الأحد، 14 مارس 2021

عودة الأسير

 

قصة قصيرة: بثينة الناصري

(مهداة الى اسرى الحروب في كل مكان)

 

قبل كل شيء لم يكن المنزل الذي عاد اليه بيته ولا المرأة زوجته ولا الاولاد ابناءه . أخذته السيارة الى دار ذات طابقين مطلية باللون الابيض تحيطها حديقة واسعة في حي لم يطأه من قبل في اطراف المدينة . في الداخل كانت ثمة امرأة نحيفة تتحرك عروق رقبتها بعصبية وينكمش جبينها بتقطيبة لم تفلح في ازالتها الابتسامة التي غطت وجهها وهي ترحب به . اندفعت نحوه اول ما وضع قدمه داخل الدار ثم بدا وكأن شيئا ما قيد اندفاعتها فتوقفت ومدت له يدها.

أما الاولاد فقد جلسوا مسمرين على الارائك داخل الصالة محرجين ويبدو عليهم الاضطرار لالتزام السكون والادب وكأنهم في حضرة ضيف سيغادر بعد قليل. كان يعرف ثلاثة منهم وان كان عليه الان ان يستعيد اسماءهم ويتأكد من منهم من – اما الرابع اصغرهم فلم يتعرف عليه من قبل ولا يعرف حتى اسمه فقد ترك امه حاملا به قبل عشر سنوات.

ابتدأ التعارف باسئلة عامة منه واجوبة مقتضبة منهم وانتهى الى صمت حرج معلق فوق الرؤوس. سأل المرأة دون ان يستطيع رفع عينيه في وجهها :

- متى اشتريتم المنزل ؟

حتى صوتها تغير ، ازداد خشونة وهي تقول :

- لم نشتره جاهزا . لقد بنيته شبرا شبرا . بعت القديم واقترضت من البنك وقد وقفت بنفسي على العمال . كان وقتا عصيبا مع مسؤولية تربية اربعة اولاد .

قال وهو يتلفت محدقا الجدران والسقف:

- لقد انجزت عملا رائعا .

قالت : وسددت آخر قسط من القرض العام الماضي.

- لم يدر في ذهني ابدا انك قادرة على الوقوف على قدميك . المرأة التي اتذكرها كانت تعتمد عليّ في كل شيء . عندما كنت افكر بكم هناك كان هذا الشعور يعذبني .

- كان وقتا عصيبا وعشر سنوات ليست بالقليلة.

- كلا

- والايام تغير الانسان

- نعم

قالت بحماسة :

- هل تحب ان تتفرج على البيت ؟

- كما تحبين.

**

غرفة النوم لم تتغير. الشيء الوحيد الذي لم يصبه التغيير واحس بالعرفان لها ، فها هو الدولاب ذو الاربعة ابواب ، وتاج الخشب المحفور بالورود والطيور ومنضدة الزينة بالمرآة المربعة التي يتوقف امامها الان فلا يرى الوجه الذي عرفته هذه المرآة منذ عشر سنوات خلت. لقد ازداد نحافة وبرزت عظام وجهه وابيض الشعر وانحنت الكتفان بهمّ يضيف سنوات زائفة الى عمره الحقيقي.

عندما حان وقت النوم ، كان السرير هو نفسه الذي ضم احلامهما معا في الماضي من زمانهما والذي طالما حلم ان يعود للنوم عليه ولكن الرجل والمرأة كانا غريبين . حاذر ان يمس جسدها وهو يغرق في جانبه من الفراش الوثير واحس بها تنكمش بعيدا. حدق في سقف الغرفة يضيئه شعاع القمر المترامي عبر الشباك وراحت افكاره تسبح آلاف الاميال – تعبر الحدود الى معسكر الاسر . رأى وجوه من بقي من رفاقه.

تخيلهم يفترشون الارض غارقين في نوم ثقيل بعد عناء اليقظة ترف على محياهم ابتسامات خاطفة وهم يحلمون بالعودة الى البيت . تصطك الابواب الحديدية فجأة ويصرخ بهم الحراس بخشونة (انهضوا) .

ينتبهون من احلامهم ليجدوا انفسهم يدفعون بعصى غليظة الى باحة المعسكر . يقعي في الطابور الطويل ويداه اعلى رأسه . يتمشى بينهم ضابط لم يتبين وجهه . كان يتحدث برتابة (لقد تخلى عنكم وطنكم . انكم هنا معنا الى ان تتعفنوا ) تزداد اشعة الشمس لهيبا . يحس بتشنج ذراعيه وساقيه وجفاف حلقه وانه لن يستطيع التحمل لحظة واحدة بعد الان . يقع على الارض ، يتكالب عليه الحراس بالعصي ويسحب على الارض من يديه حتى تكادان تنخلعان ، يفتح باب زنزانة صغيرة مثل القبر ويرمى بها وتغلق الباب باصطفاق يرن في دماغه. يرفع رأسه – يجد ان سقف الزنزانة لا يسمح الا بأن يجلس مطويا . يتكور في الظلمة وهو يئن انينا متواصلا مثل حيوان جريح.

يسمع اسمه يتردد باصرار ، يفتح عينيه على سعتهما في الظلام – ثم فجأة يغمر نور باهر المكان فيغمض جفنيه تألما:

- هل انت على مايرام ؟

- ماذا حدث ؟

- لقد كنت تئن

- كنت احلم .

يحرك لسانا جافا في فمه وهو يضيف:

- هل يمكن ان اشرب؟

تأتي له المرأة بقدح ماء يعبه بلهفة .. ثم يستند على ظهر السرير . لم يعد يشعر بالرغبة في النوم .

- هل تتصورين ؟ كنت هناك احلم كل ليلة بالبيت والان وانا في البيت وعلى سريري احلم بالمعسكر. يبدو ان العذاب لم ينته بعد.

- اذا كنت تريد ان تتحدث فإني مصغية

- كنت اريد ان اسألك لماذا لم تبعثي لي بطاقة او رسالة طوال هذه السنوات ؟

- لم نكن نعرف انك على قيد الحياة

- لماذا لم تحاولي ان تعرفي عن طريق الصليب الاحمر كما يفعل الجميع ؟

- لقد حاولت في البداية وقيل لي ان اسمك لم يكن مسجلا لديهم .

قال بحدة :

- لو كنت بذلت جهدا اكبر لعرفت طريقي ولكنكم تخليتم عني.

ارتفع صوتها وهي تقول:

- ليس لك ان تلومني . كان ظرفا عصبيا وكان عندي من الهموم مايكفيني .. وقد اعتبرك الجميع مفقودا.

- من الواضح ان ظهوري مرة اخرى غير مرغوب فيه . فها انت ترفعين صوتك علي والاولاد لا يعرفونني ، فلم يكن عندك وقت لتحدثيهم عني . كنت مشغولة ببناء البيوت. ماذا كان يعيب بيتنا القديم ؟

نهضت من السرير وهي تقول بحزم :

- لن ارد عليك .

وغادرت الغرفة وهي تصفق الباب بشدة.

تلفت حوله مثل حبيس شاعرا ان الجدران تضيق والسقف يهبط حتى لا يستطيع ان يرفع رأسه ، فيكور جسده على السرير وقد ملأه احساس انه لم يغادر اسره وان كل ماحوله زائف. وكأنه يرى كابوسا لا ينتهي . منزل واسع يكاد يطبق عليه - اولاد غرباء وامرأة لايستطيع ان يمد نحوها اصبعا .

**

انسل مع نور الصباح محاذرا ان يحدث صوتا .. خرج الى الحديقة . هز غصن شجرة قريبة فتناثر الندى على وجهه وملابسه .حانت منه التفاتة الى جانبه فرأى اصغر ابنائه يجلس على السلالم المؤدية الى المنزل . كان يضع رأسه بين كفيه مستغرقا في التفكير أوالتأمل او الحزن . جلس الى جانبه فبدا على الولد كأنه اخذ على حين غرة فابتعد قليلا عن الرجل الذي سأله :

- ماذا تفعل هنا في هذا الوقت المبكر ؟

- افكر

- اليس عليك ان تذهب الى المدرسة ؟

- لا اريد ان اذهب اليوم الى المدرسة

- اذن لا داعي للذهاب الى المدرسة .. انا ايضا اريد ان اجلس مع بضعنا لنتعرف اكثر.

- لكني لا اريد الذهاب لسبب آخر

- لابد انه سبب وجيه . هل لي ان اعرفه ؟

- بسبب صديقي.

- ماذا فعل ؟

- انه جارنا ايضا ولا بد انه عرف برجوعك وسيخبر الجميع في المدرسة بذلك

- وما الضير في ذلك ؟ ما العلاقة بين ان يعلم الجميع برجوعي ورغبتك في الغياب ؟

حنى الولد رأسه وتمتم :

- لأن الجميع يعتقد انك مت شهيدا منذ عشر سنوات.

ألجمته المفاجأة فوجم ، ثم تساءل بعد فترة صمت طويلة :

- هل انت الذي اخبرتهم بذلك ؟ ما الضير ان اكون اسيرا ؟

لزم الولد الصمت .

- هل كنت تفضل ان اكون ميتا؟

اندفع الولد يتكلم بسرعة وقوة وكأنه يكرر درسا محفوظا :

- اصدقائي يقولون ان الشهيد يموت وهو يدافع ، اما الاسير فإنه جبان يستسلم من اجل ان يعيش .

ابتلع ريقه وهو يقول :

- في الحرب الحقيقية الامور ليست دائما على هذا النحو ، فليس كل اسير استسلم لأنه جبان .. فقد يكون هناك خطأ ما في خطة قائده .. او تكون الذخيرة نفدت او ربما بسبب تكاثر الاعداء على غير المتوقع .

هز الولد كتفيه غير آبه وقال :

- كنت اريدك ان تظل شهيدا في عيون اصدقائي .. كيف اريهم وجهي بعد اليوم ؟

- كنت تفضل ان اكون ميتا ؟!

هز رأسه غير مصدق ماسمعته اذناه ، وازداد احساسه بالمرارة واليأس .

هاهو اصغر ابنائه يتمنى ربما في اعماقه لو لم يعد. ان يظل رهن الاسر نسيا منسيا لئلا تحرجه عودته امام اصدقائه . ماذا عليه ان يفعل ؟ هل يبحث عن حرب يقاتل فيها حتى يقتل ؟ نهض فجأة وكأنه عزم على أمر وصعد السلم الى باب المطبخ فالتقت عيناه بعيني زوجته التي كانت واقفة في الباب وفهم من نظراتها انها استمعت الى المحاورة مما زاد من شعوره بالعار وبأنه غير مرغوب فيه في هذا البيت. اجتاز المطبخ بعزم وثبات الى الصالة ومن هناك ارتقى السلم الى غرفة النوم .

**

نهض من جانب ابنه واتجه الى المطبخ . التقت عيناه بعيني بنظرة بدت لي مليئة باللوم والعتاب ، ثم اخذ طريقه عبر المطبخ الى الصالة وصعد السلم الى غرفة النوم . قلت في نفسي: لندعه يهدأ ويعود الى طبيعته . كان الاولاد قد ذهبوا الى مدارسهم ماعدا الصغير وانهمكت بعدها بتحضير الغداء فلم افطن لشيء غير عادي. حين رجع الاولاد .. هيأنا السفرة لتناول الطعام وجلسنا على المائدة كالعادة ولم نفتقده الا بعد ان قال ابني الكبير:

- اين هو ؟

لم يقل (ابي) فطلبت منه ان يذهب لمناداته . بعد قليل رجع قائلا ان لا أحد يرد من خلف الباب المغلق . عندئذ شعرت بالانزعاج حقا وخطر لي خاطر لا أدري من اين جاء : ان يكون قد فعل بنفسه شيئا ، فإنه منذ ان عاد لم يكن طبيعيا . هرعت اقفز على السلم يتبعني الاولاد. دفعت الباب بقوة لأجد نفسي وسط فراغ الغرفة .

- اين ابوكم يا اولاد ؟

- لعله في الحمام ؟

ذهب احدهم الى الحمام فلم يجده ايضا .

وكررت السؤال :

- اين ابوكم يا اولاد ؟

قال الكبير :

- لقد اختفت حقيبته التي جاء بها .

قال الصغير :

- ربما عاد الى حيث كان ؟

نهره آخر :

- اسكت يا غبي!

**

نهض من جانبي وهو يهز رأسه . كانت امي تقف على باب المطبخ . تزحزت من طريقه فاختفى في الداخل.

وبعد لحظات دخلت وراءه . لم يكن في اي مكان . ذهبت الى غرفتي واخرجت مجلاتي التي قرأتها مرارا وجلست اتصفحها مرة اخرى فلم يكن لدي ما افعله غير ذلك . بعد قليل سمعت صوت اقدام متلصصة على السلم . واربت باب الغرفة واخذت بعين واحدة ارقبه وهو يهبط السلم حاملا حقيبته الصغيرة التي جاء بها البارحة . تلكأ قليلا قرب المطبخ مترددا ثم تسلل خارجا من الباب الخلفي . مشيت وراءه بخفة ملتصقا بالحائط ، ومن فتحة باب الحديقة رأيته يتوقف وسط الدرب متحيرا يتلفت يمينا تارة ويسارا تارة اخرى ثم هز حقيبته وكأنه استقر على رأي وسار يمينا في اتجاه الشارع الرئيسي . تابعته بعيني وهو يبتعد .. ذلك الرجل النحيل ذو الشعر الاشيب والظهر المحنى الذي قدم الينا بالامس وبات الليل في بيتنا وحدثني قليلا هذا الصباح .. تابعته حتى تلاشى في الافق .

---------

كتبت نيسان 1995

نشرت في مجموعة (الطريق الى بغداد) 1995

(الصورة المرفقة: لوحة بعنون (عائد من الموت) للفنان الروسي ايليا ريبين. ذكرتها الروائية لنا عبد الرحمن في نص لها، فوجدتها احسن لوحة معبرة عن هذه القصة.)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما