الأربعاء، 19 مايو 2021

حجارة البيت

كتب باء

بثينة الناصري

(من قصصي الفلسطينية)

 

الحجارة

كانت حجارة بناء قديمة حوافها مكسرة، مسودة الجوانب، وكانت قد رأت أياما أفضل منذ أن وضعت أول مرة في الزاوية اليمنى، ليرتكز عليها شباك ذلك البيت الجديد، منذ سنوات غائرة في القدم. الشباك يطل على زيتونة وارفة تصطفق بأغصانها رياح  تشرين، وصدى صوت (أبي خليل) وهو يشتغل بهمة:

"ابني يابنّا  

 وعلّي البنيان

وتستاهل يابنّا

 بدلة من الشام"

والعمال يهزجون وراءه.

بعد الإنتهاء من بناء البيت، سكنته الصبية الجميلة وزوجها. وكانا في أمسيات الصيف الرقيقة، يجلسان في الشباك، يطلان على الحقل، وياما استمعت الحجارة إلى صوت الأحلام والأماني. كانت الشمس، إذا غربت، تشع نورا أحمر يلتمع على أوراق الزيتونة البرية، وينعكس على الحجارة مثل وهج النار. وفي يوم أطلت الصبية من الشباك تنتظرعودة زوجها من الحقل، ولكن طال انتظارها. ثم عرفت أنه لن يأتي. بل جاءت المدافع واحترقت الزيتونة واقفة، وطار الشباك وتدحرجت الحجارة إلى الأرض مكسرة في شظايا.

ولكن لم يمض وقت طويل، حتى التقطها رجل جاء في ظلمة الليل، واحتمى في ظل الحائط المهدم. جمع حطبا من أغصان الزيتونة اليابسة، وحوطها بالأحجار، وأشعل نارا تدفئه، ريثما ينظف بندقيته، وهو يترنم بصوت خافت:

"ابني يابنّا وعلّي  البنيان."

الدخيل

عندما ارتفعت الحجارة بيد الولد الفلسطيني، أدرك رامون ليبوفيتش على الجانب الآخر، أنه على وشك الإنتهاء من مهمته. كان ورفيقه يحتميان بإحدى عربات الدورية التي تحيط بالمخيم. لم يكن الجو في برودة شتاء موطنه الأصلي الذي هاجر منه منذ ثلاث سنوات، ولكن رامون أحس بقشعريرة تعتري جسده، وهو يثبت البندقية الآلية على حافة العربة.

بعد أن استطاع رامون ان يفلت من حصار وطنه، هاجر إلى إسرائيل – حلمه البعيد – أما اوري إبن عمه، فقد اتجه إلى الولايات المتحدة، ومن هناك ظل، في باديء الامر، يراسله داعيا إياه للحاق به، ثم انقطعت الرسائل فترة طويلة، وأخيرا بعث يقول، إنه يعد العدة للعودة الى وطنه بولندة.

لم يكن ذلك الخبر مفاجئا له، فمنذ وطئت قدماه هذه الارض الغريبة، وإحساس قوي لا يفارقه بأنه لن يطيل المقام بها.

تحركت عربات الدورية باتجاه المخيم. لاحظ رامون بامتعاض ومضة الترقب التي تلوح في عيني ديفد، كصياد رصد طريدته. كان ديفد أوفر حظا من رامون، فقد استطاع بعد فترة قصيرة من انخراطه في الجيش أن يجد طريقة، لتهريب وبيع سلاح الجيش، لليهود والعرب على السواء. أما رامون، فإنه لم يعرف مايفعله بعد الخروج من مركز الإستيعاب، إلا أن يلتحق بالخدمة العسكرية، حيث يجد المأوى والأكل والإفيون أيضا.

  أمسك بالبندقية بكل قوته، وكأنه يستمد منها العزم، وهو على اية حال لم يحس بالإنتماء في هذه البلاد إلا لها. وبعد شهر، حين يتم تسريحه، لن يستطيع أي يهودي أن ينكر إنه أدى واجبه، وربما يشفع له ذلك، عندما يتهيأ للرجوع إلى وطنه، او أي مكان آخر غير هذا الجحيم. سدد البندقية إلى الفلسطيني، في الوقت الذي انطلقت فيها الحجارة في الهواء. حجارة مجبولة من تراب أحمر بلون الدم، والنار، والأحلام المتقدة .. تلوتْ في الفضاء مثل كرة من لهب، وانقضت على الهدف.

كان آخر ماسمعه رامون رنين خوذته العسكرية لدى اصطدامها بالأرض.

+++

* نشرت القصة في مجموعة (يوميات الكوفي شوب وقصص  اخرى)  الالكترونية 2016

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما