إلى الأمام، حين جاء هذا الموتورسيكل.

كنت قد توقفت، قبل قليل،عند أحد المحلات المصطفة على جانب الشارع، وتلكأت، وأنا أشتري قطعة شيكولاتة كبيرة لطفلي الذي تركته في البيت وحيدا.

- لو جلستَ هادئا، ولم تفتح الباب لأحد، لأشتريت لك شيئا تحبه. ما الذي تحبه؟

- شيكولاتة

- لن أتأخر أكثر من نصف ساعة، وسيكون معي، عند رجوعي شيكولاتة كبيرة، ولكن عدني ألا تفتح الباب لأحد، حتى لو كنا نعرفه.

- حتى لو كان عمي؟

- حتى لو كان عمك.

أتذكر الآن وأنا أستعيد هذه المحادثة، على وقع خطواتي المتسارعة، قصة المعزى التي خرجت للسوق، بعد أن حذرت أولادها كثيرا من أن يفتحوا الباب لأحد، لئلا يحتال عليهم الذئب. وقد عصى الأولاد أمهم، وفتحوا الباب، وأوشك الذئب أن يأكلهم..تمضي القصة، ولا أذكر كيف انتهت. تراءى لي وجه طفلي، وشدة شبهه بوالده الذي لم يره أبدا: الشعر الأسود الكثيف، والأذنان، ودوران الوجه . . حتى عينيه. كنت أفكر في عينيه السوداوين الواسعتين . . حين جاء هذا الموتورسيكل.

أحتضن كيس الخبز الذي قطعت كل هذه المسافة لأحظى به، فهو خير مايصلح لشطائر الصباح. ألفها وأدسها في حقيبته، وهو يحملها على ظهره، وعند باب البيت أنتظر معه سيارة المدرسة، ولما تشرق الشمس بعد. تتهادى السيارة قادمة. تتوقف. . يهرع إليها أطفال الحي المنتظرون. أتريث حتى يصعد الجميع، فأتقدم بطفلي، أعينه على إعتلاء السلم ثم ألوح بيدي له، وللاطفال الآخرين، وأرجع إلى البيت بخطى قوية وأبدأ نهاري.

أبطأت في سيري، وأنا أهبط من الرصيف إلى الشارع، لأتفادى مجموعة من الصبيان يتعاركون بشراسة. تنهدتُ وأنا اطرد الوسواس الذي يراودني دائما من أن يعود إبني يوما من المدرسة، مزرقّ الوجه، ممزق القميص، مجروحا، أو فاقدا إحدى عينيه. كنت أفكر في عينيه السوداوين الواسعتين حين جاء هذا الموتورسيكل.

لفتّ عنقي إلى الأولاد الذين ازداد هياجهم، بعد أن سقط أحدهم على الارض، فتكالبوا عليه يضربونه، وأوشكت للحظة أن أعود لأنقذه، من بين أيديهم، لكن خشيتي أن أتأخر دفعتني إلى الإسراع في السير.

إقترب البيت . . بعد العطفة القادمة .

كنت لحظتها أفكر إذا كانت قطعة الجبن الموجودة في . .البيت . . تكفي . . لملء شطائر . . الغد . .

 حين . . جاء . .هذا . .

 **

نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) القاهرة /بغداد 1998

 


هناك تعليقان (2):

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما