الخميس، 12 نوفمبر 2020

سبق صحفي

كتب باء

قصة قصيرة: بثينة الناصري


”هل تعتقد ان المنازل تختار ساكنيها؟“ كان محدثى فى العقد الثالث من عمره، نحيفا، قصير القامة، على شىء من الوسامة، تلوح فى فوديه شعرات بيض قبل الاوان. كانت تتربع فى عينيه حكمة من عبر طيش الشباب بسلام، ينغصها قلق تفضحه رعشة خفيفة فى اليدين . كنا غريبين جمعتنا طاولة فارغة فى حانة مكتظة، وكان قد كرع كأسه الثانية حين رمى الي بسؤاله الذى بدا خير سلوى عن ذكريات الصباح المرة.

قلت باهتمام ” لا افهم !“

قرب وجهه منى وحدق فى عينيّ بريبة :

- لا تفهم ؟

هززت كتفي ، ولم اجب .

- معك حق . انها قصة لا تصدق على اية حال .

تيقظ فضولى فجأة فانحنيت نحوه ثم كبحت نفسى فانا اعرف هذا الصنف من الرجال . ما ان يلمس منك اهتماما بأمره حتى ينكمش داخل جلده سادا فى وجهك كل باب . تشاغلت بقدحي أحوله من يد الى يد ، وبزبائن الحانة تلوح وجوههم خلال دخان السجائر ، هزيلة .. صفراء .. وحركة النادل الدؤوب بين البار والمناضد .

- ارويها لك ان كان عندك وقت .

استدرت نحوه متصنعا الدهشة :

- ماذا ؟

- القصة التى حدثت لى ..

- آه .. القصة .. كما تريد .

- ولكن هل تود ان تسمعها ؟

- ليس فى ذهنى شىء معين هذا المساء ولا فى الايام القادمة بعد ان استغنوا عن خدماتى هذا الصباح ولكن هذه قصة اخرى .. حدثنى ...

اعتدل صاحبى واودع الكأس الثالثة جوفه ، ولو لم يكن نظرى مهزوزا بتاثير الخمرة لأقسمت انى لمحت بريق فرح وحشى في عينيه وهو يتامل القدح الفارغ ويتهيأ لرواية قصته .

قال : بعد تخرجى من كلية التجارة كنت اكثر حظا من زملائى فقد كان ثمة عمل ينتظرنى . كان علي ان اتسلم ادارة الفرع الجديد للمطعم الذى انشأه والدى منذ خمسة عشر عاما . كان ابى رجلا عصاميا بدأ من الصفر وكان يحلم بان يمد سلسلة مطاعمه لتغطى كل مناطق العاصمة ، تحمل اسمه فى لافتات عريضة .... وها هو بعد كد عدة سنوات يفتتح فرعه التالى .

تسلمت ادارة المطعم الذى كان منزويا فى شارع جانبى وكنت عند حسن ظن ابى تساعدنى نصائحه وخبراته وما استقر فى ذاكرتى من دروس الجامعة ... بعد وفاته صرت مسؤولا عن الفرعين فاستعنت بصديقين من ايام الكلية اثق بهما واكتفيت بجولات يومية اقوم بها بين المطعمين لأرقب سير العمل ... بعد سنتين وفقنى الله فرفعت لافتة ثالثة ... حينئذ بدات اشعر بالحاجة الى الاستقرار ... واخذت ابحث عن بيت يليق بوضعى الاجتماعى الجديد .

قضيت ثلاثة اشهر ابحث عن بيت اشتريه دون طائل . لا اعنى جدرانا تصد العيون وسقفا يمنع المطر والشمس . لم اكن احلم بمنزل وانما ببيت احسه لى .. دافئا ... آمنا ... ألجه فيضمنى ناعما مثل اغطية الفراش .

رأيت منازل عدة .. واحدا كلما نظرت اليه ازددت نفورا .. كان من تلك الاشكال المزوقة بالف لون ... واخر لا شكل له على الاطلاق ... كتلة رمادية جامدة ... مرة أيقنت انى وجدت ضالتى ... ولكن ما ان دخلته حتى عافته نفسى . كان جثة بلا حياة ... هل تفهم ما اقصد ؟ رأيت ورأيت ... ياما رأيت حتى تعبت عيناى ... ولكن لما انزلقت فى وهدة اليأس وكما يحدث فى الروايات والاحلام فقط ... وجدته .

مرة قرأت قصة رجل رأى فى حلم انه يشترى بيتا معينا لم ير مثله من قبل ومنذ ذلك الحين اصيب الرجل بهوس اقلق راحته واقض مضجعه . ظل يبحث عن منزل احلامه حتى وجد يوما نفسه امامه . ولكنى لم اره فى حلم وانما كنت احدس انى حالما اراه ساعرفه.

× × × ×

كان حديث البناء صغيرا ذا طابقين. تحيط بالطابق العلوى شرفة واسعة، وثمة ثلاث درجات تنتهى الى بابه الخشبى . خيل الي انه يدعونى فاتحا ذراعيه بلهفة تفوق لهفتى ... سرت اليه ماخوذا . ارتقيت الدرجات ولمست الباب ... اخيرا البيت الحلم . ولكن فى غمرة فرحى كيف كان لى ان اعرف انه لم يكن ليرحب بوجودى ؟

× × × ×

نظر الي الرجل بعينين غائمتين وقال :

- تظننى سكرت او بي مس من الجنون ... معك حق ... لقد سكرت . ولكنى أعى ما اقول . انظر ..

وكشف لى عن ندبة تطوق نحره واضاف :

- هذا ما فعله بى ذلك المنزل .!

- استمر ... استمر ...

- حدث ذلك يوم انتقالى الى البيت وكان يساعدنى خادم المكتب وما ان رتبنا كل شىء بهمة وحماس حتى رن جرس التليفون وكان احد الاصدقاء يبارك ويعلن رغبته فى زيارتى مساء اليوم نفسه . دخلت الحمام ووقفت امام المرآة احلق ذقنى ... كنت ادندن باغنية قديمة حين توقفت فجاة اذ شعرت برغبة قاهرة فى ان اذبح نفسى بالموسى ... هكذا ... دون مقدمات احساس طاغ لم افهمه ولم استطع ان اقاومه . سقطت على الارض صارخا وهرع الى الخادم واحمد الله انه كان معى ، وبت تلك الليلة فى المستشفى بين الموت والحياة .

حين افقت لم استطع تفسير الحادث ... فلم يكن هناك مبرر لأن يحدث ما حدث ... لابد ان دوارا اصابنى ساعتها وانزلق الموسى من يدى الى نحرى ... هذا ما قيل لى وصدقته . فكيف لى ان اعرف ان المنزل ما كان يرغب بوجودى ؟

فى المرة الثانية ابتدأت أعى المسائل بشكل افضل ... كنت واقفا فى الشرفة الواسعة فى الطابق الثانى مطلا على الحديقة ارقب البستانى وهو يزرع حوض ورد .. حين هتف بى هاجس ان اقذف بنفسى من الشرفة . لم استسلم هذه المرة . تشبثت بالعمود القريب لئلا اطاوع هاجسى .. وكان عذابا لا يوصف كأنّ ريحا عاصفا تحاول انتزاعك من اخر قشة تتمسك بها .. انزلقت الى ارض الشرفة وانا ما ازال محتضنا العمود ثم زحفت على اربع حتى خرجت من الباب الى الصالة ثم هرعت هابطا السلم الى الحديقة .. وما ان وجدت نفسى خارج المكان حتى زال مثل السحر ذلك الهاجس المرعب بتدمير نفسى ، وعدت ذلك الرجل خالى البال الذى كنته قبل ان ادخل المنزل . عندئذ فقط طرأ على ذهنى هذا الخاطر .. ان المكان لا يرحب بوجودى .. ابتدات استرجع ذاكرتى .. وفهمت لماذا كنت احس بالكآبة كلما دخلت المنزل ولماذا كانت تراودنى افكار غريبة طوال وجودى تحت سقفه .

رفعت يدي اشير اليه ان يصمت ريثما اطرح سؤالا طرأ على ذهنى :

- الم تفكر فى الانتقال وتريح نفسك ؟

اعتدل محدثى وقال ببطء :

- انتقل ؟ انك لا تعرفنى . لست انا الذى يهرب من المواجهة . لقد قبلت التحدى .. وشىء اخر .. لا اعرف كيف اشرحه لك. ستظننى ساذجا ... لكنى كنت احس اننى قد ارتبطت بالمنزل ارتباطا مصيريا .. فكرت بأن صمودى سيجعله يذعن فى النهاية ويقبلنى .

كان على ان اكون حذرا وانا اراوغه قائلا :

- اسمع . ان قصتك غريبة فعلا : وانا لا اريد أن ابدو متطفلا او متشككا : ولكن هل يمكن ان .. اقصد هل تسمح ان اذهب معك الى البيت لبضع دقائق ؟

- هه ! انك لا تصدق قصتى !

ماذا كان يمكن ان اقول له ؟ هل اقول انى وجدت فى محنته .. حقيقة كانت ام وهما ، فرصة رائعة لكتابة تحقيق صحفى مشوق ربما يعيد الي عملى فى الجريدة ؟ هل استطيع ان اقول له دون ان اخدش مشاعره انى اتصور من الان العناوين بالخط العريض ؟ ولكنى مع ذلك قلت :

- اصدقك القول ان القصة مذهلة وقد اثارت فضولى الصحفى وارجو ان تسمح لى فقط برؤية مكان الوقائع .

هز كتفيه وهو ينهض متحاملا على نفسه وهو يقول :

- تعال .. انى احوج المخلوقات الى الصحبة .. هذه الليلة .

دفعنا الحساب وغادرنا الحانة وقد ارتفق ذراعى . ونحن نستقبل الشارع، احسست بلسع برودة الليل يسرى فى جسدى .

×××××

كان المكان يبدو فى الظلام كتلة مرعبة سوداء .. فتح الرجل مزلاج الباب الخارجى وجسنا فى الحديقة المنسقة حتى وصلنا الدرجات الثلاث التى تؤدى الى المدخل . افلت صاحبى ذراعي وتقدمنى وخيل الى انه دفع الباب بلمسة خفيفة فانفتح .. اضاء نورا خافتا والتفت الي :

- ما رايك بالبيت ؟

- حتى الان لا احس بشىء غير عادى .

ضحك مضيفى ضحكة خفيفة وقال بنعومة ..

- هل نجرب الشرفة ؟

**

فى الصحيفة المسائية فى اليوم التالى ظهر الخبر مقتضبا ..

( انتحر ليلة امس صحفى شاب بسبب فصله من عمله فى صحيفة معروفة بان ألقى بنفسه من شرفة الطابق الثانى بمنزل مهجور . وقد تبين من إفادة البستانى الذى عثر على الجثة صباح هذا اليوم بأن المنزل لم يدخله احد منذ وفاة صاحبه بسقوطه من الشرفة نفسها قبل خمس سنوات ) .

___

+ نشرت في مجموعة "الطريق الى بغداد" 1998

تم تحويل هذه القصة الى فيلم روائي قصير من اخراج : بيتر فؤاد عام 2018 سيناريو بثينة الناصري وهذا رابط الاعلان الترويجي للفيلم (تريلر).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة خلال 30 يوما